وقد ذكر أهل التفسير أن " ما كان " في القرآن يأتي على وجهين : الأول : على النفي نحو ما كان لنفس أن تموت إلا بإذن الله [ آل عمران : 145 ] .
والآخر : على معنى النهي نحو ما كان لكم أن تؤذوا رسول الله [ الأحزاب : 53 ] و ما كان للنبي والذين آمنوا أن يستغفروا للمشركين وهذه الآية متضمنة لقطع الموالاة للكفار ، وتحريم الاستغفار لهم ، والدعاء بما لا يجوز لمن كان كافرا ، ولا ينافي هذا ما ثبت عنه - صلى الله عليه وآله وسلم - في الصحيح أنه قال يوم أحد حين كسر [ ص: 603 ] المشركون رباعيته وشجوا وجهه : اللهم اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون ، لأنه يمكن أن يكون ذلك قبل أن يبلغه تحريم الاستغفار للمشركين ، وعلى فرض أنه قد كان بلغه كما يفيده سبب النزول ، فإنه قبل يوم أحد بمدة طويلة ، وسيأتي ، فصدور هذا الاستغفار منه لقومه إنما كان على سبيل الحكاية عمن تقدمه من الأنبياء كما في صحيح مسلم عن عبد الله ، قال : كأني أنظر إلى النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - يحكي نبيا من الأنبياء ضربه قومه وهو يمسح الدم عن وجهه ويقول : رب اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون .
وفي البخاري ، أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم ذكر نبيا قبله شجه قومه ، فجعل النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - يخبر عنه بأنه قال : اللهم اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون .
قوله : من بعد ما تبين لهم أنهم أصحاب الجحيم هذه الجملة تتضمن التعليل للنهي عن الاستغفار .
والمعنى : أن هذا التبين موجب لقطع الموالاة لمن كان هكذا ، وعدم الاعتداد بالقرابة لأنهم ماتوا على الشرك .
وقد قال سبحانه : إن الله لا يغفر أن يشرك به [ النساء : 116 ] فطلب المغفرة لهم في حكم المخالفة لوعد الله ووعيده .
قوله : وما كان استغفار إبراهيم لأبيه الآية : ذكر الله سبحانه السبب في استغفار إبراهيم لأبيه أنه كان لأجل وعد تقدم من إبراهيم لأبيه بالاستغفار له ، ولكنه ترك ذلك وتبرأ منه لما تبين له أنه عدو الله ، وأنه غير مستحق للاستغفار ، وهذا يدل على أنه إنما وعده قبل أن يتبين له أنه من أهل النار ، ومن أعداء الله ، فلا حاجة إلى السؤال الذي يورده كثير من المفسرين أنه كيف خفي ذلك على إبراهيم ، فإنه لم يخف عليه تحريم الاستغفار لمن أصر على الكفر ومات عليه ، وهو لم يعلم ذلك إلا بإخبار الله سبحانه له بأنه عدو الله ، فإن ثبوت هذه العداوة تدل على الكفر ، وكذلك لم يعلم نبينا - صلى الله عليه وآله وسلم - بتحريم ذلك إلا بعد أن أخبره الله بهذه الآية ، وهذا حكم إنما يثبت بالسمع لا بالعقل .
وقيل : المراد من استغفار إبراهيم لأبيه دعاؤه إلى الإسلام ، وهو ضعيف جدا .
وقيل : المراد بالاستغفار في هذه الآية النهي عن الصلاة على جنائز الكفار ، فهو كقوله : ولا تصل على أحد منهم مات أبدا [ التوبة : 84 ] ولا حاجة إلى تفسير الاستغفار بالصلاة ولا ملجئ إلى ذلك ، ثم ختم الله سبحانه هذه الآية بالثناء العظيم على إبراهيم ، فقال : إن إبراهيم لأواه وهو كثير التأوه كما تدل على ذلك صيغة المبالغة .
وقد اختلف أهل العلم في معنى الأواه ، فقال ابن مسعود ، وعبيد بن عمير : إنه الذي يكثر الدعاء .
وقال الحسن وقتادة : إنه الرحيم بعباد الله .
وروي عن ابن عباس : أنه المؤمن بلغة الحبشة .
وقال الكلبي : إنه الذي يذكر الله في الأرض القفر .
وروي مثله عن ابن المسيب ، وقيل : الذي يكثر الذكر لله من غير تقييد ، روي ذلك عن عقبة بن عامر .
وقيل : هو الذي يكثر التلاوة ، حكي ذلك عن ابن عباس .
وقيل : إنه الفقيه ، قاله مجاهد والنخعي .
وقيل : المتضرع الخاضع ، روي ذلك عن عبد الله بن شداد بن الهاد .
وقيل : هو الذي إذا ذكر خطاياه استغفر لها ، روي ذلك عن أبي أيوب .
وقيل : هو الشفيق قاله عبد العزيز بن يحيى .
وقال : إنه المعلم للخير .
وقيل : إنه الراجع عن كل ما يكرهه الله ، قاله عطاء .
والمطابق لمعنى الأواه لغة أن يقال إنه الذي يكثر التأوه من ذنوبه ، فيقول مثلا : آه من ذنوبي آه مما أعاقب به بسببها ونحو ذلك ، وبه قال الفراء ، وهو مروي عن أبي ذر ، ومعنى التأوه هو أن يسمع للصدر صوت من تنفس الصعداء .
قال في الصحاح : وقد أوه الرجل تأويها ، وتأوه تأوها إذا قال أوه ، والاسم منه آهة بالمد ، قال :
إذا ما قمت أرحلها بليل تأوه آهة الرجل الحزين
و ( حليم ) الكثير الحلم كما تفيده صيغة المبالغة ، وهو الذي يصفح عن الذنوب ويصبر على الأذى ، وقيل : الذي لا يعاقب أحدا قط إلا في الله .وقد أخرج البخاري ، ومسلم ، وغيرهما ، عن سعيد بن المسيب عن أبيه قال : لما حضرت الوفاة أبا طالب دخل النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - وعنده أبو جهل وعبد الله بن أمية ، فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم : أي عم قل لا إله إلا الله أحاج لك بها عند الله ، فقال أبو جهل وعبد الله بن أمية : يا أبا طالب أترغب عن ملة عبد المطلب ؟ فجعل رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - يعرضها عليه وأبو جهل وعبد الله يعاندانه بتلك المقالة ، فقال أبو طالب آخر ما كلمهم : هو على ملة عبد المطلب ، وأبى أن يقول : لا إله إلا الله ، فقال النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - : لأستغفرن لك ما لم أنه عنك ، فنزلت : ( ما كان للنبي ) الآية وأنزل الله في أبي طالب إنك لا تهدي من أحببت ولكن الله يهدي من يشاء [ القصص : 56 ] .
وأخرج ابن أبي شيبة ، وأحمد ، والترمذي ، وأبو يعلى ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، وأبو الشيخ ، والحاكم وصححه ، وابن مردويه ، والبيهقي في شعب الإيمان ، والضياء في المختارة ، عن علي قال : سمعت رجلا يستغفر لأبويه وهما مشركان ، فقلت : تستغفر لأبويك وهما مشركان ؟ فقال : أولم يستغفر إبراهيم لأبيه ؟ فذكرت ذلك للنبي - صلى الله عليه وآله وسلم - فنزلت : ( ما كان للنبي ) الآية .
وأخرج ابن سعد ، وابن عساكر ، عن علي قال : أخبرت النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - بموت أبي طالب ، فبكى ، فقال : اذهب فغسله وكفنه وواره غفر الله له ورحمه ، ففعلت ، وجعل رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - يستغفر له أياما ولا يخرج من بيته حتى نزل عليه : ( ما كان للنبي ) الآية .
وقد روي كون سبب نزول الآية استغفار النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - لأبي طالب من طرق كثيرة : منها عن محمد بن كعب ، عند ابن أبي حاتم ، وأبي الشيخ ، وهو مرسل .
ومنها عن عمرو بن دينار ، عند ابن جرير ، وهو مرسل أيضا .
ومنها عن سعيد بن المسيب ، عند ابن جرير ، وهو مرسل أيضا .
ومنها عن عمر بن الخطاب ، عند ابن سعد ، وأبي الشيخ وابن عساكر .
ومنها عن الحسن البصري عند ابن عساكر ، وهو مرسل .
وروي أنها نزلت بسبب زيارة النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - لقبر أمه واستغفاره لها ، من طريق ابن عباس ، عند الطبراني وابن مردويه ، ومن طريق ابن مسعود عند ابن أبي حاتم ، والحاكم وابن مردويه ، والبيهقي في الدلائل ، وعن [ ص: 604 ] بريدة عند ابن مردويه ، وما في الصحيحين مقدم على ما لم يكن فيهما على فرض أنه صحيح ، فكيف وهو ضعيف غالبه .
وأخرج ابن المنذر ، عن ابن عباس ، في قوله : وقضى ربك ألا تعبدوا إلا إياه إلى قوله : كما ربياني صغيرا [ الإسراء : 23 - 24 ] قال : ثم استثنى فقال : ( ما كان للنبي ) إلى قوله : إلا عن موعدة وعدها إياه .
وأخرج ابن جرير ، وابن أبي حاتم ، عن قتادة ، في قوله : فلما تبين له أنه عدو لله قال : تبين له حين مات وعلم أن التوبة قد انقطعت منه .
وأخرج الفريابي وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، وأبو الشيخ ، وأبو بكر الشافعي في فوائده ، والضياء في المختارة ، عن ابن عباس ، قال : لم يزل إبراهيم يستغفر لأبيه حتى مات ، فلما مات تبين له أنه عدو الله فتبرأ منه .
وأخرج ابن مردويه ، عن جابر أن رجلا كان يرفع صوته بالذكر ، فقال رجل : لو أن هذا خفض صوته ؟ فقال رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - : دعه فإنه أواه .
وأخرج الطبراني ، وابن مردويه ، عن عقبة بن عامر أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال لرجل يقال له ذو النجادين : إنه أواه ، وذلك أنه كان يكثر ذكر الله بالقرآن والدعاء .
وأخرجه أيضا أحمد ، قال : حدثنا موسى بن لهيعة ، عن الحارث بن يزيد ، عن علي بن رباح ، عن عقبة بن عامر فذكره .
وأخرج ابن جرير ، وابن أبي حاتم ، وأبو الشيخ ، وابن مردويه ، عن عبد الله بن شداد بن الهاد قال : قال رجل : يا رسول الله ما الأواه ؟ قال : الخاشع المتضرع الدعاء .
وهذا إن ثبت وجب المصير إليه وتقديمه على ما ذكره أهل اللغة في معنى الأواه ، وإسناده عند ابن جرير ، هكذا : حدثني المثنى ، حدثني الحجاج بن منهال ، حدثنا عبد الحميد بن بهرام ، حدثنا شهر بن حوشب عن عبد الله بن شداد فذكره .
وأخرج ابن أبي حاتم ، عن ابن عباس ، في قوله : إن إبراهيم لأواه حليم قال : كان من حلمه أنه كان إذا أذاه الرجل من قومه قال له : هداك الله .


