قوله : وقال الملك ائتوني به في الكلام حذف قبل هذا ، والتقدير : فذهب الرسول إلى الملك فأخبره بما أخبره به يوسف من تعبير تلك الرؤيا ، وقال الملك لمن بحضرته ائتوني به : أي بيوسف ، رغب إلى رؤيته ومعرفة حاله بعد أن علم من فضله ما علمه من وصف الرسول له ومن تعبيره لرؤياه فلما جاءه أي يوسف الرسول واستدعاه إلى حضرة الملك وأمره بالخروج من السجن قال جاء إلى يوسف للرسول ارجع إلى ربك أي سيدك فاسأله ما بال النسوة اللاتي قطعن أيديهن أمره بأن يسأل الملك عن ذلك وتوقف عن الخروج من السجن ، ولم يسارع إلى إجابة الملك ، ليظهر للناس براءة ساحته ونزاهة جانبه ، وأنه ظلم بكيد امرأة العزيز ظلما بينا ، ولقد أعطي عليه السلام من الحلم والصبر والأناة ما تضيق الأذهان عن تصوره ، ولهذا ثبت في الصحيح من قوله صلى الله عليه وآله وسلم : يوسف لأجبت الداعي ، يعني الرسول الذي جاء يدعوه إلى الملك . ولو لبثت في السجن ما لبث
قال ابن عطية : هذا الفعل من يوسف أناة وصبرا ، وطلبا لبراءة ساحته ، وذلك أنه خشي أن يخرج وينال من الملك مرتبة ، ويسكت عن أمر ذنبه فيراه الناس بتلك العين يقولون هذا الذي راود امرأة العزيز ، وإنما قال : فاسأله ما بال النسوة وسكت عن امرأة العزيز رعاية لذمام الملك العزيز ، أو خوفا منه من كيدها وعظيم شرها ، وذكر السؤال عن تقطيع الأيدي ولم يذكر مراودتهن له ، تنزها منه عن نسبة ذلك إليهن ، ولذلك لم ينسب المراودة فيما تقدم إلى امرأة العزيز إلا بعد أن رمته بدائها وانسلت .
وقد اكتفى هنا بالإشارة الإجمالية بقوله : إن ربي بكيدهن عليم فجعل علم الله سبحانه بما وقع عليه من الكيد منهن مغنيا عن التصريح .
وجملة قال ما خطبكن إذ راودتن يوسف عن نفسه مستأنفة جواب سؤال مقدر ، كأنه قيل : فماذا قال الملك بعد أن أبلغه الرسول ما قال يوسف ، والخطب : الشأن العظيم الذي يحق له أن يخاطب فيه صاحبه خاصة .
والمعنى : ما شأنكن إذ راودتن يوسف عن نفسه .
وقد تقدم معنى المراودة ، وإنما نسب إليهن المراودة ، لأن كل واحدة منهن وقع منها ذلك كما تقدم ، ومن جملة من شمله خطاب الملك امرأة العزيز ، أو أراد بنسبة ذلك إليهن وقوعه منهن في الجملة كما كان من امرأة العزيز تحاشيا عن التصريح منه بنسبة ذلك إليها لكونها امرأة وزيره وهو [ ص: 701 ] العزيز : فأجبن عليه بقولهن قلن حاش لله أي معاذ الله ما علمنا عليه من سوء أي من أمر سيء ينسب إليه .
فعند ذلك امرأة العزيز قالت منزهة لجانبه مقرة على نفسها بالمراودة له : الآن حصحص الحق أي تبين وظهر .
وأصله حص ، فقيل حصحص كما قيل في كبوا كبكبوا ، قاله وأصل الحص ، استئصال الشيء . الزجاج ،
يقال حص شعره : إذا استأصله .
ومنه قول أبي قيس بن الأسلت :
قد حصت البيضة رأسي فما أطعم نوما غير تهجاع
والمعنى أنه انقطع الحق عن الباطل بظهوره وبيانه .ومنه :
فمن مبلغ عني خداشا فإنه كذوب إذا ما حصحص الحق ظالم
قال الخليل : معناه ظهر الحق بعد خفائه ، ثم أوضحت ذلك بقولها أنا راودته عن نفسه ولم تقع منه المراودة لي أصلا وإنه لمن الصادقين فيما قاله من تبرئة نفسه ونسبة المراودة إليها ، وأرادت بالآن زمان تكلمها بهذا الكلام .
ذلك ليعلم أني لم أخنه بالغيب ذهب أكثر المفسرين إلى أن هذا من كلام وقوله : يوسف عليه السلام .
قال الفراء : ولا يبعد وصل كلام إنسان بكلام إنسان آخر إذا دلت القرينة الصارفة لكل منهما إلى ما يليق به .
والإشارة إلى الحادثة الواقعة منه ، وهي تثبته وتأنيه : أي فعلت ذلك ليعلم العزيز أني لم أخنه في أهله بالغيب ، والمعنى بظهر الغيب .
والجار والمجرور في محل نصب على الحال : أي وهو غائب عني ، أو وأنا غائب عنه .
قيل إنه قال ذلك وهو في السجن بعد أن أخبره الرسول بما قالته النسوة .
وما قالته امرأة العزيز ، وقيل إنه قال ذلك وقد صار عند الملك ، والأول أولى .
وذهب الأقلون من المفسرين إلى أن هذا من كلام امرأة العزيز ، والمعنى : ذلك القول الذي قلته في تنزيهه ، والإقرار على نفسي بالمراودة ليعلم يوسف أني لم أخنه فأنسب إليه ما لم يكن منه وهو غائب عني ، أو وأنا غائبة عنه وأن الله لا يهدي كيد الخائنين أي لا يثبته ويسدده ، أو لا يهديهم في كيدهم حتى يوقعوه على وجه يكون له تأثير يثبت به ويدوم وإذا كان من قول يوسف ففيه تعريض بامرأة العزيز حيث وقع منها الكيد له والخيانة لزوجها ، وتعريض بالعزيز حيث ساعدها على حبسه بعد أن علم براءته ونزاهته .
وما أبرئ نفسي إن كان من كلام يوسف فهو من باب الهضم للنفس ، وعدم التزكية بها مع أنه قد علم هو وغيره من الناس أنه بريء وظهر ذلك ظهور الشمس ، وأقرت به المرأة التي ادعت عليه الباطل ، ونزهته النسوة اللاتي قطعن أيديهن ، وإن كان من كلام امرأة العزيز فهو واقع على الحقيقة ، لأنها قد أقرت بالذنب ، واعترفت بالمراودة ، وبالافتراء على يوسف .
وقد قيل إن هذا من قول العزيز وهو بعيد جدا ، ومعناه : وما أبرئ نفسي من سوء الظن بيوسف ، والمساعدة على حبسه بعد أن علمت ببراءته إن النفس لأمارة بالسوء أي إن هذا الجنس من الأنفس البشرية شأنه الأمر بالسوء لميله إلى الشهوات ، وتأثيرها بالطبع ، وصعوبة قهرها ، وكفها عن ذلك إلا ما رحم ربي أي إلا من رحم من النفوس فعصمها عن أن تكون أمارة بالسوء ، أو إلا وقت رحمة ربي وعصمته لها ، وقيل الاستثناء منقطع ، والمعنى : لكن رحمة ربي هي التي تكفها عن أن تكون أمارة بالسوء ، وجملة إن ربي غفور رحيم تعليل لما قبلها : أي إن من شأنه كثرة المغفرة لعباده والرحمة لهم .
وقال الملك ائتوني به أستخلصه لنفسي الملك هو قوله : الريان بن الوليد لا العزيز كما تقدم : ومعنى أستخلصه لنفسي : أجعله خالصا لي دون غيري ، وقد كان قبل ذلك خالصا للعزيز ، والاستخلاص : طلب خلوص الشيء من شوائب الشركة ، قال ذلك لما كان يوسف نفيسا ، وعادة الملوك أن يجعلوا الأشياء النفيسة خالصة لهم دون غيرهم فلما كلمه في الكلام حذف ، وتقديره فأتوه به فلما كلمه : أي فلما كلم الملك يوسف ويحتمل أن يكون المعنى : فلما كلم يوسف الملك .
قيل والأول أولى ، لأن مجالس الملوك لا يتكلم فيها ابتداء إلا هم دون من يدخل عليهم ، وقيل الثاني أولى لقول الملك قال إنك اليوم لدينا مكين أمين فإن هذا يفيد أنه لما تكلم يوسف في مقام الملك جاء بما حببه إلى الملك ، وقربه من قلبه ، فقال له هذه المقالة ، ومعنى مكين : ذو مكانة وأمانة بحيث يتمكن مما يريده من الملك ويأمنه الملك على ما يطلع عليه من أمره ، أو على ما يكله إليه من ذلك .
قيل إنه لما وصل إلى الملك أجلسه على سريره ، وقال له : إني أحب أن أسمع منك تعبير رؤياي ، فعبرها له بأكمل بيان وأتم عبارة ، فلما سمع الملك منه ذلك قال له : إنك اليوم لدينا مكين أمين فلما سمع يوسف منه ذلك .
قال اجعلني على خزائن الأرض أي ولني أمر الأرض التي أمرها إليك وهي أرض مصر ، أو اجعلني على حفظ خزائن الأرض ، وهي الأمكنة التي تخزن فيها الأموال .
طلب يوسف عليه السلام منه ذلك ليتوصل به إلى نشر العدل ورفع الظلم ، ويتوسل به إلى دعاء أهل مصر إلى الإيمان بالله وترك عبادة الأوثان وفيه دليل على أنه يجوز لمن وثق من نفسه إذا دخل في أمر من أمور السلطان أن يرفع منار الحق ويهدم ما أمكنه من الباطل طلب ذلك لنفسه .
ويجوز له أن يصف نفسه بالأوصاف التي لها ترغيبا فيما يرومه ، وتنشيطا لمن يخاطبه من الملوك بإلقاء مقاليد الأمور إليه وجعلها منوطة به ولكنه يعارض هذا الجواز ما ورد عن نبينا صلى الله عليه وآله وسلم من والمنع من تولية من طلبها أو حرص عليها ، والخزائن جمع خزانة ، وهي اسم للمكان الذي يخزن فيه الشيء والحفيظ الذي يحفظ الشيء : أي النهي عن طلب الولاية إني حفيظ لما جعلته إلي من حفظ الأموال لا أخرجها في غير مخارجها ، ولا أصرفها في غير مصارفها عليم بوجود جمعها وتفريقها ومدخلها ومخرجها .
وكذلك مكنا ليوسف أي ومثل ذلك التمكين العجيب مكنا ليوسف في الأرض : أي جعلنا له مكانا ، وهو عبارة عن كمال قدرته ونفوذ أمره ونهيه حتى صار الملك يصدر عن رأيه ، وصار الناس يعملون على أمره ونهيه [ ص: 702 ] يتبوأ منها حيث يشاء أي ينزل منها حيث أراد ويتخذه مباءة ، وهو عبارة عن كمال قدرته كما تقدم ، وكأنه يتصرف في الأرض التي أمرها إلى سلطان مصر كما يتصرف الرجل في منزله .
وقرأ ابن كثير بالنون .
وقد استدل بهذه الآية على أنه يجوز لمن وثق من نفسه بالقيام بالحق . تولي الأعمال من جهة السلطان الجائر بل الكافر
وقد قدمنا الكلام على هذا مستوفى في قوله سبحانه : ولا تركنوا إلى الذين ظلموا هود 113 نصيب برحمتنا من نشاء من العباد فنرحمه في الدنيا بالإحسان إليه والإنعام عليه ، وفي الآخرة بإدخاله الجنة وإنجائه من النار ولا نضيع أجر المحسنين في أعمالهم الحسنة التي هي مطلوب الله منهم : أي لا نضيع ثوابهم فيها ، ومجازاتهم عليها .
ولأجر الآخرة أي أجرهم في الآخرة ، وأضيف الأجر إلى الآخرة للمناسبة ، وأجرهم هو الجزاء الذي يجازيهم الله به فيها ، وهو الجنة التي لا ينفد نعيمها ولا تنقضي مدتها خير للذين آمنوا بالله وكانوا يتقون الوقوع فيما حرمه عليهم ، والمراد بهم المحسنون المتقدم ذكرهم ، وفيه تنبيه على أن الإحسان المعتد به هو الإيمان والتقوى .
وقد أخرج ابن المنذر عن في قوله : ابن عباس ما بال النسوة قال : أراد يوسف العذر قبل أن يخرج من السجن .
وأخرج الفريابي وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ والبيهقي في الشعب عنه قال : لما قالت امرأة العزيز : أنا راودته ، قال يوسف ذلك ليعلم أني لم أخنه بالغيب فغمزه جبريل فقال : ولا حين هممت بها ؟ فقال وما أبرئ نفسي الآية .
وأخرج ابن جرير وابن المنذر عنه أيضا وابن أبي حاتم حصحص الحق قال : تبين .
وأخرج عن ابن جرير مجاهد وقتادة والضحاك وابن زيد والسدي مثله .
وأخرج سعيد بن منصور عن وابن أبي حاتم في قوله : حكيم بن حزام ذلك ليعلم أني لم أخنه بالغيب فقال له جبريل ، ولا حين حللت السراويل ؟ فقال عند ذلك وما أبرئ نفسي .
وأخرج في فتوح ابن عبد الحكم مصر من طريق الكلبي عن أبي صالح عن في قوله : ابن عباس وقال الملك ائتوني به أستخلصه لنفسي قال : فأتاه الرسول فقال : ألق عنك ثياب السجن والبس ثيابا جددا وقم إلى الملك ، فدعا له أهل السجن وهو يومئذ ابن ثلاثين سنة ، فلما أتاه رأى غلاما حدثا ، فقال : أيعلم هذا رؤياي ولا يعلمها السحرة والكهنة ؟ وأقعده قدامه وقال لا تخف .
وألبسه طوقا من ذهب وثياب من حرير ، وأعطاه دابة مسروجة مزينة كدابة الملك ، وضرب الطبل بمصر : إن يوسف خليفة الملك .
وأخرج سعيد بن منصور وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن قال : قال الملك ابن عباس ليوسف : إني أحب أن تخالطني في كل شيء إلا في أهلي ، وأنا آنف أن تأكل معي ، فغضب يوسف وقال : أنا أحق أن آنف ، أنا ابن إبراهيم خليل الله ، وأنا ابن إسحاق ذبيح الله ، وأنا ابن يعقوب نبي الله .
وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن شيبة بن نعامة الضبي في قوله : اجعلني على خزائن الأرض يقول على جميع الطعام إني حفيظ لما استودعتني عليم بسني المجاعة .
وأخرج ابن جرير عن وابن أبي حاتم ابن زيد في قوله : وكذلك مكنا ليوسف في الأرض قال : ملكناه فيها يكون فيها حيث يشاء من تلك الدنيا يصنع فيها ما يشاء .
وأخرج أبو الشيخ عن أن زيد بن أسلم يوسف تزوج امرأة العزيز فوجدها بكرا ، وكان زوجها عنينا .