مخلف منتصب على أنه مفعول " تحسبن " ، وانتصاب ( رسله ) على أنه مفعول ( وعده ) ، قيل : وذلك على الاتساع ، والمعنى : مخلف رسله وعده .
قال القتيبي : هو من المقدم الذي يوضحه التأخير ، والمؤخر الذي يوضحه التقديم ، وسواء في ذلك مخلف وعده رسله ومخلف رسله وعده ، ومثل ما في الآية قول الشاعر :
ترى الثور فيها مدخل الظل رأسه وسائره باد إلى الشمس أجمع
وقال الزمخشري : قدم الوعد ليعلم أنه لا يخلف الوعد أصلا كقوله : إن الله لا يخلف الميعاد [ آل عمران : 31 ] ثم قال رسله ليؤذن أنه إذا لم يخلف وعده أحدا ، وليس من شأنه إخلاف المواعيد ، فكيف يخلفه رسله الذين هم خيرته وصفوته والمراد بالوعد هنا هو ما وعدهم سبحانه بقوله : إنا لننصر رسلنا [ غافر : 51 ] [ ص: 754 ] و كتب الله لأغلبن أنا ورسلي [ المجادلة : 21 ] وقرئ " مخلف وعده رسله " بجر رسله ونصب وعده .قال الزمخشري : وهذه القراءة في الضعف كمن قرأ : قتل أولادهم شركائهم إن الله عزيز غالب لا يغالبه أحد ذو انتقام ينتقم من أعدائه لأوليائه . والجملة تعليل للنهي ، وقد مر تفسيره في أول آل عمران .
يوم تبدل الأرض غير الأرض قال الزجاج : انتصاب ( يوم ) على البدل من يوم يأتيهم ، أو على الظرف للانتقام . انتهى . ويجوز أن ينتصب بمقدر يدل عليه الكلام ، أي : واذكر أو وارتقب ، والتبديل قد يكون في الذات كما في : بدلت الدراهم دنانير ، وقد يكون في الصفات كما في : بدلت الحلقة خاتما ، والآية تحتمل الأمرين ، وقد قيل : المراد تغير صفاتها ، وبه قال الأكثر ، وقيل : تغير ذاتها ، ومعنى " والسماوات " أي وتبدل السماوات غير السماوات على الاختلاف الذي مر وبرزوا لله الواحد القهار أي برز العباد لله أو الظالمون كما يفيده السياق ، أي : ظهروا من قبورهم ، أو ظهر من أعمالهم ما كانوا يكتمونه ، والتعبير على المستقبل بلفظ الماضي للتنبيه على تحقق وقوعه كما في قوله : ونفخ في الصور [ الكهف : 99 ] ، [ يس : 51 ] و " الواحد القهار " المتفرد بالألوهية الكثير القهر لمن عانده .
وترى المجرمين يومئذ مقرنين في الأصفاد معطوف على " برزوا " أو على " تبدل " ، والمجيء بالمضارع لاستحضار الصورة ، والمجرمون هم المشركون ، و يومئذ يعني يوم القيامة ، و مقرنين أي مشدودين إما بجعل بعضهم مقرونا مع بعض ، أو قرنوا مع الشياطين كما في قوله : نقيض له شيطانا فهو له قرين [ الزخرف : 36 ] أو جعلت أيديهم مقرونة إلى أرجلهم ، والأصفاد : الأغلال والقيود ، والجار والمجرور متعلق بـ مقرنين أو حال من ضميره ، يقال صفدته صفدا ، أي : قيدته ، والاسم الصفد ، فإذا أردت التكثير قلت صفدته .
قال عمرو بن كلثوم :
فآبوا بالنهاب وبالسبايا وأبنا بالملوك مصفدينا
من بين مأسور يشد صفاده صقر إذا لاقى الكريهة حامي
ولم أعرض أبيت اللعن بالصفد
سرابيلهم من قطران السرابيل : القمص ، واحدها سربال ، ومنه قول كعب بن مالك :تلقاكم عصب حول النبي لهم من نسج داود في الهيجا سرابيل
وقال جماعة : هو النحاس ، أي : قمصانهم من نحاس .
وقرأ عيسى بن عمر " من قطران " بفتح القاف وتسكين الطاء .
وقرئ بكسر القاف وسكون الطاء ، وقرئ بفتح القاف والطاء ، رويت هذه القراءة عن ابن عباس وأبي هريرة وعكرمة وسعيد بن جبير ويعقوب ، وهذه الجملة في محل نصب على الحال وتغشى وجوههم النار أي تعلو وجوههم وتضربها ، وخص الوجوه لأنها أشرف ما في البدن ، وفيها الحواس المدركة ، والجملة في محل نصب على الحال أيضا .
و ( ليجزي الله ) متعلق بمحذوف ، أي : يفعل ذلك بهم ليجزي كل نفس ما كسبت من المعاصي ، أي : جزاء موافقا لما كسبت من خير أو شر إن الله سريع الحساب لا يشغله عنه شيء .
وقد تقدم تفسيره .
( هذا بلاغ ) أي هذا الذي أنزل إليك بلاغ ، أي : تبليغ وكفاية في الموعظة والتذكير .
قيل : إن الإشارة إلى ما ذكره سبحانه هنا من قوله : ولا تحسبن الله غافلا إلى سريع الحساب [ إبراهيم : 42 : 51 ] أي هذا فيه كفاية من غير ما انطوت عليه السورة ، وقيل : الإشارة إلى جميع السورة ، وقيل : إلى القرآن ، ومعنى " للناس " للكفار ، أو لجميع الناس على ما قيل في قوله : وأنذر الناس [ إبراهيم : 44 ] ( ولينذروا به ) معطوف على محذوف ، أي : لينصحوا ولينذروا به ، والمعنى : وليخوفوا به ، وقرئ " ولينذروا " بفتح الياء التحتية والذال المعجمة ، يقال نذرت بالشيء أنذر : إذا علمت به فاستعددت له وليعلموا أنما هو إله واحد أي ليعلموا بالأدلة التكوينية المذكورة سابقا وحدانية الله سبحانه ، وأنه لا شريك له وليذكر أولو الألباب أي : وليتعظ أصحاب العقول ، وهذه اللامات متعلقة بمحذوف ، والتقدير : وكذلك أنزلنا ، أو متعلقة بالبلاغ المذكور ، أي : كفاية لهم في أن ينصحوا وينذروا ويعلموا بما أقام الله من الحجج والبراهين وحدانيته سبحانه وأنه لا شريك له ، وليتعظ بذلك أصحاب العقول التي تعقل وتدرك .
وقد أخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم عن قتادة في قوله : إن الله عزيز ذو انتقام قال : عزيز والله في أمره ، يملي وكيده متين ، ثم إذا انتقم انتقم بقدرة .
وأخرج مسلم وغيره من حديث ثوبان قال : جاء رجل من اليهود إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقال : أين يكون الناس يوم تبدل الأرض غير الأرض ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : في الظلمة دون الجسر .
وأخرج مسلم أيضا وغيره من حديث عائشة .
قالت " أنا أول من سأل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عن هذه الآية يوم تبدل الأرض غير الأرض قلت : أين الناس يومئذ ؟ قال : على الصراط .
وأخرج البزار وابن المنذر والطبراني في الأوسط وابن مردويه والبيهقي في البعث وابن عساكر عن ابن مسعود قال : قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : في قول الله يوم تبدل الأرض غير الأرض قال : أرض بيضاء ، كأنها فضة لم يسفك فيها دم حرام ، ولم يعمل بها خطيئة .
وأخرجه عبد الرزاق وابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والطبراني وأبو الشيخ في العظمة والحاكم وصححه والبيهقي في البعث عنه موقوفا نحوه ، قال البيهقي : الموقوف أصح .
وأخرج ابن جرير وابن مردويه عن زيد بن ثابت قال أتى اليهود النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقال : جاءوني يسألونني وسأخبرهم قبل أن يسألوني يوم تبدل الأرض غير الأرض قال : [ ص: 755 ] أرض بيضاء كالفضة ، فسألهم فقالوا : أرض بيضاء كالنقي .
وأخرج ابن مردويه مرفوعا عن علي نحو ما تقدم عن ابن مسعود .
وأخرج ابن جرير وابن مردويه عن أنس موقوفا نحوه ، وقد روي نحو ذلك عن جماعة من الصحابة ، وثبت في الصحيحين من حديث سهل بن سعد قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول : يحشر الناس يوم القيامة على أرض بيضاء عفراء كقرصة نقي .
وفيهما أيضا من حديث أبي سعيد قال : قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : تكون الأرض يوم القيامة خبزة واحدة يتكفؤها الجبار بيده الحديث .
وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله : مقرنين في الأصفاد قال : الكبول .
وأخرج عبد الرزاق وابن جرير عن قتادة في الأصفاد قال : القيود والأغلال .
وأخرج ابن أبي حاتم عن سعيد بن جبير قال : في السلاسل .
وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس في الأصفاد يقول : في وثاق .
وأخرج ابن أبي حاتم عن السدي سرابيلهم قال : قمصهم .
وأخرج ابن جرير عن ابن زيد مثله .
وأخرج عبد الرزاق وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن الحسن في قوله : من قطران قال : قطران الإبل .
وأخرج ابن أبي حاتم عن عكرمة في الآية قال : هذا القطران يطلى به حتى يشتعل نارا .
وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس قال : هو النحاس المذاب .
وأخرج ابن أبي حاتم عن سعيد بن جبير أنه قرأ من قطران فقال القطر : الصفر ، والآن : الحار .
وأخرج أبو عبيد وسعيد بن منصور وابن جرير وابن المنذر عن عكرمة نحوه .
وأخرج مسلم وغيره عن أبي مالك الأشعري قال : قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم النائحة إذا لم تتب قبل موتها تقام يوم القيامة وعليها سربال من قطران ، ودرع من جرب وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن زيد في قوله : هذا بلاغ للناس قال : القرآن ولينذروا به قال : القرآن .


