قوله : يا يحيى هاهنا حذف ، وتقديره : وقال الله للمولود يا يحيى ، أو فولد له مولود فبلغ المبلغ الذي يجوز أن يخاطب فيه ، فقلنا له : يا يحيى .
وقال الزجاج : المعنى فوهبنا له وقلنا له : يا يحيى .
والمراد بالكتاب التوراة ؛ لأنه المعهود حينئذ ، ويحتمل أن يكون كتابا مختصا به وإن كنا لا نعرفه الآن ، والمراد بالأخذ إما الأخذ الحسي أو الأخذ من حيث المعنى ، وهو القيام بما فيه كما ينبغي ، وذلك بتحصيل ملكة تقتضي سهولة الإقدام على المأمور به ، والإحجام عن المنهي عنه ، ثم أكده بقوله : بقوة أي : بجد وعزيمة واجتهاد وآتيناه الحكم صبيا المراد بالحكم الحكمة ، وهي الفهم للكتاب الذي أمر بأخذه وفهم الأحكام الدينية ، وقيل : هي العلم وحفظه والعمل به ، وقيل : النبوة ، وقيل : العقل ، ولا مانع من أن يكون الحكم صالحا لحمله على جميع ما ذكر . قيل : كان يحيى عند هذا الخطاب له ابن سنتين ، وقيل : ابن ثلاث .
وحنانا من لدنا معطوف على الحكم .
قال جمهور المفسرين : الحنان الرحمة والشفقة والعطف والمحبة ، وأصله توقان النفس ، مأخوذ من حنين الناقة على ولدها .
قال أبو عبيدة : تقول : حنانك يا رب وحنانيك يا رب . بمعنى واحد ، يريد رحمتك . قال طرفة :
أبا منذر أفنيت فاستبق بعضنا حنانيك بعض الشر أهون من بعض
وقال امرؤ القيس :ويمنحها بنو سلخ بن بكر معيزهم حنانك ذا الحنان
قال ابن عطية : والحنان في كلام العرب أيضا ما عظم من الأمور في ذات الله ، ومنه قول زيد بن عمرو بن نفيل ، والله لئن قتلتم هذا العبد لأتخذن قبره حنانا ، يعني بلالا لما مر به وهو يعذب ، وقيل : إن القائل لذلك هو ورقة بن نوفل .
قال الأزهري : معنى ذلك : لأترحمن عليه ، ولأتعطفن عليه ؛ لأنه من أهل الجنة ، ومثله قول الحطيئة :
تحنن علي هداك المليك فإن لكل مقام مقالا
وسلام عليه قال ابن جرير وغيره : معناه : أمان عليه من الله . قال ابن عطية : والأظهر عندي أنها التحية المتعارفة ، فهي أشرف وأنبه من الأمان ؛ لأن الأمان متحصل له بنفي العصيان عنه ، وهو أقل درجاته ، وإنما الشرف في أن يسلم الله عليه ، ومعنى يوم ولد أنه أمن من الشيطان وغيره في ذلك اليوم ، أو أن الله حياه في ذلك اليوم ، وهكذا معنى يوم يموت وهكذا معنى ويوم يبعث حيا قيل : أوحش ما يكون الإنسان في ثلاثة مواطن : يوم ولد ؛ لأنه خرج مما كان فيه ، ويوم يموت ؛ لأنه يرى قوما لم يكن قد عرفهم ، وأحكاما ليس له بها عهد . ويوم يبعث ؛ لأنه يرى هول يوم القيامة . فخص الله سبحانه يحيى بالكرامة والسلامة في المواطن الثلاثة .
وقد أخرج ابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم ، عن مجاهد في قوله : يايحيى خذ الكتاب بقوة قال : بجد وآتيناه الحكم صبيا قال : الفهم . وأخرج ابن أبي حاتم ، عن سعيد بن جبير قال : يقول : اعمل بما فيه من فرائض . وأخرج ابن المنذر ، عن مالك بن دينار قال : اللب . وأخرج أبو نعيم والديلمي وابن مردويه ، عن ابن عباس عن النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - في قوله : وآتيناه الحكم صبيا قال : أعطي الفهم والعبادة وهو ابن سبع سنين . وأخرج عبد الله بن أحمد في زوائد الزهد وابن أبي حاتم ، عن قتادة : بدلة وهو ابن ثلاث سنين .
وأخرج الحاكم في تاريخه من طريق نهشل ، عن الضحاك ، عن ابن عباس قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - : قال الغلمان ليحيى بن زكريا : اذهب بنا نلعب ، فقال يحيى : ما للعب خلقنا ، اذهبوا نصلي فهو قول الله وآتيناه الحكم صبيا .
وأخرج ابن مردويه والبيهقي في الشعب ، عن ابن عباس قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - : من قرأ القرآن قبل أن يحتلم فهو ممن أوتي الحكم صبيا .
وأخرج ابن أبي حاتم ، عن ابن عباس موقوفا . وأخرج عبد الرزاق والفريابي وابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والحاكم وصححه والبيهقي في الأسماء والصفات من طريق عكرمة ، عن ابن عباس في قوله : وحنانا قال : لا أدري ما هو إلا أني أظنه يعطف على عبده بالرحمة ، وقد فسرها جماعة من السلف بالرحمة .
وأخرج ابن أبي حاتم ، عن ابن عباس في قوله : وزكاة قال : بركة ، وفي قوله : وكان تقيا قال : طهر فلم يعمل بذنب .


