لما ذكر الله - سبحانه - حال الكافرين أتبعه بحكاية حال عباده الصالحين ، وجعله من جملة ما يقال : للكفار يومئذ زيادة لحسرتهم ، وتكميلا لجزعهم ، وتتميما لما نزل بهم من البلاء ، وما شاهدوه من الشقاء ، فإذا رأوا ما أعده الله لهم من أنواع العذاب ، وما أعده لأوليائه من أنواع النعيم ، بلغ ذلك من قلوبهم مبلغا عظيما ، وزاد في ضيق صدورهم بزيادة لا يقادر قدرها .
والمعنى إن أصحاب الجنة في ذلك اليوم في شغل بما هم فيه من اللذات التي هي ما لا عين رأت ، ولا أذن سمعت ، ولا خطر على قلب بشر ، عن الاهتمام بأمر الكفار ، ومصيرهم إلى النار ، وإن كانوا من قرابتهم .
والأولى عدم تخصيص الشغل بشيء معين .
وقال قتادة ، ومجاهد : شغلهم ذلك اليوم بافتضاض العذارى . وقال وكيع : شغلهم بالسماع .
وقال ابن كيسان : بزيارة بعضهم بعضا ، وقيل : شغلهم كونهم ذلك اليوم في ضيافة الله .
قرأ الكوفيون ، وابن عامر : شغل بضمتين . وقرأ الباقون بضم الشين وسكون الغين : وهما لغتان كما قال الفراء . وقرأ مجاهد ، وأبو السماك بفتحتين .
وقرأ يزيد النحوي ، وابن هبيرة بفتح الشين وسكون الغين .
وقراءة الجمهور فاكهون بالرفع على أنه خبر إن ، ( وفي شغل ) متعلق به ، أو في محل نصب على الحال : ويجوز أن يكون في محل رفع على أنه خبر إن وفاكهون خبر ثان .
وقرأ الأعمش وطلحة بن مصرف " فاكهين " بالنصب على أنه حال ، ( وفي شغل ) هو الخبر .
وقرأ الحسن ، وأبو جعفر ، وأبو حيوة ، وأبو رجاء ، وشيبة ، وقتادة ، ومجاهد " فكهون " قال الفراء : هما لغتان كالفاره ، والفره ، والحاذر ، والحذر .
وقال الكسائي ، وأبو عبيدة : الفاكه : ذو الفاكهة مثل تامر ، ولابن ، والفكه : المتفكه والمتنعم . وقال قتادة : الفكهون : المعجبون .
وقال أبو زيد : يقال : رجل فكه : إذا كان طيب النفس ضحوكا .
وقال مجاهد ، والضحاك كما قال قتادة .
وقال السدي كما قال الكسائي .
هم وأزواجهم في ظلال على الأرائك متكئون هذه الجملة مستأنفة مسوقة لبيان كيفية شغلهم ، وتفكههم ، وتكميلها بما يزيدهم سرورا ، وبهجة من كون أزواجهم معهم على هذه الصفة من الاتكاء على الأرائك ، فالضمير وهو ( هم ) مبتدأ و ( أزواجهم ) معطوف عليه والخبر ( متكئون ) ، ويجوز أن يكون ( هم ) تأكيدا للضمير في " فاكهون " و ( أزواجهم ) معطوف على ذلك الضمير ، وارتفاع ( متكئون ) على أنه خبر لمبتدأ محذوف ، و ( في ظلال ) متعلق به أو حال ، وكذا ( على الأرائك ) وجوز أبو البقاء أن يكون في ظلال هو الخبر و على الأرائك مستأنف .
قرأ الجمهور في ظلال بكسر الظاء وبالألف وهو جمع ظل . وقرأ ابن مسعود ، وعبد بن عمير ، والأعمش ، ويحيى بن وثاب ، وحمزة ، والكسائي ، وخلف " في ظلل " بضم الظاء من غير ألف جمع ظلة ، وعلى القراءتين فالمراد الفرش ، والستور التي تظللهم كالخيام ، والحجال ، و ( الأرائك ) جمع أريكة ، كسفائن جمع سفينة ، والمراد بها السرر التي في الحجال .
قال أحمد بن يحيى ثعلب : الأريكة لا يكون إلا سريرا في قبة .
وقال مقاتل : إن المراد بالظلال أكنان القصور .
وجملة لهم فيها فاكهة مبينة لما يتمتعون به في الجنة من المآكل والمشارب ونحوها .
والمراد فاكهة كثيرة من كل نوع من أنواع الفواكه ولهم ما يدعون ( ما ) هذه هي الموصولة والعائد محذوف ، أو موصوفة أو مصدرية ، و ( يدعون ) مضارع ادعى .
قال أبو عبيدة : ( يدعون ) يتمنون ، والعرب تقول : ادع علي ما شئت أي : تمن ، وفلان في خير ما يدعي ، أي : ما يتمنى .
وقال الزجاج هو من الدعاء أي : ما يدعونه أهل الجنة يأتيهم ، من دعوت غلامي ، فيكون الافتعال بمعنى الفعل كالاحتمال بمعنى الحمل والارتحال بمعنى الرحل .
وقيل : افتعل بمعنى تفاعل ، أي : ما يتداعونه كقولهم ارتموا ، وتراموا .
وقيل : المعنى : إن من ادعى منهم شيئا فهو له ، لأن الله قد [ ص: 1229 ] طبعهم على أن لا يدعي أحد منهم شيئا إلا وهو يحسن ويجمل به أن يدعيه ، و ( ما ) مبتدأ ، وخبرها ( لهم ) ، والجملة معطوفة على ما قبلها .
وقرئ " يدعون " بالتخفيف ، ومعناها واضح .
قال ابن الأنباري : والوقف على ( يدعون ) وقف حسن .
ثم يبتدئ سلام على معنى : لهم سلام ، وقيل : إن ( سلام ) هو خبر ( ما ) أي : مسلم خالص ، أو ذو سلامة .
وقال الزجاج : ( سلام ) مرفوع على البدل من ( ما ) أي : ولهم أن يسلم الله عليهم ، وهذا منى أهل الجنة ، والأولى أن يحمل قوله : ولهم ما يدعون على العموم ، وهذا السلام يدخل تحته دخولا أوليا ، ولا وجه لقصره على نوع خاص ، وإن كان أشرف أنواعه تحقيقا لمعنى العموم ، ورعاية لما يقتضيه النظم القرآني .
وقيل : إن ( سلام ) مرتفع على أنه خبر لمبتدأ محذوف : أي : سلام يقال لهم قولا وقيل : إن ( سلام ) مبتدأ ، وخبره الناصب ل ( قولا ) أي : سلام يقال لهم قولا ، وقيل : خبره ( من رب رحيم ) ، وقيل : التقدير : سلام عليكم ، هذا على قراءة الجمهور . وقرأ أبي ، وابن مسعود ، وعيسى " سلاما " بالنصب إما على المصدرية ، أو على الحالية بمعنى خالصا ، والسلام : إما من التحية ، أو من السلامة .
وقرأ محمد بن كعب القرظي " سلم " كأنه قال : سلم لهم لا يتنازعون فيه ، وانتصاب ( قولا ) على المصدرية بفعل محذوف على معنى : قال الله لهم ذلك قولا ، أو يقوله لهم قولا ، أو يقال لهم قولا : من رب رحيم أي : من جهته ، قيل : يرسل الله سحابة إليهم بالسلام .
وقال مقاتل : إن الملائكة تدخل على أهل الجنة من كل باب يقولون : سلام عليكم يا أهل الجنة من رب رحيم .
وامتازوا اليوم أيها المجرمون هو على إضمار القول مقابل ما قيل للمؤمنين أي : ويقال للمجرمين : امتازوا ، أي : انعزلوا ، من مازه غيره ، يقال : مزت الشيء من الشيء : إذا عزلته عنه ونحيته .
قال مقاتل : معناه اعتزلوا اليوم : يعني في الآخرة ، من الصالحين . وقال السدي : كونوا على حدة . وقال الزجاج : انفردوا عن المؤمنين . وقال قتادة : عزلوا عن كل خير . وقال الضحاك : يمتاز المجرمون بعضهم من بعض ، فيمتاز اليهود فرقة ، والنصارى فرقة ، والمجوس فرقة ، والصابئون فرقة ، وعبدة الأوثان فرقة .
وقال داود بن الجراح : يمتاز المسلمون من المجرمين إلا أصحاب الأهواء ، فإنهم يكونون مع المجرمين .
ثم وبخهم الله - سبحانه - وقرعهم بقوله : ألم أعهد إليكم يابني آدم أن لا تعبدوا الشيطان وهذا من جملة ما يقال لهم .
والعهد الوصية أي : ألم أوصكم ، وأبلغكم على ألسن رسلي أن لا تعبدوا الشيطان ، أي : لا تطيعوه .
قال الزجاج : المعنى ألم أتقدم إليكم على لسان الرسل يا بني آدم . وقال مقاتل : يعني الذين أمروا بالاعتزال . قال الكسائي : لا للنهي ، وقيل : المراد بالعهد هنا : الميثاق المأخوذ عليهم حين أخرجوا من ظهر آدم ، وقيل : هو ما نصبه الله لهم من الدلائل العقلية التي في سماواته وأرضه وجملة إنه لكم عدو مبين تعليل لما قبلها من النهي عن طاعة الشيطان ، وقبول وسوسته ، وجملة وأن اعبدوني عطف على ( أن لا تعبدوا ) ، و ( أن ) في الموضعين : هي المفسرة للعهد الذي فيه معنى القول ، ويجوز أن تكون مصدرية فيهما أي : لم أعهد إليكم بأن لا تعبدوا بأن اعبدوني ، أو ألم أعهد إليكم في ترك عبادة الشيطان وفي عبادتي هذا صراط مستقيم أي : عبادة الله وتوحيده ، أو الإشارة إلى دين الإسلام .
ثم ذكر - سبحانه - عداوة الشيطان لبني آدم فقال : ولقد أضل منكم جبلا كثيرا اللام هي الموطئة للقسم ، والجملة مستأنفة للتقريع والتوبيخ أي : والله لقد أضل إلخ .
قرأ نافع وعاصم جبلا بكسر الجيم والباء وتشديد اللام وقرأ ابن أبي إسحاق ، والزهري ، وابن هرمز بضمتين مع تشديد اللام ، وكذلك قرأ الحسن ، وعيسى بن عمر ، والنضر بن أنس .
وقرأ أبو يحيى ، وحماد بن سلمة ، والأشهب العقيلي بكسر الجيم وإسكان الباء وتخفيف اللام . قال النحاس : وأبينها القراءة الأولى .
والدليل على ذلك أنهم قد قرءوا جميعا : والجبلة الأولين بكسر الجيم والباء وتشديد اللام .
فيكون ( جبلا ) جمع : جبلة ، واشتقاق الكل من جبل الله الخلق أي : خلقهم ، ومعنى الآية : أن الشيطان قد أغوى خلقا كثيرا كما قال مجاهد .
وقال قتادة : جموعا كثيرة ، وقال الكلبي : أمما كثيرة .
قال الثعلبي : والقراءات كلها بمعنى الخلق ، وقرئ " جيلا " بالجيم والياء التحتية .
قال الضحاك : الجيل الواحد عشرة آلاف ، والكثير ما لا يحصيه إلا الله - عز وجل - ، ورويت هذه القراءة عن علي بن أبي طالب .
والهمزة في قوله : أفلم تكونوا تعقلون للتقريع ، والتوبيخ ، والفاء للعطف على مقدر يقتضيه المقام كما تقدم في نظائره أي : أتشاهدون آثار العقوبات ، أفلم تكونوا تعقلون ، أو أفلم تكونوا تعقلون عداوة الشيطان لكم ، أو أفلم تكونوا تعقلون شيئا أصلا قرأ الجمهور أفلم تكونوا تعقلون بالخطاب . وقرأ طلحة وعيسى بالغيبة .
هذه جهنم التي كنتم توعدون أي : ويقال لهم عند أن يدنوا من النار : هذه جهنم التي كنتم توعدون بها في الدنيا على ألسنة الرسل ، والقائل لهم الملائكة .
ثم يقولون لهم : اصلوها اليوم بما كنتم تكفرون أي : قاسوا حرها اليوم ، وادخلوها ، وذوقوا أنواع العذاب فيها بما كنتم تكفرون أي : بسبب كفركم بالله في الدنيا ، وطاعتكم للشيطان ، وعبادتكم للأوثان ، وهذا الأمر أمر تنكيل ، وإهانة كقوله : ذق إنك أنت العزيز الكريم [ الدخان : 49 ] .
اليوم نختم على أفواههم ( اليوم ) ظرف لما بعده ، وقرئ " يختم " على البناء للمفعول ، والنائب الجار والمجرور بعده .
قال المفسرون : إنهم ينكرون الشرك وتكذيب الرسل كما في قولهم : والله ربنا ما كنا مشركين [ الأنعام : 23 ] فيختم الله على أفواههم ختما لا يقدرون معه على الكلام ، وفي هذا التفات من الخطاب إلى الغيبة للإيذان بأن أفعالهم القبيحة مستدعية للإعراض عن خطابهم ، ثم قال : وتكلمنا أيديهم وتشهد أرجلهم بما كانوا يكسبون أي : تكلمت [ ص: 1230 ] أيديهم بما كانوا يفعلونه ، وشهدت أرجلهم عليهم بما كانوا يعملون .
قرأ الجمهور تكلمنا و تشهد وقرأ طلحة بن مصرف " ولتكلمنا ولتشهد " بلام كي .
وقيل : سبب الختم على أفواههم ليعرفهم أهل الموقف . وقيل : ختم على أفواههم لأجل أن يكون الإقرار من جوارحهم لأن شهادة غير الناطق أبلغ في الحجة من شهادة الناطق لخروجه مخرج الإعجاز . وقيل : ليعلموا أن أعضاءهم التي كانت أعوانا لهم في معاصي الله صارت شهودا عليهم ، وجعل ما تنطق به الأيدي كلاما ، وإقرارا ; لأنها كانت المباشرة لغالب المعاصي ، وجعل نطق الأرجل شهادة ; لأنها حاضرة عند كل معصية ، وكلام الفاعل إقرار ، وكلام الحاضر شهادة ، وهذا اعتبار بالغالب ، وإلا فالأرجل قد تكون مباشرة للمعصية كما تكون الأيدي مباشرة لها .
ولو نشاء لطمسنا على أعينهم أي : أذهبنا أعينهم وجعلناها بحيث لا يبدو لها شق ولا جفن .
قال الكسائي : طمس يطمس ، ويطمس ، والمطموس ، والطميس عند أهل اللغة الذي ليس في عينيه شق كما في قوله : ولو شاء الله لذهب بسمعهم وأبصارهم [ البقرة : 20 ] ومفعول المشيئة محذوف : أي : لو نشاء أن نطمس على أعينهم لطمسنا .
قال السدي ، والحسن : المعنى لتركناهم عميا يترددون لا يبصرون طريق الهدى ، واختار هذا ابن جرير فاستبقوا الصراط معطوف على لطمسنا أي : تبادروا إلى الطريق ليجوزوه ويمضوا فيه ، و ( الصراط ) منصوب بنزع الخافض أي : فاستبقوا إليه ، وقال عطاء ، ومقاتل ، وقتادة : المعنى لو نشاء لفقأنا أعينهم ، وأعميناهم عن غيهم .
وحولنا أبصارهم من الضلالة إلى الهدى ، فأبصروا رشدهم ، واهتدوا ، وتبادروا إلى طريق الآخرة ، ومعنى فأنى يبصرون أي : كيف يبصرون الطريق ويحسنون سلوكه ، ولا أبصار لهم .
وقرأ عيسى بن عمر " فاستبقوا " على صيغة الأمر أي : فيقال لهم : استبقوا . وفي هذا تهديد لهم .
ثم كرر التهديد لهم فقال : ولو نشاء لمسخناهم على مكانتهم المسخ تبديل الخلقة إلى حجر ، أو غيره من الجماد أو بهيمة ، والمكانة المكان أي : لو شئنا لبدلنا خلقهم على المكان الذي هم فيه .
قيل : والمكانة أخص من المكان كالمقامة والمقام .
قال الحسن أي : لأقعدناهم فما استطاعوا مضيا ولا يرجعون أي : لا يقدرون على ذهاب ولا مجيء .
قال الحسن : فلا يستطيعون أن يمضوا أمامهم ، ولا يرجعوا وراءهم ، وكذلك الجماد لا يتقدم ولا يتأخر .
وقيل : المعنى : لو نشاء لأهلكناهم في مساكنهم ، وقيل : لمسخناهم في المكان الذي فعلوا فيه المعصية .
وقال يحيى بن سلام : هذا كله يوم القيامة .
قرأ الجمهور على مكانتهم بالإفراد . وقرأ الحسن ، والسلمي ، وزر بن حبيش ، وأبو بكر عن عاصم " مكاناتهم " بالجمع .
وقرأ الجمهور مضيا بضم الميم ، وقرأ أبو حيوة " مضيا " بفتحها ، وروي عنه أنه قرأ بكسرها ورويت هذه القراءة عن الكسائي .
قيل : والمعنى : ولا يستطيعون رجوعا ، فوضع الفعل موضع المصدر لمراعاة الفاصلة ، يقال : مضى يمضي مضيا : إذا ذهب في الأرض ، ورجع يرجع رجوعا : إذا عاد من حيث جاء .
ومن نعمره ننكسه في الخلق قرأ الجمهور " ننكسه " بفتح النون الأولى وسكون الثانية وضم الكاف مخففة .
وقرأ عاصم ، وحمزة بضم النون الأولى ، وفتح الثانية وكسر الكاف مشددة .
والمعنى : من نطل عمره نغير خلقه ، ونجعله على عكس ما كان عليه أولا من القوة والطراوة .
قال الزجاج : المعنى من أطلنا عمره نكسنا خلقه ، فصار بدل القوة الضعف ، وبدل الشباب الهرم ، ومثل هذه الآية قوله - سبحانه - : ومنكم من يرد إلى أرذل العمر لكيلا يعلم من بعد علم شيئا [ الحج : 5 ] وقوله ثم رددناه أسفل سافلين [ التين : 5 ] ، ومعنى أفلا يعقلون أفلا تعلمون بعقولكم أن من قدر على ذلك قدر على البعث والنشور .
قرأ الجمهور " يعقلون " بالتحتية . وقرأ نافع ، وابن ذكوان بالفوقية على الخطاب .
ولما قال كفار مكة : إن القرآن شعر ، وإن محمدا شاعر رد الله عليهم بقوله : وما علمناه الشعر والمعنى : نفي كون القرآن شعرا ، ثم نفى أن يكون النبي شاعرا ، فقال : وما ينبغي له أي : لا يصح له الشعر ، ولا يتأتى منه ، ولا يسهل عليه لو طلبه ، وأراد أن يقوله : بل كان - صلى الله عليه وآله وسلم - إذا أراد أن ينشد بيتا قد قاله شاعر متمثلا به كسر وزنه ، فإنه لما أنشد بيت طرفة بن العبد المشهور ، وهو قوله :
ستبدي لك الأيام ما كنت جاهلا ويأتيك بالأخبار من لم تزود
قال : ويأتيك من لم تزوده بالأخبار ، وأنشد مرة أخرى قول العباس بن مرداس السلمي :
أتجعل نهبي ونهب العبي د بين عيينة والأقرع
فقال : بين الأقرع وعيينة ، وأنشد أيضا :
كفى بالإسلام والشيب للمرء ناهيا
فقال أبو بكر : يا رسول الله إنما قال الشاعر :
كفى الشيب والإسلام للمرء ناهيا
فقال : أشهد أنك رسول الله ، يقول الله - عز وجل - وما علمناه الشعر وما ينبغي له .
وقد وقع منه - صلى الله عليه وآله وسلم - كثير من مثل هذا .
قال الخليل : كان الشعر أحب إلى رسول الله من كثير من الكلام ، ولكن لا يتأتى منه اهـ .
ووجه عدم تعليمه الشعر وعدم قدرته عليه التكميل للحجة والدحض للشبهة ، كما جعله الله أميا لا يقرأ ولا يكتب ، وأما ما روي عنه من قوله - صلى الله عليه وآله وسلم - :
هل أنت إلا إصبع دميت وفي سبيل الله ما لقيت
وقوله :
أنا النبي لا كذب أنا ابن عبد المطلب
ونحو ذلك ، فمن الاتفاق الوارد من غير قصد كما يأتي ذلك في بعض آيات القرآن ، وليس بشعر ولا مراد به الشعر ، بل اتفق ذلك اتفاقا كما يقع في كثير من كلام الناس ، فإنهم قد يتكلمون بما لو اعتبره معتبر لكان على وزن الشعر ، ولا يعدونه شعرا ، وذلك كقوله - تعالى - : لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون [ آل عمران : 92 ] وقوله : [ ص: 1231 ] وجفان كالجواب وقدور راسيات [ سبأ : 13 ] على أنه قد قال الأخفش : إن قوله :
أنا النبي لا كذب
ليس بشعر .
وقال الخليل في كتاب العين : إن ما جاء من السجع على جزأين لا يكون شعرا .
قال ابن العربي : والأظهر من حاله أنه قال : لا كذب ، برفع الباء من كذب ، وبخفضها من عبد المطلب .
قال النحاس ، قال بعضهم : إنما الرواية بالإعراب ، وإذا كانت بالإعراب لم يكن شعرا ، لأنه إذا فتح الباء من الأول أو ضمهما أو نونها وكسر الباء من الثاني خرج عن وزن الشعر .
وقيل : إن الضمير في ( له ) عائد إلى القرآن أي : وما ينبغي للقرآن أن يكون شعرا إن هو إلا ذكر أي : ما القرآن إلا ذكر من الأذكار ، وموعظة من المواعظ وقرآن مبين أي : كتاب من كتب الله السماوية مشتمل على الأحكام الشرعية .
لينذر من كان حيا أي : لينذر القرآن من كان حيا أي : قلبه صحيح يقبل الحق ، ويأبى الباطل ، أو لينذر الرسول من كان حيا .
قرأ الجمهور بالياء التحتية ، وقرأ نافع ، وابن عامر بالفوقية ، فعلى القراءة الأولى المراد القرآن ، وعلى الثانية المراد النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - ويحق القول على الكافرين أي : وتجب كلمة العذاب على المصرين على الكفر الممتنعين من الإيمان بالله ، وبرسله .
وقد أخرج ابن أبي شيبة ، وابن أبي الدنيا ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، وابن مردويه من طرق عن ابن عباس في قوله : في شغل فاكهون قال : في افتضاض الأبكار .
وأخرج عبد بن حميد ، وابن أبي الدنيا ، وعبد الله بن أحمد في زوائد الزهد ، وابن جرير ، وابن المنذر عن ابن مسعود في الآية قال : شغلهم افتضاض العذارى .
وأخرج عبد بن حميد عن عكرمة ، وقتادة مثله .
وأخرج عبد الله بن أحمد في زوائد الزهد عن ابن عمر قال : إن المؤمن كلما أراد زوجة وجدها عذراء .
وقد روي نحوه مرفوعا عن أبي سعيد ، مرفوعا عند الطبراني في الصغير ، وأبي الشيخ في العظمة .
وروي أيضا نحوه عن أبي هريرة مرفوعا عند الضياء المقدسي في صفة الجنة .
وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله : في شغل فاكهون قال : ضرب الأوتار .
قال أبو حاتم : هذا لعله خطأ من المستمع ، وإنما هو افتضاض الأبكار .
وأخرج ابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم عنه قال : فاكهون فرحون .
وأخرج ابن ماجه ، وابن أبي الدنيا في صفة الجنة ، والبزار ، وابن أبي حاتم ، والآجري في الرؤية ، وابن مردويه عن جابر قال : قال النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - : بينا أهل الجنة في نعيمهم إذ سطع لهم نور ، فرفعوا رءوسهم فإذا الرب قد أشرف عليهم من فوقهم ، فقال : السلام عليكم يا أهل الجنة ، وذلك قول الله سلام قولا من رب رحيم قال : فينظر إليهم وينظرون إليه ، فلا يلتفتون إلى شيء من النعيم ما داموا ينظرون إليه حتى يحتجب عنهم ويبقى نوره وبركته عليهم في ديارهم قال ابن كثير : في إسناده : نظر .
وأخرج ابن المنذر ، وابن أبي حاتم عن ابن عباس في الآية قال : إن الله هو يسلم عليهم .
وأخرج أحمد ، ومسلم ، والنسائي ، والبزار ، وابن أبي الدنيا في التوبة واللفظ له ، وابن أبي حاتم ، وابن مردويه ، والبيهقي في الأسماء والصفات عن أنس في قوله : اليوم نختم على أفواههم قال : " كنا عند النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - فضحك حتى بدت نواجذه ، قال : أتدرون مما ضحكت ؟ قلنا : لا يا رسول الله ، قال : من مخاطبة العبد ربه يقول : يا رب ألم تجرني من الظلم ؟ فيقول : بلى ، فيقول : إني لا أجيز علي إلا شاهدا مني ، فيقول : كفى بنفسك اليوم عليك شهيدا وبالكرام الكاتبين شهودا ، فيختم على فيه ويقال : لأركانه : انطقي ، فتنطق بأعماله ، ثم يخلى بينه وبين الكلام ، فيقول : بعدا لكن وسحقا فعنكن كنت أناضل .
وأخرج مسلم ، والترمذي ، وابن مردويه ، والبيهقي عن أبي سعيد ، وأبي هريرة قالا : قال رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - : يلقى العبد ربه فيقول الله : قل ألم أكرمك ، وأسودك ، وأزوجك ، وأسخر لك الخيل والإبل ، وأذرك ترأس وترتع ؟ فيقول : بلى أي رب ، فيقول : أفظننت أنك ملاقي ؟ فيقول : لا ، فيقول : إني أنساك كما نسيتني ، ثم يلقى الثاني فيقول مثل ذلك ، ثم يلقى الثالث فيقول له مثل ذلك ، فيقول : آمنت بك وبكتابك وبرسولك وصليت وصمت وتصدقت ويثني بخير ما استطاع ، فيقول : ألا نبعث شاهدنا عليك ، فيفكر في نفسه : من الذي يشهد علي ؟ فيختم على فيه ، ويقال : لفخذه انطقي فتنطق فخذه ، وفمه ، وعظامه بعمله ما كان وذلك ليعذر من نفسه ، وذلك المنافق ، وذلك الذي يسخط عليه .
وأخرج ابن جرير ، وابن أبي حاتم من حديث أبي موسى نحوه .
وأخرج ابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، والبيهقي في الأسماء والصفات عن ابن عباس في قوله : ولو نشاء لطمسنا على أعينهم قال : أعميناهم وأضللناهم عن الهدى فأنى يبصرون فكيف يهتدون .
وأخرج ابن جرير ، وابن أبي حاتم عنه في قوله : ولو نشاء لمسخناهم قال : أهلكناهم على مكانتهم قال : في مساكنهم .
وأخرج عبد الرزاق ، وعبد بن حميد ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم قال بلغني أنه قيل : لعائشة : هل كان رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - يتمثل بشيء من الشعر ؟ قالت : كان أبغض الحديث إليه ، غير أنه كان يتمثل ببيت أخي بني قيس فيجعل أوله آخره ، يقول : ويأتيك من لم تزود بالأخبار ، فقال أبو بكر : ليس هكذا ، فقال رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - : إني والله ما أنا بشاعر ولا ينبغي لي وهذا يرد ما نقلناه عن الخليل سابقا أن الشعر كان أحب إلى رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - من كثير من الكلام . وأخرج ابن أبي شيبة وأحمد عنها قالت : كان رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - إذا استراث الخبر تمثل ببيت طرفة :
ويأتيك بالأخبار من لم تزود
وأخرج ابن أبي شيبة عن ابن عباس قال : كان رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - يتمثل من الأشعار :
ويأتيك بالأخبار من لم تزود
وأخرج البيهقي في سننه عن عائشة قالت : ما جمع [ ص: 1232 ] رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - بيت شعر قط إلا بيتا واحدا :
تفاءل بما تهوى يكن فلقلما يقال لشيء كان إلا تحقق
قالت عائشة : ولم يقل : تحققا ، لئلا يعربه فيصير شعرا " ، وإسناده هكذا : قال : أخبرنا أبو عبيد الله الحافظ : يعني الحاكم ، حدثنا أبو حفص بن أحمد بن نعيم ، حدثنا أبو محمد عبد الله بن هلال النحوي الضرير ، حدثنا علي بن عمرو الأنصاري ، حدثنا سفيان بن عيينة عن الزهري عن عروة عن عائشة فذكره .
وقد سئل المزي عن هذا الحديث فقال : هو منكر ، ولم يعرف شيخ الحاكم ، ولا الضرير .


