[ ص: 109 ] قوله : ياأيها الناس قيل : إنها نزلت في ثقيف وخزاعة وبني مدلج فيما حرموه على أنفسهم من الأنعام .
حكاه القرطبي في تفسيره ، ولكن الاعتبار بعموم اللفظ لا بخصوص السبب .
وقوله : ( حلالا ) مفعول أو حال ، وسمي الحلال حلالا لانحلال عقدة الحظر عنه .
والطيب هنا هو المستلذ كما قاله الشافعي وغيره .
وقال مالك وغيره : هو الحلال فيكون تأكيدا لقوله : حلالا .
و " من " في قوله : مما في الأرض للتبعيض للقطع بأن في الأرض ما هو حرام و ( خطوات ) جمع خطوة بالفتح والضم ، وهي بالفتح للمرة ، وبالضم لما بين القدمين .
وقرأ الفراء " خطؤات " بفتح الخاء ، وقرأ أبو سماك بفتح الخاء والطاء ، وقرأ علي وقتادة والأعرج وعمرو بن ميمون والأعمش " خطؤات " بضم الخاء والطاء والهمز على الواو .
قال الأخفش : وذهبوا بهذه القراءة إلى أنها جمع خطية من الخطأ لا من الخطو .
قال الجوهري : والخطوة بالفتح : المرة الواحدة ، والجمع خطوات وخطا . انتهى .
والمعنى على قراءة الجمهور : لا تقفوا أثر الشيطان وعمله ، وكل ما لم يرد به الشرع فهو منسوب إلى الشيطان ، وقيل : هي النذور والمعاصي ، والأولى التعميم وعدم التخصيص بفرد أو نوع .
وقوله : إنه لكم عدو مبين أي ظاهر العداوة ، ومثله قوله تعالى : إنه عدو مضل مبين وقوله : إن الشيطان لكم عدو فاتخذوه عدوا .
وقوله : ( بالسوء ) سمي السوء سوءا لأنه يسوء صاحبه بسوء عاقبته ، وهو مصدر ساءه يسوءه سوءا ومساءة : إذا أحزنه .
والفحشاء أصله سوء المنظر ، ومنه قول الشاعر :
وجيد كجيد الرئم ليس بفاحش
ثم استعمل فيما يقبح من المعاني ، وقيل : السوء : القبيح ، والفحشاء : التجاوز للحد في القبح ، وقيل : السوء ما لا حد فيه ، والفحشاء : ما فيه الحد ، وقيل : الفحشاء الزنا ، وقيل : إن كل ما نهت عنه الشريعة فهو من الفحشاء .وقوله : وأن تقولوا على الله ما لا تعلمون قال ابن جرير الطبري : يريد ما حرموه من البحيرة والسائبة ، ونحوهما مما جعلوه شرعا ، وقيل : هو قولهم هذا حلال وهذا حرام ، بغير علم .
والظاهر أنه يصدق على كل ما قيل في الشرع بغير علم .
وفي هذه الآية دليل على أن كل ما لم يرد فيه نص ، أو ظاهر من الأعيان الموجودة في الأرض فأصله الحل حتى يرد دليل يقتضي تحريمه ، وأوضح دلالة على ذلك من هذه الآية قوله تعالى : هو الذي خلق لكم ما في الأرض .
والضمير في قوله : وإذا قيل لهم راجع إلى الناس ، لأن الكفار منهم ، وهم المقصودون هنا ، وقيل : كفار العرب خاصة ، و ( ألفينا ) معناه وجدنا ، والألف في قوله : أولو كان آباؤهم للاستفهام ، وفتحت الواو لأنها واو العطف .
وفي هذه الآية من الذم للمقلدين والنداء بجهلهم الفاحش واعتقادهم الفاسد ما لا يقادر قدره ، ومثل هذه الآية قوله تعالى : وإذا قيل لهم تعالوا إلى ما أنزل الله وإلى الرسول قالوا حسبنا ما وجدنا عليه آباءنا الآية ، وفي ذلك دليل على قبح التقليد ، والمنع منه ، والبحث في ذلك يطول .
وقد أفردته بمؤلف مستقل سميته [ القول المفيد في حكم التقليد ] واستوفيت الكلام فيه في [ أدب الطلب ومنتهى الأرب ] .
وقوله : ومثل الذين كفروا كمثل الذي ينعق فيه تشبيه واعظ الكافرين ، وداعيهم وهو محمد صلى الله عليه وسلم بالراعي الذي ينعق بالغنم أو الإبل فلا يسمع إلا دعاء ونداء ولا يفهم ما يقول ، هكذا فسره الزجاج والفراء وسيبويه ، وبه قال جماعة من السلف .
قال سيبويه : لم يشبهوا بالناعق ، إنما شبهوا بالمنعوق به ، والمعنى : مثلك يا محمد ومثل الذين كفروا ، كمثل الناعق والمنعوق به من البهائم التي لا تفهم . فحذف لدلالة المعنى عليه .
وقال قطرب : المعنى مثل الذين كفروا في دعائهم ما لا يفهم ، يعني الأصنام ، كمثل الراعي إذا نعق بغنمه وهو لا يدري أين هي وبه قال ابن جرير الطبري .
وقال ابن زيد : المعنى : مثل الذين كفروا في دعائهم الآلهة الجماد كمثل الصائح في جوف الليل فيجيبه الصدى فهو يصيح بما لا يسمع ، ويجيبه ما لا حقيقة فيه .
والنعيق : زجر الغنم والصياح بها ، يقال : نعق الراعي بغنمه ينعق نعيقا ونعاقا ، أي صاح بها وزجرها ، والعرب تضرب المثل براعي الغنم في الجهل ويقولون : أجهل من راعي الضأن .
وقوله : ( صم ) وما بعده أخبار لمبتدأ محذوف ، أي هم صم بكم عمي .
وقد تقدم تفسير ذلك .
وقد أخرج ابن مردويه عن ابن عباس قال : تليت هذه الآية عند النبي صلى الله عليه وسلم ، يعني : ياأيها الناس كلوا مما في الأرض حلالا طيبا فقام سعد بن أبي وقاص فقال : يا رسول الله ادع الله أن يجعلني مستجاب الدعوة ، فقال : يا سعد أطب مطعمك تكن مستجاب الدعوة ، والذي نفس محمد بيده إن الرجل ليقذف اللقمة الحرام في جوفه فما يتقبل منه أربعين يوما ، وأيما عبد نبت لحمه من السحت والربا فالنار أولى به .
وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عنه في قوله : ولا تتبعوا خطوات الشيطان قال : عمله .
وأخرج ابن أبي حاتم عنه أنه قال : ما خالف القرآن فهو من خطوات الشيطان .
وأخرج عبد بن حميد وابن أبي حاتم عن مجاهد أنه قال : خطاه .
وأخرجا أيضا عن عكرمة قال : هي نزغات الشيطان .
وأخرج أبو الشيخ عن سعيد بن جبير قال : هي تزيين الشيطان .
وأخرج ابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن قتادة قال : كل معصية لله فهي من خطوات الشيطان .
وأخرج عبد بن حميد عن ابن عباس قال : ما كان من يمين أو نذر في غضب فهو من خطوات الشيطان ، وكفارته كفارة يمين .
وأخرج عبد الرزاق وسعيد بن منصور وعبد بن حميد وابن أبي حاتم والطبراني والحاكم وصححه عن ابن مسعود أنه أتى بضرع وملح فجعل يأكل ، فاعتزل رجل من القوم ، فقال ابن مسعود : ناولوا صاحبكم : فقال : لا أريد ، فقال : [ ص: 110 ] أصائم أنت ؟ قال : لا . قال : فما شأنك ؟ قال : حرمت على نفسي أن آكل ضرعا ، فقال ابن مسعود : هذا من خطوات الشيطان ، فاطعم وكفر عن يمينك .
وأخرج عبد بن حميد عن عثمان بن غياث قال : سألت جابر بن زيد عن رجل نذر أن يجعل في أنفه حلقة من ذهب ، فقال : هي من خطوات الشيطان ولا يزال عاصيا لله فليكفر عن يمينه .
وأخرج عبد بن حميد عن الحسن أنه جعل يمين من حلف أن يحج حبوا من خطوات الشيطان .
وأخرج عبد بن حميد وأبو الشيخ عن أبي مجلز قال : هي النذور في المعاصي .
وأخرج ابن جرير عن السدي في قوله : إنما يأمركم بالسوء قال : المعصية . ( والفحشاء ) قال : الزنا .
وأخرج ابن إسحاق وابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن عباس قال : دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم اليهود إلى الإسلام ورغبهم فيه ، وحذرهم عذاب الله ونقمته ، فقال له رافع بن خارجة ومالك بن عوف : بل نتبع يا محمد ما وجدنا عليه آباءنا فهم كانوا أعلم وخيرا منا ، فأنزل الله في ذلك : وإذا قيل لهم اتبعوا ما أنزل الله قالوا بل نتبع ما ألفينا عليه آباءنا .
وأخرج ابن جرير عن الربيع وقتادة في قوله : ألفينا قالا : وجدنا .
وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله : ومثل الذين كفروا الآية ، قال : كمثل البقر والحمار والشاة إن قلت لبعضهم كلاما لم يعلم ما تقول غير أنه يسمع صوتك ، وكذلك الكافر إن أمرته بخير أو نهيته عن شر أو وعظته لم يعقل ما تقول غير أنه يسمع صوتك .
وروي نحو ذلك عن مجاهد أخرجه عبد بن حميد ، وعن عكرمة أخرجه وكيع .
وأخرج ابن جرير عن ابن جريج قال : قال لي عطاء في هذه الآية : هم اليهود الذين أنزل الله فيهم إن الذين يكتمون ما أنزل الله من الكتاب إلى قوله : فما أصبرهم على النار .


