وأخرج ابن مردويه عن ابن عباس ، وابن الزبير وعائشة قالوا : نزلت تبت يدا أبي لهب بمكة .
بسم الله الرحمن الرحيم
تبت يدا أبي لهب وتب ما أغنى عنه ماله وما كسب سيصلى نارا ذات لهب وامرأته حمالة الحطب في جيدها حبل من مسد
معنى تبت هلكت .
وقال مقاتل : خسرت ، وقيل خابت .
وقال عطاء : ضلت .
وقيل صفرت من كل خير ، وخص اليدين بالتباب ؛ لأن أكثر العمل يكون بهما .
وقيل المراد باليدين نفسه ، وقد يعبر باليد عن النفس ، كما في قوله : بما قدمت يداك أي نفسك ، والعرب تعبر كثيرا ببعض الشيء عن كله ، كقولهم : أصابته يد الدهر ، وأصابته يد المنايا ، كما في قول الشاعر :
لما أكبت يد الرزايا عليه نادى ألا مخبر
وأبو لهب اسمه عبد العزى بن عبد المطلب بن هاشم ، وقوله : وتب أي هلك .قال الفراء : الأول دعاء عليه ، والثاني خبر ، كما تقول : أهلكه الله ، وقد هلك .
والمعنى : أنه قد وقع ما دعا به عليه ويؤيده قراءة ابن مسعود : " وقد تب " .
وقيل كلاهما إخبار ، أراد بالأول هلاك عمله ، وبالثاني هلاك نفسه .
وقيل كلاهما دعاء عليه ، ويكون في هذا شبه من مجيء العام بعد الخاص ، وإن كان حقيقة اليدين غير مرادة ، وذكره سبحانه بكنيته لاشتهاره بها ، ولكون اسمه كما تقدم عبد العزى ، ، والعزى اسم صنم ، ولكون في هذه الكنية ما يدل على أنه ملابس للنار ؛ لأن اللهب هي لهب النار ، وإن كان إطلاق ذلك عليه في الأصل لكونه كان جميلا ، وأن وجهه يتلهب لمزيد حسنه كما تتلهب النار .
قرأ الجمهور لهب بفتح اللام والهاء .
وقرأ مجاهد ، وحميد ، وابن كثير ، وابن محيصن بإسكان الهاء ، واتفقوا على فتح الهاء في قوله : ذات لهب وروى صاحب الكشاف أنه قرئ " تبت يدا أبو لهب " وذكر وجه ذلك .
ما أغنى عنه ماله وما كسب أي ما دفع عنه ما حل به من التباب وما نزل به من عذاب الله ما جمع من المال ولا ما كسب من الأرباح والجاه ، أو المراد بقوله : " ماله " ما ورثه من أبيه ، وبقوله : وما كسب الذي كسبه بنفسه .
قال مجاهد : وما كسب من ولد ، وولد الرجل من كسبه ، ويجوز أن تكون " ما " في قوله : ما أغنى استفهامية : أي أي شيء أغنى عنه ؟ وكذا يجوز في قوله : وما كسب أن تكون استفهامية : أي وأي شيء كسب ؟ ويجوز أن تكون مصدرية أي وكسبه .
والظاهر أن ما الأولى نافية ، والثانية موصولة .
ثم أوعده سبحانه بالنار فقال : سيصلى نارا ذات لهب قرأ الجمهور سيصلى بفتح الياء وإسكان الصاد وتخفيف اللام : أي سيصلى هو بنفسه ، وقرأ أبو رجاء ، وأبو حيوة ، وابن مقسم ، والأشهب العقيلي ، وأبو السماك ، والأعمش ، ومحمد بن السميفع بضم الياء وفتح الصاد وتشديد اللام ، ورويت هذه القراءة عن ابن كثير ، والمعنى سيصليه الله ، ومعنى ذات لهب ذات اشتعال وتوقد ، وهي نار جهنم .
وامرأته حمالة الحطب معطوف على الضمير في يصلى ، وجاز ذلك للفصل : أي وتصلى امرأته نارا ذات لهب ، وهي أم جميل بنت حرب أخت أبي سفيان ، وكانت تحمل الغضى والشوك فتطرحه بالليل على طريق النبي صلى الله عليه وسلم ، كذا قال ابن زيد ، والضحاك ، والربيع بن أنس ، ومرة الهمداني .
وقال مجاهد ، وقتادة ، والسدي : إنها كانت تمشي بالنميمة بين الناس .
والعرب تقول : فلان يحطب على فلان : إذا نم به ، ومنه قول الشاعر :
إن بني الأدرم حمالو الحطب هم الوشاة في الرضا والغضب
عليهم اللعنة تترى والحرب
من البيض لم يصطد على ظهر لامة ولم يمش بين الناس بالحطب الرطب
قرأ الجمهور " حمالة " بالرفع على الخبرية على أنها جملة مسوقة للإخبار بأن امرأة أبي لهب حمالة الحطب ، وأما على ما قدمنا من عطف وامرأته على الضمير في تصلى ، فيكون رفع " حمالة " على النعت لامرأته ، والإضافة حقيقية لأنها بمعنى المضي ، أو على أنه خبر مبتدأ محذوف : أي هي حمالة .
وقرأ عاصم بنصب حمالة على الذم ، أو على أنه حال من امرأته .
وقرأ أبو قلابة " حاملة الحطب " .
في جيدها حبل من مسد الجملة في محل نصب على الحال من امرأته ، والجيد : العنق ، والمسد : الليف الذي تفتل منه الحبال ، ومنه قول النابغة :
مقذوفة بدحيض النحض نازلها له صريف صريف القعواء بالمسد
يا مسد الخوص تعوذ مني إن كنت لدنا لينا فإني
وقال الحسن : هي حبال تكون من شجر ينبت باليمن تسمى بالمسد .
وقد تكون الحبال من جلود الإبل أو من أوبارها .
قال الضحاك وغيره : هذا في الدنيا ، كانت تعير النبي صلى الله عليه وسلم [ ص: 1666 ] بالفقر وهي تحتطب في حبل تجعله في عنقها فخنقها الله به فأهلكها ، وهو في الآخرة حبل من نار .
وقال مجاهد ، وعروة بن الزبير : هو سلسلة من نار تدخل في فيها وتخرج من أسفلها .
وقال قتادة : هو قلادة من ودع كانت لها .
قال الحسن : إنما كان خرزا في عنقها .
وقال سعيد بن المسيب : كانت لها قلادة فاخرة من جوهر ، فقالت : واللات والعزى لأنفقنها في عداوة محمد ، فيكون ذلك عذابا في جسدها يوم القيامة .
والمسد : الفتل يقال : مسد حبله يمسده مسدا : أجاد فتله اهـ .
وقد أخرج البخاري ، ومسلم وغيرهما عن ابن عباس قال : لما نزلت وأنذر عشيرتك الأقربين [ الشعراء : 214 ] خرج النبي صلى الله عليه وسلم حتى صعد الصفا فهتف : يا صباحاه . فاجتمعوا إليه ، فقال : أرأيتكم لو أخبرتكم أن خيلا تخرج بسفح هذا الجبل أكنتم مصدقي ؟ قالوا : ما جربنا عليك كذبا ، قال : فإني نذير لكم بين يدي عذاب شديد ، فقال أبو لهب : تبا لك إنما جمعتنا لهذا ؟ ثم قام فنزلت هذه السورة تبت يدا أبي لهب وتب .
وأخرج عبد بن حميد ، وابن المنذر ، وابن مردويه عن ابن عباس في قوله : تبت يدا أبي لهب قال : خسرت .
وأخرج ابن أبي حاتم عن عائشة قالت : إن أطيب ما أكل الرجل من كسبه ، وإن ابنه من كسبه ، ثم قرأت ما أغنى عنه ماله وما كسب قالت : وما كسب ولده .
وأخرج عبد الرزاق ، والحاكم ، وابن مردويه عن ابن عباس في قوله : وما كسب قال : كسبه ولده .
وأخرج ابن جرير ، والبيهقي في الدلائل وابن عساكر عن ابن عباس في قوله : وامرأته حمالة الحطب قال : كانت تحمل الشوك فتطرحه على طريق النبي صلى الله عليه وسلم ليعقره وأصحابه ، وقال : حمالة الحطب نقالة الحديث حبل من مسد قال : هي حبال تكون بمكة .
ويقال : المسد : العصا التي تكون في البكرة .
ويقال : المسد : قلادة من ودع .
وأخرج ابن أبي حاتم ، وأبو زرعة عن أسماء بنت أبي بكر قالت لما نزلت تبت يدا أبي لهب أقبلت العوراء أم جميل بنت حرب ولها ولولة ، وفي يدها فهر ، وهي تقول :
مذمما أبينا ودينه قلينا
وأمره عصينا


