لا خلاف بين أهل العلم أن القتال كان ممنوعا قبل الهجرة لقوله تعالى : فاعف عنهم واصفح وقوله : واهجرهم هجرا جميلا وقوله : لست عليهم بمصيطر وقوله : ادفع بالتي هي أحسن ونحو ذلك مما نزل بمكة ، فلما هاجر إلى المدينة أمره الله سبحانه بالقتال ، ونزلت هذه الآية ، وقيل : إن أول ما نزل قوله تعالى : أذن للذين يقاتلون بأنهم ظلموا فلما نزلت الآية كان صلى الله عليه وسلم يقاتل من قاتله ، ويكف عمن كف عنه حتى نزل قوله تعالى : فاقتلوا المشركين وقوله تعالى : وقاتلوا المشركين كافة .
وقال جماعة من السلف : إن المراد بقوله : الذين يقاتلونكم من عدا النساء والصبيان والرهبان ونحوهم ، وجعلوا هذه الآية محكمة غير منسوخة ، والمراد بالاعتداء عند أهل القول الأول هو مقاتلة من يقاتل من الطوائف الكفرية .
والمراد به على القول الثاني مجاوزة قتل من يستحق القتل إلى قتل من لا يستحقه ممن تقدم ذكره .
قوله : حيث ثقفتموهم يقال : ثقف يثقف ثقفا ، ورجل ثقيف : إذا كان محكما لما يتناوله من الأمور .
قال في الكشاف : والثقف وجود على وجه الأخذ والغلبة ، ومنه رجل ثقف : سريع الأخذ لأقرانه . انتهى .
ومنه قول حسان :
فإما يثقفن بني لؤي جذيمة إن قتلهم دواء
قوله : وأخرجوهم من حيث أخرجوكم أي مكة .قال ابن جرير : الخطاب للمهاجرين ، والضمير لكفار قريش انتهى .
وقد امتثل رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر ربه ، فأخرج من مكة من لم يسلم عند أن فتحها الله عليه .
وقوله : والفتنة أشد من القتل أي الفتنة التي أرادوا أن يفتنوكم ، وهي رجوعكم إلى الكفر أشد من القتل ، وقيل : المراد بالفتنة المحنة التي تنزل بالإنسان في نفسه أو أهله أو ماله أو عرضه ، وقيل : إن المراد بالفتنة الشرك الذي عليه المشركون ، لأنهم كانوا يستعظمون القتل في الحرم ، فأخبرهم الله أن الشرك الذي هم عليه أشد مما يستعظمونه ، وقيل : المراد فتنتهم إياكم بصدكم عن المسجد الحرام أشد من قتلكم إياهم في الحرم أو من قتلهم إياكم إن قتلوكم .
والظاهر أن المراد الفتنة في الدين بأي سبب كان ، وعلى أي صورة اتفقت ، فإنها أشد من القتل .
قوله : ولا تقاتلوهم عند المسجد الحرام الآية .
اختلف أهل العلم في ذلك ، فذهبت طائفة إلى أنها محكمة ، وأنه لا يجوز القتال في الحرم إلا بعد أن يتعدى بالقتال فيه فإنه يجوز دفعه بالمقاتلة له ، وهذا هو الحق .
وقالت طائفة : إن هذه الآية منسوخة بقوله تعالى : فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم ويجاب عن هذا الاستدلال بأن الجمع ممكن ببناء العام على الخاص ، فيقتل المشرك حيث وجد إلا بالحرم ، ومما يؤيد ذلك قوله صلى الله عليه وسلم : إنها لم تحل لأحد قبلي ، وإنما أحلت لي ساعة من نهار وهو في الصحيح .
وقد احتج القائلون بالنسخ بقتله صلى الله عليه وسلم لابن خطل ، وهو متعلق بأستار الكعبة ، ويجاب عنه بأنه وقع في تلك الساعة التي أحل الله لرسوله صلى الله عليه وسلم .
قوله : فإن انتهوا أي [ ص: 124 ] عن قتالكم ودخلوا في الإسلام .
قوله : وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة فيه الأمر بمقاتلة المشركين إلى غاية هي أن لا تكون فتنة وأن يكون الدين لله ، وهو الدخول في الإسلام ، والخروج عن سائر الأديان المخالفة له ، فمن دخل في الإسلام وأقلع عن الشرك لم يحل قتاله ، قيل : المراد بالفتنة هنا الشرك ، والظاهر أنها الفتنة في الدين على عمومها كما سلف .
قوله : فلا عدوان إلا على الظالمين أي لا تعتدوا إلا على من ظلم وهو من لم ينته عن الفتنة ، ولم يدخل في الإسلام ، وإنما سمي جزاء الظالمين عدوانا ؛ مشاكلة كقوله تعالى : وجزاء سيئة سيئة مثلها .
وقوله : فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه .
وقد أخرج ابن أبي حاتم عن أبي العالية في قوله : وقاتلوا في سبيل الله الآية أنها أول آية نزلت في القتال بالمدينة ، فلما نزلت كان رسول الله يقاتل من قاتله ، ويكف عمن كف عنه ، حتى نزلت سورة ( براءة ) .
وأخرج عبد بن حميد عن مجاهد في هذه الآية قال : إن أصحاب محمد أمروا بقتال الكفار .
وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله : ولا تعتدوا يقول : لا تقتلوا النساء والصبيان والشيخ الكبير ولا من ألقى السلم وكف يده ، فإن فعلتم فقد اعتديتم .
وأخرج ابن أبي شيبة عن عمر بن عبد العزيز أنه قال : إن هذه الآية في النساء والذرية ، وأخرج ابن أبي حاتم عن أبي العالية في قوله : والفتنة أشد من القتل يقول : الشرك أشد من القتل .
وأخرج عبد بن حميد وابن جرير عن مجاهد في الآية قال : ارتداد المؤمن إلى الوثن أشد عليه من أن يقتل محقا .
وأخرج ابن أبي شيبة وأبو داود في ناسخه وابن جرير عن قتادة في قوله : ولا تقاتلوهم عند المسجد الحرام حتى يقاتلوكم فيه قال : حتى يبدءوا بالقتال ، ثم نسخ بعد ذلك فقال : وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة .
وأخرج ابن أبي شيبة وعبد بن حميد وأبو داود في ناسخه عن قتادة أن قوله : ولا تقاتلوهم عند المسجد الحرام وقوله : يسألونك عن الشهر الحرام قتال فيه قل قتال فيه كبير فكان كذلك حتى نسخ هاتين الآيتين جميعا في ( براءة ) قوله : فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم ، وقاتلوا المشركين كافة كما يقاتلونكم كافة .
وأخرج ابن جرير عن مجاهد في قوله : فإن انتهوا قال : فإن تابوا .
وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم والبيهقي في الدلائل من طرق عن ابن عباس في قوله : وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة يقول : شرك بالله ويكون الدين ويخلص التوحيد لله .
وأخرج عبد بن حميد وابن جرير عن مجاهد في الآية ، قال : الشرك .
وقوله : فإن انتهوا فلا عدوان إلا على الظالمين قال : لا تقاتلوا إلا من قاتلكم .
وأخرج ابن جرير عن الربيع في قوله : ويكون الدين لله يقول : حتى لا تعبدوا إلا الله .
وأخرج أيضا عن عكرمة في قوله : فلا عدوان إلا على الظالمين قال : هم من أبى أن يقول لا إله إلا الله .
وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن أبي حاتم عن قتادة نحوه .


