فصل  
مما يبعث على  معرفة الإعجاز   اختلافات المقامات وذكر في كل موضع ما يلائمه ، ووضع الألفاظ في كل موضع ما يليق به ، وإن كانت مترادفة ، حتى لو أبدل واحد منها بالآخر ، ذهبت تلك الطلاوة ، وفاتت تلك الحلاوة .  
فمن ذلك أن لفظ الأرض لم ترد في التنزيل إلا مفردة ، وإذا ذكرت والسماء مجموعة لم يؤت بها معها إلا مفردة ، ولما أريد الإتيان بها مجموعة قال :  ومن الأرض مثلهن      ( الطلاق : 12 ) ، تفاديا من جمعها .  
ولفظ البقعة لم تستعمل فيه إلا مفردة ، كقوله تعالى :  في البقعة المباركة      ( القصص : 30 ) فإن جمعت حسن ذلك ورودها مضافة ، كقولهم : بقاع الأرض .  
وكذلك لفظ اللب مرادا به العقل لم يرد إلا مجموعا ، كقوله تعالى :      [ ص: 246 ] وذكرى لأولي الألباب      ( ص : 43 ) ،  لذكرى لأولي الألباب      ( الزمر : 21 ) فإنه يعذب دون الإفراد .  
وكذلك قوله :  ما جعل الله لرجل من قلبين في جوفه      ( الأحزاب : 4 ) وفي موضع آخر :  في بطني محررا      ( آل عمران : 35 ) استعمل الجوف في الأول والبطن في الثاني مع اتفاقهما في المعنى ، ولو استعمل أحدهما في موضع الآخر ، لم يكن له من الحسن والقبول عند الذوق ما لاستعمال كل واحد منهما في موضعه .  
وأما بالنسبة إلى المقامات ; فانظر إلى  مقام الترغيب ،   وإلى مقام الترهيب ، فمقام الترغيب كقوله تعالى :  ياعبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله إن الله يغفر الذنوب جميعا      ( الزمر : 53 ) نجده تأليفا لقلوب العباد ، وترغيبا لهم في الإسلام .  
قيل : وكان سبب نزولها أنه أسلم  عياش بن أبي ربيعة ،  والوليد بن الوليد ،  ونفر معهما ، ثم فتنوا وعذبوا فافتتنوا قال : وكنا نقول : قوم لا يقبل الله منهم صرفا ولا عدلا أبدا . فنزلت فكتب بها   عمر بن الخطاب  إليهم رضي الله عنه حين فهم قصد الترغيب ، فآمنوا وأسلموا وهاجروا .  
ولا يلزم دلالتها على مغفرة الكفر ، لكونه من الذنوب ، فلا يمكن حملها على فضل الترغيب في الإسلام ، وتأليف القلوب له لوجوه :  
منها أن قوله :  يغفر الذنوب جميعا   عام دخله التخصيص بقوله :  إن الله لا يغفر أن يشرك به      ( النساء : 48 ) فيبقى معتبرا فيما عداه .  
ومنها أن لفظ العباد مضافا إليه في القرآن مخصوص بالمؤمنين ; قال تعالى :  عينا يشرب بها عباد الله      ( الدهر : 6 ) .  
 [ ص: 247 ] فإن قلت : فلم يكونوا مؤمنين حال الترغيب ! قلت كانوا مؤمنين قبله ; بدليل سبب نزولها ، وعوملوا هذه المعاملة من الإضافة مبالغة في الترغيب .  
وأما  مقام الترهيب   فهو مضاد له ; كقوله تعالى :  ومن يعص الله ورسوله ويتعد حدوده يدخله نارا خالدا فيها      ( النساء : 14 ) ويدل على قصد مجرد الترهيب بطلان النصوصية من ظاهرها على عدم المغفرة لأهل المعاصي ; لأن " من " للعموم لأنها في سياق الشرط ، فيعم في جميع المعاصي ، فقد حكم عليهم بالخلود ، وهو ينافي المغفرة ، وكذلك كل مقام يضاد الآخر ، ويعتبر التفاضل بين العبارتين من وجوه :  
أحدها : المعاني الإفرادية ; بأن يكون بعضها أقوى دلالة وأفخم مسمى ، وأسلس لفظا ونحوه .  
الثاني : المعاني الإعرابية بأن يكون مسماها أبلغ معنى ; كالتمييز مع البدل في قوله تعالى :  واشتعل الرأس شيبا      ( مريم : 4 ) مع اشتعل الرأس شيبة ; وهذا أبلغ من : ( اشتعل شيب الرأس ) .  
الثالث : مواقع التركيب كقوله تعالى :  وقال الله لا تتخذوا إلهين اثنين      ( النحل : 51 ) فإن الأولى جعل اثنين مفعول " تتخذوا " و " إلهين " صفة له تقدمت ، فانتصبت على الحال ، والتقدير : اتخذوا إلهين اثنين ، لأن اثنين أعم من إلهين .  
				
						
						
