[ ص: 256 ] النوع الأربعون  
في بيان معاضدة السنة للقرآن  
اعلم أن  القرآن والحديث أبدا متعاضدان   على استيفاء الحق وإخراجه من مدارج الحكمة ; حتى إن كل واحد منهما يخصص عموم الآخر ، ويبين إجماله .  
ثم منه ما هو ظاهر ، ومعه ما يغمض ، وقد اعتنى بإفراد ذلك بالتصنيف :   الإمام أبو الحكم بن برجان  في كتابه المسمى بـ " الإرشاد " ، وقال : ما قال النبي صلى الله عليه وسلم من شيء فهو في القرآن ، أو فيه أصله ، قرب أو بعد ، فهمه من فهمه ، وعمه عنه من عمه ، قال الله تعالى :  ما فرطنا في الكتاب من شيء      ( الأنعام : 38 ) .  
ألا تسمع إلى قوله صلى الله عليه وسلم في حديث الرجم :  لأقضين بينكما بكتاب الله تعالى     . وليس في نص كتاب الله الرجم .  
وقد أقسم النبي صلى الله عليه وسلم أن يحكم بينهما بكتاب الله ، ولكن الرجم فيه تعريض مجمل في قوله تعالى :  ويدرأ عنها العذاب      ( النور : 8 ) .  
وأما تعيين الرجم من عموم ذكر العذاب ، وتفسير هذا المجمل ، فهو مبين بحكم الرسول وأمره به ; وموجود في عموم قوله :  وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا      ( الحشر : 7 ) وقوله :  من يطع الرسول فقد أطاع الله      ( النساء : 80 ) .  
 [ ص: 257 ] وهكذا حكم جميع قضائه ، وحكمه على طرقه التي أتت عليه ، وإنما يدرك الطالب من ذلك بقدر اجتهاده وبذل وسعه ، ويبلغ منه الراغب فيه حيث بلغه ربه تبارك وتعالى ; لأنه واهب النعم ، ومقدر القسم .  
وهذا البيان من العلم جليل ، وحظه من اليقين جزيل ، وقد نبهنا صلى الله عليه وسلم على هذا المطلب في مواضع كثيرة من خطابه .  
منها : حين ذكر ما أعد الله تعالى لأوليائه في الجنة فقال :  فيها ما لا عين رأت ، ولا أذن سمعت ، ولا خطر على قلب بشر ، بله ما أطلعتم عليه . ثم قال : اقرءوا إن شئتم : فلا تعلم نفس ما أخفي لهم من قرة أعين ( السجدة : 17 )     .  
ومنها : قالوا يا رسول الله : ألا نتكل وندع العمل ؟ فقال :  اعملوا فكل ميسر لما خلق له ، ثم قرأ :  فأما من أعطى واتقى   وصدق بالحسنى   فسنيسره لليسرى   وأما من بخل واستغنى   وكذب بالحسنى   فسنيسره للعسرى      ( الليل : 5 - 10 )     .  
ووصف الجنة ، فقال :  فيها شجرة يسير الراكب في ظلها مائة عام ، ولا يقطعها . ثم قال : اقرءوا إن شئتم :  وظل ممدود      ( الواقعة : 30 )     .  
 [ ص: 258 ] فأعلمهم  مواضع حديثه من القرآن   ، ونبههم على مصداق خطابه من الكتاب ، ليستخرج علماء أمته معاني حديثه طلبا لليقين ، ولتستبين لهم السبيل ، حرصا منه عليه السلام على أن يزيل عنهم الارتياب ، وأن يرتقوا في الأسباب . ثم بدأ رضي الله عنه بحديث : (  إنما الأعمال بالنيات     ) ، وقال :  موضعه نصا   في قوله تعالى :  من كان يريد العاجلة عجلنا له فيها ما نشاء لمن نريد      ( الإسراء : 18 ) إلى قوله :  فأولئك كان سعيهم مشكورا      ( الإسراء : 19 ) .  
ونظيرها في هود ( الآية : 15 ) والشورى ( الآية : 20 ) .  
وموضع التصريح به قوله :  ولكن يؤاخذكم بما كسبت قلوبكم      ( البقرة : 225 ) و  بما عقدتم الأيمان      ( المائدة : 89 ) .  
وأما التعريض فكثير ، مثل قوله :  الذين يتخذون الكافرين أولياء من دون المؤمنين أيبتغون عندهم العزة فإن العزة لله جميعا      ( النساء : 139 ) ،  من كان يريد العزة فلله العزة جميعا      ( فاطر : 10 ) قد علم الله عز وجل أنهم كانوا يريدون الاعتزاز ، لأن الإنسان مجبول على طلب العزة ; فمخطئ أو مصيب . فمعنى الآية والله أعلم : بلغ هؤلاء المتخذين الكافرين أولياء من دون الله من ابتغاء العزة بهم ، أنهم قد أخطئوا مواضعها وطلبوها في غير مطلبها ، فإن كانوا يصدقون أنفسهم في طلبها فليوالوا الله جل جلاله ، وليوالوا من والاه  ولله العزة ولرسوله وللمؤمنين      ( المنافقون : 8 ) . فكان ظاهر آية النساء تعريضا لظاهر آية المنافقين ، وظاهر آية سورة المنافقين تعريضا بنص الحديث المروي .  
ومن ذلك حديث  جبريل   في الإيمان والإسلام ، بين فيه أن الشهادة بالحق والأعمال      [ ص: 259 ] الظاهرة هي الإسلام ، وأن عقد القلب على التصديق بالحق هو الإيمان ، وهو نص الحديث الذي رواه   ابن أبي شيبة  في " مسنده " : الإسلام ظاهر والإيمان في القلب موضعه من القرآن :  وله أسلم من في السماوات والأرض طوعا وكرها      ( آل عمران : 83 ) وقوله :  أولئك كتب في قلوبهم الإيمان      ( المجادلة : 22 ) ونظائرها :  وأيدهم بروح منه      ( المجادلة : 22 ) قال : وبنيت هاتين الصفتين على الصفات العليا صفات الله - تعالى ظهورها - من الأسماء الحسنى : اسم السلام ، واسم المؤمن .  
ومن ذلك حديث  ضمام بن ثعلبة     :  أفلح إن صدق ، في قوله :  ما على المحسنين من سبيل      ( التوبة : 91 ) .  
وقوله صلى الله عليه وسلم :  من قال لا إله إلا الله حرمه الله على النار   ، في قوله :  الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم أولئك لهم الأمن      ( الأنعام : 82 )  وهو مفهوم من قوله :  إنهم كانوا إذا قيل لهم لا إله إلا الله يستكبرون      ( الصافات : 35 ) فأخبر أنهم دخلوا النار من      [ ص: 260 ] أجل استكبارهم وإبائهم من قول : لا إله إلا الله ، مفهوم هذا أنهم إذا قالوها مخلصين بها حرموا على النار .  
وقوله صلى الله عليه وسلم :  من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم ضيفه   في قوله تعالى :  حديث ضيف إبراهيم المكرمين      ( الذاريات : 24 ) وقوله :  والجار ذي القربى والجار الجنب والصاحب بالجنب وابن السبيل      ( النساء : 36 ) وهذه الأربع كلمات جمعن حسن الصحبة للخلق ; لأن من كف شره وأذاه ، وقال خيرا أو صمت عن الشر وأفضل على جاره ، وأكرم ضيفه ، فقد نجا من النار ، ودخل الجنة إذا كان مؤمنا بالله وسبقت له الحسنى ، فإن العاقبة مستورة ، والأمور بخواتيمها ; ولهذا قيل : لا يغرنكم صفاء الأوقات ، فإن تحتها غوامض الآفات .  
وقوله :  رأس الكفر نحو المشرق   في قوله تعالى :  وكذلك نري إبراهيم ملكوت السماوات والأرض وليكون من الموقنين   فلما جن عليه الليل رأى   الآية ( الأنعام : 75 و 76 ) فأخبر أن الناظر في ملكوت الله لا بد له من ضروب الامتحان ، وأن الهداية يمنحها الله للناظر بعد التبري منها والمعصوم من عصمه الله ، قال الله تعالى :  إني ذاهب إلى ربي سيهدين      ( الصافات : 99 ) وقال :  فلما اعتزلهم وما يعبدون من دون الله وهبنا له إسحاق ويعقوب      ( مريم : 49 ) وطلوع الكواكب نحو المشرق ومن هناك إقبالها ، وذلك أشرف لها وأكبر لشأنها عند المفتونين ، وغروبها إدبارها ، وطلوعها بين قرني الشيطان من      [ ص: 261 ] أجل ذلك ليزينها لهم ، قال - تعالى - :  وجدتها وقومها يسجدون للشمس من دون الله وزين لهم الشيطان أعمالهم      ( النمل : 24 ) ولما كان في مطلع النيرات من العبر بطلوعها من هناك وظهورها - عظمت المحنة بهن ، ولما في الغروب من عدم تلك العلة التي تتبين هناك بتزيين العدو لها ، وإليه أشار - صلى الله عليه وسلم - بقوله :وتغرب بين قرني الشيطان     .  
ولأجل ما بين معنى الإقبال والإدبار كان باب التوبة مفتوحا من جهته إلى يوم تطلع الشمس منه ، ألا تسمع إلى قوله - تعالى - :  وجدها تطلع على قوم لم نجعل لهم من دونها سترا      ( الكهف : 90 ) أي وقعت عقولهم عليها ، وحجبت بها عن حالتها ، مع قوله :  لا تسجدوا للشمس ولا للقمر      ( فصلت : 37 ) .  
وفي قوله عند طلوعها : هذا ربي ( الأنعام : 76 ) وعند غروبها :  لا أحب الآفلين      ( الأنعام : 76 ) ،  لئن لم يهدني ربي لأكونن من القوم الضالين      ( الأنعام : 77 ) ما يبين تصديق النبي - صلى الله عليه وسلم - في قوله :  رأس الفتنة والكفر نحو المشرق ، وإن باب التوبة مفتوح من قبل المغرب     .  
ومن ذلك بدء الوحي في قوله - سبحانه - :  أتى أمر الله فلا تستعجلوه      ( النحل : 1 ) إلى قوله :  ينزل الملائكة بالروح من أمره على من يشاء من عباده      ( النحل : 2 ) .  
 [ ص: 262 ] وقول   خديجة     :  والله لا يخزيك الله أبدا إنك لتصل الرحم  وقوله - تعالى - :  ادع لنا ربك بما عهد عندك      ( الأعراف : 134 ) وقوله :  فلولا أنه كان من المسبحين      ( الصافات : 143 ) وفي هذا بين - صلى الله عليه وسلم - أصحاب الغار الثلاثة ، إذ قال بعضهم لبعض : ليدع كل واحد منكم بأفضل أعماله لعل الله - تعالى - أن يفرج عنا .  
وقول  ورقة     : يا ليتني حي إذ يخرجك قومك إلخ ، وقوله - تعالى - :  لنخرجنك ياشعيب      ( الأعراف : 88 ) وقوله - تعالى - :  وقال الذين كفروا لرسلهم لنخرجنكم من أرضنا أو لتعودن في ملتنا      ( إبراهيم : 13 ) .  
وكذلك قوله : "  لم يأت أحد بما جئت به إلا عودي     " من قوله - تعالى - :  كذلك ما أتى الذين من قبلهم من رسول إلا قالوا ساحر أو مجنون   أتواصوا به بل هم قوم طاغون      ( الذاريات : 52 و 53 ) ومن ذلك حديث المعراج ، . . . . . . . .      [ ص: 263 ] مصداقه في سورة الإسراء وفي صدر سورة النجم .  
وقوله - صلى الله عليه وسلم - :  رأيت إبراهيم وأنا أشبه ولده به   من مفهوم قوله - تعالى - :  ثم أوحينا إليك أن اتبع ملة إبراهيم حنيفا      ( النحل : 123 ) .  
وبتصديق كلمة الله ، اتبعه كونا وملة ، وهكذا حاله حيث جاءت صدقا وعدلا فتطلب صدق كلماته بترداد تلاوتك لكتابه ، ونظرك في مصنوعاته ، فهذا هو قصد سبيل المتقين ، وأرفع مراتب الإيمان ، قال - تعالى - :  فآمنوا بالله ورسوله النبي الأمي الذي يؤمن بالله وكلماته      ( الأعراف : 158 ) وقال  لزكريا      :  أن الله يبشرك بيحيى مصدقا بكلمة من الله وسيدا وحصورا ونبيا من الصالحين      ( آل عمران : 39 ) ولما كان  عيسى   عليه السلام من أسمى كلماته لم يأت يوم القيامة بذنب لطهارته وزكاته .  
وقوله - صلى الله عليه وسلم - :  إن الله لا ينام      . في قوله :  لا تأخذه سنة ولا نوم      ( البقرة : 255 ) .  
وقوله :  ولا ينبغي له أن ينام     . من قوله : القيوم ( البقرة : 255 ) وفسره - صلى الله عليه وسلم - بقوله :  يخفض القسط ويرفعه ، ويرفع إليه عمل الليل قبل عمل النهار ، وعمل النهار قبل عمل الليل  ومصداقه أيضا قوله تعالى :  قل اللهم مالك الملك تؤتي الملك من تشاء وتنزع الملك ممن تشاء      ( آل عمران : 26 ) .  
 [ ص: 264 ] ومن ذلك قوله - صلى الله عليه وسلم - :  الصلوات الخمس كفارات لما بينهن  وقال :  الجمعة إلى الجمعة كفارة لما بينهما وزيادة ثلاثة أيام     .  ورمضان إلى رمضان كفارة لما بينهما  في قوله - تعالى - :  من جاء بالحسنة فله عشر أمثالها      ( الأنعام : 160 ) ، فهذا رمضان بعشرة أشهر العام ، ويبقى شهران داخلان في كرم الله - تعالى - وحسن معاملته .  
قلت : قد جاء في حديث آخر :  وأتبعه بست من شوال فكأنما صام الدهر  ، مع قوله - تعالى - :  من جاء بالحسنة فله عشر أمثالها   انتهى .  
وقال في الجمعة :  فاسعوا إلى ذكر الله وذروا البيع ذلكم خير لكم إن كنتم تعلمون      ( الآية : 9 ) وكذلك قال في الصوم :  وأن تصوموا خير لكم إن كنتم تعلمون      ( البقرة : 184 ) أشار إلى سر في الجمعة ، وفضل عظيم ، أراهما الزيارة والرؤية في الجنة ، فإنها تكون في يوم الجمعة . وكذلك أشار في الصيام بقوله :  إن كنتم تعلمون      ( البقرة : 184 ) إلى سر في الصيام ، وهو حسن عاقبته وجزيل عائدته ، فنبه - صلى الله عليه وسلم - بقوله :  لخلوف فم الصائم أطيب عند الله يوم القيامة من ريح المسك     .  
وقوله وقد رأى أعقابهم تلوح لم يصبها الماء :  ويل للأعقاب من النار   في مفهوم      [ ص: 265 ] فاغسلوا      ( المائدة : 6 ) في معنى قوله :  لتبين للناس ما نزل إليهم      ( النحل : 44 ) وغسل هو قدميه وعمهما غسلا .  
وقال :  فليحذر الذين يخالفون عن أمره أن تصيبهم فتنة أو يصيبهم عذاب أليم      ( النور : 63 ) مع قوله :  ومن يعص الله ورسوله ويتعد حدوده يدخله نارا خالدا فيها وله عذاب مهين      ( النساء : 14 ) .  
وقوله :  إذا توضأ العبد المسلم فغسل وجهه خرج من كل خطيئة نظر إليها بعينيه   الحديث ، من قوله - تعالى - :  ولكن يريد ليطهركم      ( المائدة : 6 ) أي من ذنوبكم  وليتم نعمته عليكم لعلكم تشكرون      ( المائدة : 6 ) أي ترقون في درجة الشكر فيتقبل أعمالكم القبول الأعلى ، ولهذا قال - صلى الله عليه وسلم - :  وكان مشيه إلى المسجد وصلاته نافلة  فله الشكر ، والشكر درجات ؛ وإنما يتبين بأن يبقى من العمل بعد الكفارة فضل ، وهو النافلة ، وهو المسمى بالباقيات الصالحات ، لمن قلت ذنوبه ، وكثرت صالحاته ، فذلك الشكر ، ومن كثرت ذنوبه وقلت صالحاته فأكلتها الكفارات ، فذلك المرجو له دخول الجنة ، ومن زادت ذنوبه فلم تقم صالحاته بكفارة ذنوبه ، فذلك المخوف عليه ،  إلا أن يشاء ربي شيئا      ( الأنعام : 80 ) .  
قوله - صلى الله عليه وسلم - :  أنتم الغر المحجلون يوم القيامة  في قوله - تعالى - :  يوم ترى المؤمنين والمؤمنات يسعى نورهم بين أيديهم      ( الحديد : 12 ) .  
وكذلك قوله - صلى الله عليه وسلم - :  تبلغ الحلية من المؤمن حيث يبلغ الوضوء  وهذا كله داخل في قوله - تعالى - :  وليتم نعمته عليكم لعلكم تشكرون      ( المائدة : 6 ) وجاءت لام كي هاهنا      [ ص: 266 ] إشعارا ووعدا وبشارة لهم بنعم أخرى واردة عليهم من الشرائع لم تأت بعد ، ولذلك قال يوم الإكمال في حجة الوداع :  اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي      ( المائدة : 3 ) .  
ومن ذلك حديث الأذان وكيفيته بقوله :  أشهد أن لا إله إلا الله  ، من قوله :  شهد الله أنه لا إله إلا هو والملائكة وأولو العلم      ( آل عمران : 18 ) . ) وتكرارها في قوله :  لا إله إلا هو      ( آل عمران : 18 ) .  
وقوله :  أشهد أن  محمدا   رسول الله   ، في قوله - تعالى - :  محمد رسول الله      ( الفتح : 29 ) ،  وما محمد إلا رسول      ( آل عمران : 144 ) مع قوله :  لكن الله يشهد بما أنزل إليك أنزله بعلمه والملائكة يشهدون وكفى بالله شهيدا      ( النساء : 166 ) وتكرار الشهادة للرسول في معنى قوله : وكفى بالله شهيدا مع قوله - تعالى - :  ياأيها الذين آمنوا اذكروا الله ذكرا كثيرا      ( الأحزاب : 41 ) والتنبيه أول الكثرة ، ولأنها عبارة شرعت للإعلام ، فتكرارها آكد فيما شرعت له .  
وأما إسراره بهما - يعني بالشهادتين - فمن مفهوم قوله :  واذكر ربك في نفسك تضرعا وخيفة ودون الجهر من القول      ( الأعراف : 205 ) وأما إجهاره بهما ففي قوله - تعالى - :  ياأيها الذين آمنوا إذا نودي للصلاة من يوم الجمعة      ( الجمعة : 9 ) والنداء الإعلام ، ولا يكون إلا بنهاية الجهر .  
وقوله :    " حي على الصلاة "   في قوله :  وإذا ناديتم إلى الصلاة      ( المائدة : 58 ) ،  إذا نودي للصلاة      ( الجمعة : 9 ) .  
وقوله :    " حي على الفلاح "   في قوله :  اركعوا واسجدوا واعبدوا ربكم وافعلوا الخير لعلكم تفلحون      ( الحج : 77 ) .  
 [ ص: 267 ] وقوله :  الصلاة خير من النوم   ، في قوله :  وذكر فإن الذكرى تنفع المؤمنين      ( الذاريات : 55 ) ،  وقوله :  ولا تولوا عنه وأنتم تسمعون       ( الأنفال : 20 ) .  
وقوله :    " الله أكبر ، الله أكبر "   من قوله :  ولتكبروا الله على ما هداكم ولعلكم تشكرون      ( البقرة : 185 ) .  
وقوله :  لا إله إلا الله       ( القتال : 19 ) كررها وختم بها في قوله :  واذكروه كما هداكم      ( البقرة : 198 ) ،  وأفضل الذكر لا إله إلا الله  فختم بما بدأ به لقوله :  هو الأول والآخر      ( الحديد : 3 ) .  
وقوله - صلى الله عليه وسلم - :  صلوا علي فإنه من صلى علي واحدة صلى الله عليه بها عشرا   في قوله :  من جاء بالحسنة فله عشر أمثالها      ( الأنعام : 160 ) .  
وقوله - صلى الله عليه وسلم - :  ثم سلوا الله لي الوسيلة  في قوله :  عسى أن يبعثك ربك مقاما محمودا      ( الإسراء : 79 ) ،  ياأيها الذين آمنوا اتقوا الله وابتغوا إليه الوسيلة      ( المائدة : 35 ) .  
وقوله :  حلت له شفاعتي يوم القيامة  في قوله :  من يشفع شفاعة حسنة يكن له نصيب منها      ( النساء : 85 ) .  
 [ ص: 268 ] وقوله - صلى الله عليه وسلم - :  دعوة المسلم لأخيه بظهر الغيب مستجابة   ، عند رأسه ملك موكل به ، كلما دعا لأخيه بشيء قال الملك : آمين ولك بمثله  ، في قوله - تعالى - :  اهدنا الصراط المستقيم      ( الفاتحة : 6 ) إلى آخر السورة ، هذا دعاء من يأتي به لنفسه ولجماعة المسلمين بظهر الغيب ، تقول الملائكة في السماء : آمين ، وقد قال - تعالى - : ولعبدي ما سأل .  
ومن ذلك  قوله - صلى الله عليه وسلم - :  إن  إبراهيم   حرم  مكة   وأنا حرمت  المدينة    وقوله - تعالى - :  لا أقسم بهذا البلد      ( البلد : 1 ) يريد  مكة   ، ثم قال :  وأنت حل بهذا البلد      ( البلد : 2 ) يمكن أن يريد به  المدينة   ، ويكون في الآية تعريض بحرمة البلدين ، حيث أقسم بهما ، وتكراره البلد مرتين دليل على ذلك ، وجعل الاسمين لمعنيين أولى من أن يكونا لمعنى واحد ، وأن يستعمل الخطاب في البلدين أولى من استعماله في أحدهما ؛ بدليل وجود الحرمة فيهما .  
ومن ذلك حديث الدجال . قلت : وقع سؤال بين جماعة من الفضلاء في أنه :  ما الحكمة في أنه لم يذكر الدجال في القرآن   ؟ ! وتلمحوا في ذلك حكما ، ثم رأيت هذا الإمام قال : إن في القرآن تعريضا بقصته في قصة  السامري  ، وقوله - سبحانه - :  وإن لك موعدا لن تخلفه      ( طه : 97 )      [ ص: 269 ] وقوله في سورة الإسراء في قوله :  وقضينا إلى بني إسرائيل في الكتاب لتفسدن في الأرض مرتين ولتعلن علوا كبيرا   فإذا جاء وعد أولاهما      ( الإسراء : 4 و 5 ) فذكر الوعد الأول ، ثم ذكر الكرة التي  لبني إسرائيل   عليه ، ثم ذكر الآخرة فقال :  فإذا جاء وعد الآخرة ليسوءوا وجوهكم      ( الإسراء : 7 ) الآية ثم قال :  وإن عدتم عدنا      ( الإسراء : 8 ) وفيه إشارة إلى خروج  عيسى      .  
وكذلك هو في الآيات الأول من سورة الكهف في قوله :  وإنا لجاعلون ما عليها صعيدا جرزا      ( الآية : 8 ) والدجال مما على الأرض ، ولهذا قال - صلى الله عليه وسلم - :  من قرأ الآيات من أول سورة الكهف عصمه الله من فتنة الدجال  يريد والله أعلم : من قرأها بعلم ومعرفة . وهو أيضا في المفهوم من قوله :  محمد رسول الله      ( الفتح : 29 ) ،  وخاتم النبيين      ( الأحزاب : 40 ) .  
ومن الأمر بمجاهدة المشركين والمنافقين قوله - صلى الله عليه وسلم - :  تخرج الأرض أفلاذ كبدها ، ويحسر  الفرات   عن جبل من ذهب  في قوله - تعالى - :  وأخرجت الأرض أثقالها      ( الزلزلة : 2 ) فإن الأرض تلقي ما فيها من الذهب والفضة ، حتى يكون آخر ما تلقي الأموات أحياء .  
ومصداقه أيضا في عموم قوله :  يخرج الخبء في السماوات والأرض      ( النمل : 25 ) فتوجه القرآن إلى الإخبار عن إخراجها الأموات أحياء ، وتوجه الحديث إلى الإخبار عن إخراجها كنوزها ومعادنها .  
وقوله - صلى الله عليه وسلم - :  حتى تعود أرض العرب مروجا  في قوله - تعالى - :      [ ص: 270 ] حتى إذا أخذت الأرض زخرفها وازينت وظن أهلها أنهم قادرون عليها أتاها أمرنا ليلا أو نهارا فجعلناها حصيدا كأن لم تغن بالأمس      ( يونس : 24 ) الآية .  
وذلك يكون عند إتمام كلمة الحق :  وإن تتولوا يستبدل قوما غيركم      ( محمد : 38 ) وقد تولوا ، وقوله :  وآخرين منهم لما يلحقوا بهم      ( الجمعة : 3 ) يومئذ تظهر العاقبة ، ويلقي الأمر بجرانه ، وتضع الحرب أوزارها ، ويكون ذلك علما على الساعة ، وآية على قرب الانقراض .  
وقوله - صلى الله عليه وسلم - في مثل الدنيا :  إن مما أخاف عليكم ما يفتح عليكم من زهرة الدنيا وزينتها  في قوله - تعالى - :  كلا إن الإنسان ليطغى   أن رآه استغنى      ( العلق : 6 و 7 ) وقوله :  أنما الحياة الدنيا لعب      ( الحديد : 20 ) .  
ومن ذلك قوله - صلى الله عليه وسلم - :  إذا جاء رمضان فتحت أبواب الجنة وغلقت أبواب النار وصفدت الشياطين  في مفهوم قوله - تعالى - :  كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم لعلكم تتقون      ( البقرة : 183 ) إلى أن الصوم ينتهي نفعه إلى اكتساب التقوى ؛ ولذلك قال - صلى الله عليه وسلم - :  الصيام جنة  ، ولا يكون ذلك إلا بضعف حزب الشيطان ، فتغلق عنه أبواب المعاصي ؛ وهى أبواب جهنم ، وتفتح له أبواب الطاعة والقربات ، وهي أبواب الجنات .  
 [ ص: 271 ] وقوله - صلى الله عليه وسلم - :  تسحروا فإن في السحور بركة  من آثار قوله - تعالى - :  وكلوا واشربوا حتى يتبين لكم الخيط الأبيض      ( البقرة : 187 ) ومن بركة حضوره الذي هو وقت نزوله - جل وعلا - إلى سماء الدنيا كل ليلة ، فكأنه - صلى الله عليه وسلم - يبتغي البركة في موضع خطاب ربه ، وفي موضع حضوره أو ذكره ، أو اسم من أسمائه ، ومن هنا وقع التعبد باسم المبارك ، واسم القدوس .  
وقوله - صلى الله عليه وسلم - :  إذا أقبل الليل من هاهنا وأدبر النهار من هاهنا ، فقد أفطر الصائم  في قوله - تعالى - :  ثم أتموا الصيام إلى الليل      ( البقرة : 187 ) وقوله :  حتى يتبين لكم الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر      ( البقرة : 187 ) والبركة في اتباع مجاري خطابه ، وإن كان الخطاب حكمه حكم إباحة ؛ كما أن البركة في اتباع السنة والاقتداء ؛ ولهذا كان أكثر الصحابة لا يصلون المغرب إلا على فطر ، وكانوا يؤخرون السحور إلى بزوغ الفجر ابتغاء البركة في ذلك ، والخير الموعود به .  
وقوله - صلى الله عليه وسلم - :  إني أبيت عند ربي يطعمني ويسقين  في معنى قوله حكاية عن خليله :  والذي هو يطعمني ويسقين      ( الشعراء : 79 ) والمعنى بما يفتح الله لخاصته من خلقه الذين لا يطعمون ، إنما غذاؤهم التسبيح والتهليل والتحميد .  
وقوله - صلى الله عليه وسلم - في حديث  الصعب بن جثامة     :  إنا لم نرده عليك إلا أنا حرم  ، في مفهوم      [ ص: 272 ] قوله - تعالى - :  لا تقتلوا الصيد وأنتم حرم      ( المائدة : 95 ) والآكل راض والراضي شريك .  
وقوله - صلى الله عليه وسلم - في حديث  حنظلة     :  لو أنكم تدومون على ما كنتم عندي لصافحتكم الملائكة ولكن ساعة وساعة  في قوله :  وإذا مس الإنسان الضر دعانا لجنبه أو قاعدا أو قائما فلما كشفنا عنه ضره مر كأن لم يدعنا إلى ضر مسه      ( يونس : 12 ) وقوله :  ثم إذا مسكم الضر فإليه تجأرون   ثم إذا كشف الضر عنكم إذا فريق منكم بربهم يشركون      ( النحل : 53 و 54 ) .  
فذكر - تعالى - اللجأ إليه عندما يلحق الإنسان الضر ، وهو ذكر صوري ، فلو كان الذكر بينهم على الدوام ، لم تفارقهم الملائكة السياحون الملازمون حلق الذكر ، كما قال - تعالى - عنهم :  يسبحون الليل والنهار لا يفترون      ( الأنبياء : 20 ) ولو قربوا من الملائكة هذا القرب لبدت لهم عيانا ، ولأكرمهم الله منه بحسن الصحبة وجميل الألفة .  
وقوله - صلى الله عليه وسلم - :  يبعث كل عبد على ما مات عليه  في قوله - تعالى - :  سواء محياهم ومماتهم      ( الجاثية : 21 ) .  
وقوله - صلى الله عليه وسلم - :  إذا أراد الله بقوم عذابا أصاب من كان منهم ثم يبعثون على أعمالهم  في قوله - تعالى - :  واتقوا فتنة لا تصيبن الذين ظلموا منكم خاصة      ( الأنفال : 25 ) .  
 [ ص: 273 ] وقوله - صلى الله عليه وسلم - :  من سن في الإسلام سنة حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها إلى يوم القيامة من غير أن ينقص من أجورهم شيء ، ومن سن في الإسلام سنة سيئة كان عليه وزرها ، ووزر من عمل بها إلى يوم القيامة  في قوله - تعالى - :  من يشفع شفاعة حسنة يكن له نصيب منها ومن يشفع شفاعة سيئة يكن له كفل منها      ( النساء : 85 ) ومع قوله :  ليحملوا أوزارهم كاملة يوم القيامة ومن أوزار الذين يضلونهم بغير علم      ( النحل : 25 ) .  
وقوله :  وليحملن أثقالهم وأثقالا مع أثقالهم      ( العنكبوت : 13 ) مع ما جاء من نبأ ابني آدم .  
وقوله - صلى الله عليه وسلم - في جواب من سأله :  أي الصدقة أعظم ؟ قال : أن تصدق وأنت صحيح شحيح ، ولا تمهل حتى إذا بلغت الحلقوم  والحديث في قوله - تعالى - :  قل لعبادي الذين آمنوا يقيموا الصلاة وينفقوا مما رزقناهم سرا وعلانية من قبل أن يأتي يوم لا بيع فيه ولا خلال      ( إبراهيم : 31 ) .  
وقوله :  اليد العليا خير من اليد السفلى  في قوله - تعالى - :  والله الغني وأنتم الفقراء      ( محمد : 38 ) .  
وقد جاء : أن اليد السفلى الآخذة ، والعليا هي المعطية ، وشاهده قوله - تعالى - :  من ذا الذي يقرض الله قرضا حسنا      ( الحديد : 11 ) .  
 [ ص: 274 ] وقوله - صلى الله عليه وسلم - حكاية عن الله - تعالى - :  من يقرض غير عديم ولا ظلوم  ووجه ذلك أن العطية من أيدينا مفتقرة إلى من يضع فيها حقا وجب عليها ، ويطهرها بذلك من ذنوبها وأنجاسها ، ولولا اليد الآخذة ما قدر صاحب المال على صدقة .  
وقوله - صلى الله عليه وسلم - :  من يرد الله به خيرا يفقهه  في قوله - تعالى - :  وإلهكم إله واحد      ( البقرة : 163 ) إلى قوله :  لآيات لقوم يعقلون      ( البقرة : 164 ) .  
وقوله :  انظر كيف نصرف الآيات لعلهم يفقهون      ( الأنعام : 65 ) وقوله :  تحسبهم جميعا وقلوبهم شتى ذلك بأنهم قوم لا يعقلون      ( الحشر : 14 ) ووصف من لم يفهم عن المخلوقات بقوله :  ولكن لا تفقهون تسبيحهم      ( الإسراء : 44 ) ثم أعلم - سبحانه - سعة مغفرته لمن في الأرض الذين لا يسبحونه ولا يفقهون تسبيح المسبحين من خلقه ، ثم أعلم بالعلة التي لأجلها حرموا الفقه عن ربهم ، وأن ذلك هو ختم عقوبة الإعراض بقوله :  وإذا قرأت القرآن جعلنا بينك وبين الذين لا يؤمنون بالآخرة حجابا مستورا   وجعلنا على قلوبهم أكنة أن يفقهوه      ( الإسراء : 45 و 46 ) الآية .  
وبالجملة فالقرآن كله لم ينزله - تعالى - إلا ليفهمه ، ويعلم ويفهم ، ولذلك خاطب به أولي الألباب الذين يعقلون ، والذين يعلمون ، والذين يفقهون ، والذين يتفكرون ، والذين يتدبرون ، ليدبروا آياته ، وليتذكر أولو الألباب .  
وكذلك ما خلق الله الدنيا إلا مثالا      [ ص: 275 ] للآخرة ؛ فمن فقه عن ربه - عز وجل - مراده منها ؛ فقد أراح نفسه وأجم فكره من هذه الجملة . وفي هذا النوع من الفقه أفنى أولو الألباب أعمارهم ، وفي تعريفه أتعبوا قلوبهم ، وواصلوا أفكارهم .  
رزقنا الله من فضله العظيم نورا نمشي به في الظلمات ، وفرقانا نفرق به بين المتشابهات .  
 
				 
				
 
						 
						

 
					 
					