فصل  
ومما يعين على المعنى عند الإشكال أمور :  
أحدها :  رد الكلمة لضدها ؛   كقوله - تعالى - :  ولا تطع منهم آثما أو كفورا      ( الإنسان : 24 ) أي ولا كفورا ، والطريقة أن يرد النهي منه إلى الأمر ، فنقول : معنى أطع هذا أو هذا أطع أحدهما ، وعلى هذا معناه في النهي ، ولا تطع واحدا منهما .  
الثاني :  ردها إلى نظيرها ؛   كما في قوله - تعالى - :  يوصيكم الله في أولادكم      ( النساء : 11 ) فهذا عام ، وقوله :  فوق اثنتين      ( النساء : 11 ) قول حد أحد طرفيه ، وأرخي الطرف الآخر إلى غير نهاية ؛ لأن أول ما فوق الثنتين الثلاث ، وآخره لا نهاية له .  
وقوله :  وإن كانت واحدة      ( النساء : 11 ) محدودة الطرفين ، فالثنتان خارجتان من هذا الفصل ، وأمسك الله - تعالى - عن ذكر الثنتين ، وذكر الواحدة والثلاث وما فوقها ، وأما قوله في الأخوات :  إن امرؤ هلك ليس له ولد وله أخت فلها نصف ما ترك      ( النساء : 176 ) الآية ، فذكر الواحدة والاثنتين ، وأمسك عن ذكر الثلاث وما فوقهن ، فضمن كل واحد من الفصلين ما كف عن ذكره في الآخر ، فوجب حمل كل واحد منهما فيما أمسك عنه فيه على ما ذكره في غيره .  
الثالث :  ما يتصل بها من خبر أو شرط أو إيضاح في معنى آخر ،   كقوله - تعالى - :  من كان يريد العزة فلله العزة جميعا      ( فاطر : 10 ) يحتمل أن يكون معناها      [ ص: 335 ] من كان يريد أن يعز أو تكون العزة له ؛ لكن قوله - تعالى - :  فلله العزة جميعا      ( فاطر : 10 ) يحتمل أن يكون معناها : من كان يريد أن يعلم لمن العزة ، فإنها لله .  
وكذلك قوله :  إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله      ( المائدة : 33 ) فإنه لا دلالة فيها على الحال التي هي شرط في عقوبته المعينة ، وأنواع المحاربة والفساد كثيرة ، وإنما استفيدت الحال من الأدلة الدالة على أن القتل على من قتل ولم يأخذ المال ، والصلب على من جمعهما ، والقطع على من أخذ المال ولم يقتل ، والنفي على من لم يفعل شيئا من ذلك سوى السعي في الأرض بالفساد .  
الرابع :  دلالة السياق ، فإنها ترشد إلى تبيين المجمل ،   والقطع بعدم احتمال غير المراد ، وتخصيص العام ، وتقييد المطلق ، وتنوع الدلالة ، وهو من أعظم القرائن الدالة على مراد المتكلم ، فمن أهمله غلط في نظيره ، وغالط في مناظراته ، وانظر إلى قوله - تعالى - :  ذق إنك أنت العزيز الكريم      ( الدخان : 49 ) كيف تجد سياقه يدل على أنه الذليل الحقير .  
الخامس :  ملاحظة النقل عن المعنى الأصلي ،   وذلك أنه قد يستعار الشيء لمشابهه ؛ ثم يستعار من المشابه لمشابه المشابه ؛ ويتباعد عن المسمى الحقيقي بدرجات ؛ فيذهب عن الذهن الجهة المسوغة لنقله من الأول إلى الآخر وطريق معرفة ذلك بالتدريج ، كقوله - تعالى - :  لا يتخذ المؤمنون الكافرين أولياء من دون المؤمنين      ( آل عمران : 28 ) وذلك أن أصل " دون " للمكان الذي هو أنزل من مكان غيره ، ومنه الشيء الدون للحقير ، ثم استعير للتفاوت في الأحوال والرتب ، فقيل : زيد دون عمرو في العلم والشرف ، ثم اتسع فيه ، فاستعير في كل ما يتجاوز حدا إلى حد ، وتخطى حكما إلى حكم آخر ، كما في الآية المذكورة ؛ والتقدير : لا تتجاوزوا ولاية المؤمنين إلى ولاية الكافرين .  
وكذلك قوله - تعالى - :  وادعوا شهداءكم من دون الله      ( البقرة : 23 ) أي تجاوزوا الله في دعائكم إلى دعاء آلهتكم ، الذين تزعمون أنهم يشهدون لكم يوم القيامة ، أي لا      [ ص: 336 ] تستشهدوا بالله ، فإنها حجة يركن إليها العاجز عن البينات من الناس ، بل ائتوا ببينة تكون حجة عند الحكام ، وهذا يؤذن بأنه لم يبق لهم تشبث سوى قولهم : الله يشهد لنا عليكم . هذا إذا جعلت (  من دون الله      ) متعلقا بـ ( ادعوا ) فإن جعلته متعلقا بـ (  شهداءكم      ) احتمل معنيين : أحدهما : أن يكون المعنى : ادعوا الذين تجاوزتم في زعمكم شهادة الله ؛ أي شهادتهم لكم يوم القيامة . والثاني : على أن يراد بـ (  شهداءكم      ) آلهتكم ؛ أي ادعوا الذين تجاوزتم في اتخاذكم ألوهية الله إلى ألوهيتهم .  
ويحتمل أن يكون التقدير : (  من دون الله      ) أي من غير المؤمنين يشهدون لكم أنكم آمنتم بمثله ؛ وفي هذا إرخاء عنان الاعتماد على أن فصحاءهم تأنف نفوسهم من مساجلة الحق الجلي بالباطل اللجلجي . وتعليقه بـ ( ادعوا ) على هذا جائز .  
ومنه قوله - تعالى - :  أو كالذي مر على قرية      ( البقرة : 259 ) فإنه عطفه على قوله :  ألم تر   لأنها بمعنى هل رأيت .  
السادس :  معرفة النزول ،   وهو من أعظم المعين على فهم المعنى ، وسبق منه في أول الكتاب جملة ، وكانت الصحابة والسلف يعتمدونه ،وكان   عروة بن الزبير  قد فهم من قوله - تعالى - :  فلا جناح عليه أن يطوف بهما      ( البقرة : 158 ) أن السعي ليس بركن ، فردت عليه  عائشة  ذلك ، وقالت : لو كان كما قلت ، لقال : فلا جناح عليه ألا يطوف بهما  ، وثبت أنه إنما أتى بهذه الصيغة ؛ لأنه كان وقع فزع في قلوب طائفة من الناس كانوا يطوفون قبل ذلك بين الصفا والمروة للأصنام ، فلما جاء الإسلام ، كرهوا الفعل الذي كانوا يشركون به ، فرفع الله ذلك الجناح من قلوبهم ، وأمرهم بالطواف ؛ رواه   البخاري  في صحيحه . فثبت أنها نزلت ردا على من كان يمتنع من السعي .  
 [ ص: 337 ] ومن ذلك  قصة   مروان بن الحكم  في سؤاله   ابن عباس     : لئن كان كل امرئ فرح بما أوتي ، وأحب أن يحمد بما لم يفعل معذبا لنعذبن أجمعون ! فقال   ابن عباس     : هذه الآيات نزلت في أهل الكتاب ثم تلا :  وإذ أخذ الله ميثاق الذين أوتوا الكتاب لتبيننه للناس ولا تكتمونه      ( آل عمران : 187 ) وتلا :  لا تحسبن الذين يفرحون بما أتوا ويحبون أن يحمدوا بما لم يفعلوا      ( آل عمران : 188 )  قال   ابن عباس     : سألهم النبي - صلى الله عليه وسلم - عن شيء فكتموه ، وأخبروه بغيره ، فخرجوا وقد أروه أن قد أخبروه بما سألهم عنه ، واستحمدوا بذلك إليه ، وفرحوا بما أوتوا من كتمانهم ما سألهم عنه     .  
وقد سبق فيه كلام في النوع الأول في معرفة سبب النزول فاستحضره .  
ومن هذا ما قاله   الشافعي  في قوله - تعالى - :  قل لا أجد في ما أوحي إلي محرما      ( الأنعام : 145 ) أنه لا متمسك فيها  لمالك  على العموم ؛ لأنهم سألوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن      [ ص: 338 ] أشياء فأجابهم عن المحرمات من تلك الأشياء ، وحكاه غير   سعيد بن جبير     .  
السابع : السلامة من التدافع ، كقوله - تعالى - :  وما كان المؤمنون لينفروا كافة فلولا نفر من كل فرقة منهم طائفة ليتفقهوا في الدين      ( التوبة : 122 ) فإنه يحتمل أن الطوائف لا تنفر من أماكنها وبواديها جملة ، بل بعضهم لتحصيل التفقه بوفودهم على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وإذا رجعوا إلى قومهم أعلموهم بما حصل لهم ، والفائدة في كونهم لا ينفرون جميعا عن بلادهم حصول المصلحة في حفظ من يتخلف من بعضهم ممن لا يمكن نفيره .  
ويحتمل أن يكون المراد بالفئة النافرة هي من تسير مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في مغازيه وسراياه ، والمعنى حينئذ : أنه ما كان لهم أن ينفروا أجمعين مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في مغازيه لتحصيل المصالح المتعلقة ببقاء من يبقى في  المدينة ،   والفئة النافرة مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - تتفقه في الدين بسبب ما يؤمرون به ويسمعون منه ؛ فإذا رجعوا إلى من بقي  بالمدينة   أعلموهم بما حصل لهم في صحبة الرسول - صلى الله عليه وسلم - من العلم . والاحتمالان قولان للمفسرين .  
قال الشيخ  تقي الدين ابن دقيق العيد     : والأقرب عندي هو الاحتمال الأول ؛ لأنا لو حملناه على الاحتمال الثاني لخالفه ظاهر قوله - تعالى - :  ما كان لأهل المدينة ومن حولهم من الأعراب أن يتخلفوا عن رسول الله ولا يرغبوا بأنفسهم عن نفسه      ( التوبة : 120 ) وقوله - تعالى - :  فانفروا ثبات أو انفروا جميعا      ( النساء : 71 ) فإن ذلك      [ ص: 339 ] يقتضي إما طلب الجميع بالنفير ، أو إباحته ؛ وذلك في ظاهره يخالف النهي عن نفر الجميع ، وإذا تعارض محملان يلزم من أحدهما معارضته ولا يلزم من الآخر ، فالثاني أولى     .  
ولا نعني بلزوم التعارض لزوما لا يجاب عنه ، ولا يتخرج على وجه مقبول ؛ بل ما هو أعم من ذلك ؛ فإن ما أشرنا إليه من الآيتين يجاب عنه بحمل ( أو ) في قوله :  أو انفروا جميعا      ( النساء : 71 ) على التفصيل دون التخيير ، كما رضيه بعض المتأخرين من النحاة ، فيكون نفيرهم ( ثبات ) مما لا تدعو الحاجة إلى نفيرهم فيه ( جميعا ) ونفيرهم جميعا فيما تدعو الحاجة إليه ، ويحمل قوله :  ما كان لأهل المدينة ومن حولهم من الأعراب أن يتخلفوا عن رسول الله      ( التوبة : 120 ) على ما إذا كان الرسول هو النافر للجهاد ، ولم تحصل الكفاية إلا بنفير الجميع ممن يصلح للجهاد ، فهذا أولى من قول من يقول بالنسخ أو أن تكون هذه الآية ناسخة لما اقتضى النفير جميعا .  
ومن المفسرين من يقول : إن منع النفير جميعا حيث يكون رسول الله - صلى الله عليه وسلم -  بالمدينة ،   فليس لهم أن ينفروا جميعا ويتركوه وحده .  
والحمل أيضا على هذا التفسير الذي ذكرناه أولى من هذا ؛ لأن اللفظ يقتضي أن نفيرهم للتفقه في الدين والإنذار ، ونفيرهم مع بقاء رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعدهم لا يناسبه التعليل بالتفقه في الدين ؛ إذ التفقه منه - صلى الله عليه وسلم - وتعلم الشرائع من جهته ، فكيف يكون خروجهم عليه معللا للتفقه في الدين .  
ومنه قوله - تعالى - :  فاتقوا الله ما استطعتم      ( التغابن : 16 ) فإنه يحتمل أن يكون من باب التسهيل والتخفيف ، ويحتمل أن يكون من باب التشديد ؛ بمعنى أنه ما وجدت الاستطاعة فاتقوا ؛ أي لا يبقى من الاستطاعة شيء ، وبمعنى التخفيف يرجع إلى أن المعنى : فاتقوا الله ما تيسر عليكم أو ما أمكنكم من غير عسر . قال الشيخ  تقي الدين   [ ص: 340 ] القشيري     : ويصلح معنى التخصيص قوله - صلى الله عليه وسلم - :  إذا نهيتكم عن شيء فاجتنبوه وإذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم     .  
				
						
						
