الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
معلومات الكتاب

التمهيد لما في الموطأ من المعاني والأسانيد

ابن عبد البر - أبو عمر يوسف بن عبد الله بن محمد بن عبد البر

صفحة جزء
617 [ ص: 114 ] حديث سادس لجعفر بن محمد منقطع

مالك عن جعفر بن محمد عن أبيه أن عمر بن الخطاب ذكر المجوس ، فقال : ما أدري كيف أصنع في أمرهم ؟ ، فقال عبد الرحمن بن عوف : أشهد لسمعت من رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : سنوا بهم سنة أهل الكتاب

التالي السابق


هذا حديث منقطع ; لأن محمد بن علي لم يلق عمر ولا عبد الرحمن بن عوف .

رواه أبو علي الحنفي عن مالك فقال فيه : عن جعفر بن محمد عن أبيه ، عن جده ، وهو مع هذا أيضا منقطع ; لأن علي بن حسين لم يلق عمر ولا عبد الرحمن بن عوف .

أخبرنا أحمد بن عبد الله بن محمد بن علي أن [ ص: 115 ] أباه حدثه ، قال : حدثنا محمد بن قاسم قال : حدثنا ابن الجارود قال : حدثنا أبو بكر بن أبي الحجيم قال : حدثنا عمرو بن علي ، قال : حدثنا عبيد الله بن عبد المجيد الحنفي قال : حدثنا مالك بن أنس عن جعفر بن محمد عن أبيه ، عن جده ، قال : قال عمر : ما أدري ما أصنع بالمجوس ؟ ، فقال له عبد الرحمن بن عوف : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : سنوا بهم سنة أهل الكتاب .

وأخبرنا محمد حدثنا علي بن عمر الحافظ ، حدثنا محمد بن مخلد حدثنا العباس بن محمد الدوري حدثنا أبو علي الحنفي حدثنا مالك بن أنس حدثني جعفر بن محمد عن أبيه ، عن جده أن عمر بن الخطاب قال : ما أدري ما أصنع بالمجوس أهل الذمة ؟ ، فقال عبد الرحمن بن عوف : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : سنتهم سنة أهل الكتاب .

قال مالك : في الجزية ، قال أبو الحسن علي بن عمر : لم يقل في هذا الإسناد ، عن [ ص: 116 ] جده ممن حدث به ، عن مالك غير أبي علي الحنفي وكان ثقة ، وهو في الموطأ : جعفر عن أبيه أن عمر .

قال أبو عمر : وهو مع هذا كله منقطع ولكن معناه متصل من وجوه حسان ، وفيه أن العالم الحبر قد يخفى عليه ما يوجد عند من هو دونه في العلم ، وهذا موجود كثيرا في علم الخبر الذي لا يدرك ، إلا بالتوقيف والسمع ، فإذا كان عمر رضي الله عنه ، لا يبلغه من ذلك ما سمع غيره منه مع موضعه وجلالته فغيره ممن ليس مثله أحرى ، ألا ينكر على نفسه ذلك ، ولا ينكر عليه ، وفيه أن العالم إذا جهل شيئا ، أو أشكل عليه لزمه السؤال والاعتراف بالتقصير والبحث حتى يقف على حقيقة من أمره فيما أشكل عليه .

وفيه إيجاب العمل بخبر الواحد العدل وأنه حجة يلزم العمل بها والانقياد إليها ، ألا ترى أن عمر رضي الله عنه قد أشكل عليه أمر المجوس ، فلما حدثه عبد الرحمن بن عوف عن النبي عليه السلام لم يحتج إلى غير ذلك وقضى به .

وأما قوله سنوا بهم سنة أهل الكتاب فهو من الكلام الذي خرج مخرج العموم ، والمراد منه الخصوص ; لأنه إنما أراد سنوا بهم سنة أهل الكتاب في الجزية وعليها خرج الجواب وإليها أشير بذلك ، ألا ترى أن علماء المسلمين مجتمعون على أن لا يسن بالمجوس سنة أهل الكتاب في نكاح نسائهم ، ولا في ذبائحهم ، إلا شيء روي عن سعيد بن المسيب أنه لم ير بذبح المجوسي لشاة المسلم إذا أمره المسلم بذبحها بأسا ، وقد روي عنه أنه لا يجوز ذلك على ما عليه الجماعة ، والخبر الأول عنه هو خبر شاذ ، وقد اجتمع الفقهاء على خلافه وليست الجزية من الذبائح في شيء ; لأن أخذ [ ص: 117 ] الجزية منهم صغار وذلة لكفرهم ، وقد ساووا أهل الكتاب في الكفر ، بل هم أشد كفرا ، فوجب أن يجروا مجراهم في الذل والصغار وأخذ الجزية منهم ; لأن الجزية لم تؤخذ من الكتابيين رفقا بهم ، وإنما أخذت منهم تقوية للمسلمين وذلا للكافرين ، فلذلك لم يفترق حال الكتابي وغيره عند مالك وأصحابه الذين ذهبوا هذا المذهب في أخذ الجزية من جميعهم للعلة التي ذكرنا ، وليس نكاح نسائهم ، ولا أكل ذبائحهم من هذا الباب ; لأن ذلك مكرمة بالكتابيين لموضع كتابهم واتباعهم الرسل ، فلم يجز أن يلحق بهم من لا كتاب له في هذه المكرمة . هذه جملة اعتل بها أصحاب مالك ولا خلاف بين علماء المسلمين أن الجزية تؤخذ من المجوس ; لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم أخذ الجزية من مجوس أهل البحرين ، ومن مجوس هجر ، وفعله بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم أبو بكر وعمر وعثمان وعلي .

روى الزهري عن سعيد بن المسيب أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أخذ الجزية من مجوس هجر ، وأن عمر بن الخطاب أخذها من مجوس السواد ، وأن عثمان بن عفان أخذها من البربر ، هكذا رواه ابن وهب عن يونس بن يزيد عن ابن شهاب عن سعيد بن المسيب .

وأما مالك ومعمر فإنهما جعلاه عن ابن شهاب ولم يذكرا سعيدا . ورواه ابن مهدي عن مالك عن الزهري عن السائب بن يزيد . وقد ذكرناه في باب مرسل ابن شهاب واختلف الفقهاء في مشركي العرب ، ومن لا كتاب له هل تؤخذ منهم الجزية أم لا ؟ ، فقال مالك : تقبل الجزية من جميع الكفار عربا كانوا [ ص: 118 ] أو عجما لقول الله عز وجل من الذين أوتوا الكتاب حتى يعطوا الجزية عن يد ، قال : وتقبل من المجوس بالسنة . وعلى هذا مذهب الثوري وأبي حنيفة وأصحابه وأبي ثور وأحمد وداود .

وقال أبو ثور : الجزية لا تؤخذ إلا من أهل الكتاب ، ومن المجوس لا غير ، وكذلك قال أحمد بن حنبل وكذلك قال أبو حنيفة وأصحابه إن مشركي العرب ، لا يقبل منهم إلا الإسلام ، أو السيف ، وتقبل الجزية من الكتابيين من العرب ، ومن سائر كفار العجم .

وقال الأوزاعي ومالك وسعيد بن عبد العزيز : إن الفرازنة ، ومن لا دين له من أجناس الترك والهند وعبدة النيران والأوثان وكل جاحد ومكذب بربوبية الله يقاتلون حتى يسلموا ، أو يعطوا الجزية ، وإن بذلوا الجزية قبلت منهم وكانوا كالمجوس في تحريم مناكحهم وذبائحهم وسائر أمورهم .

وقال أبو عبيد : كل عجمي تقبل منه الجزية إن بذلها ، ولا تقبل من العرب ، إلا من كتابي .

وحجة الشافعي ومن يذهب مذهبه ظاهر قول الله عز وجل قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر ولا يحرمون ما حرم الله ورسوله ولا يدينون دين الحق من الذين أوتوا الكتاب حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون ; لأن قوله من الذين أوتوا الكتاب يقتضي أن يقتصر عليهم بأخذ الجزية دون غيرهم ; لأنهم خصوا بالذكر ، فتوجه الحكم إليهم دون من سواهم لقول الله عز وجل فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم ، ولم يقل حتى يعطوا الجزية كما قال في أهل الكتاب ، ومن أوجب الجزية على غيرهم قال : هم في معناهم ، واستدل بأخذ الجزية من المجوس وليسوا بأهل كتاب .

[ ص: 119 ] قال أبو عمر : في قول رسول الله صلى الله عليه وسلم في المجوس سنوا بهم سنة أهل الكتاب يعني في الجزية - دليل على أنهم ليسوا أهل كتاب ، وعلى ذلك جمهور الفقهاء ، وقد روي عن الشافعي أنهم كانوا أهل كتاب فبدلوه ، وأظنه ذهب في ذلك إلى شيء روي عن علي بن أبي طالب من وجه فيه ضعف يدور على أبي سعد البقال .

ذكر عبد الرزاق وغيره ، عن سفيان بن عيينة وهذا لفظ حديث عبد الرزاق قال : أخبرنا ابن عيينة عن شيخ منهم ، يقال له أبو سعد ، عن رجل شهد ذلك أحسبه نصر بن عاصم : أن المستورد بن غفلة كان في مجلس وفروة بن نوفل الأشجعي فقال رجل : ليس على المجوس جزية ، فقال المستورد : أنت تقول هذا ، وقد أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم من مجوس هجر الجزية ، والله لما أخفيت [ ص: 120 ] أخبث مما أظهرت فذهب به حتى دخلا على علي رضي الله عنه ، وهو في قصره جالس في قبة ، فقال : يا أمير المؤمنين زعم هذا أنه ليس على المجوس جزية ، وقد علمت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أخذها من مجوس هجر ، فقال علي : اجلسا فوالله ما على الأرض اليوم أحد أعلم بذلك مني ، كان المجوس أهل كتاب يقرءونه وعلم يدرسونه فشرب أميرهم الخمر فوقع على أخته فرآه نفر من المسلمين ، فلما أصبح قالت أخته : إنك قد صنعت بها كذا وكذا ، وقد رآك نفر ، لا يسترون عليك ، فدعا أهل الطمع فأعطاهم ، ثم قال لهم : قد علمتم أن آدم أنكح بنيه بناته ، فجاء أولئك الذين رأوه ، فقالوا : ويلا للأبعد إن في ظهرك حدا . فقتلهم وهم الذين كانوا عنده ، ثم جاءت امرأة ، فقالت : بلى قد رأيتك ، فقال لها : ويحا لبغي بني فلان ، فقالت : أجل والله لقد كنت بغيا ، ثم تبت . فقتلها ، ثم أسرى على ما في قلوبهم ، وعلى كتابهم ، فلم يصبح عندهم شيء منه . فإلى هذا ذهب من قال : إن المجوس كانوا أهل كتاب . وأكثر أهل العلم يأبون ذلك ، ولا يصححون هذا الأثر ، والحجة لهم قول الله تبارك وتعالى أن تقولوا إنما أنزل الكتاب على طائفتين من قبلنا ، يعني اليهود والنصارى ، وقوله ياأهل الكتاب لم تحاجون في إبراهيم وما أنزلت التوراة والإنجيل إلا من بعده أفلا تعقلون .

وقال : ياأهل الكتاب لستم على شيء حتى تقيموا التوراة والإنجيل فدل على أن أهل الكتاب هم أهل التوراة والإنجيل اليهود والنصارى ، لا غير ، والله أعلم .

وأما قول رسول الله صلى الله عليه وسلم : سنوا بهم سنة أهل الكتاب فقد احتج من قال إنهم كانوا أهل كتاب بأنه يحتمل أن يكون رسول الله صلى الله عليه وسلم أراد سنوا بهم سنة أهل الكتاب الذين يعلم كتابهم علم ظهور واستفاضة .

وأما المجوس فعلم كتابهم على خصوص والآية محتملة للتأويل عندهم أيضا ، وأي الأمرين كان ، فلا خلاف بين [ ص: 121 ] العلماء أن المجوس تؤخذ منهم الجزية ، وأن رسول الله صلى الله عليه وسلم أخذها منهم فأغنى عن الإكثار في هذا ، وقد روى عبد الرزاق عن ابن جريج قال : قلت لعطاء : المجوس أهل كتاب ؟ قال : لا .

وأما الآثار المتصلة الثابتة في معنى حديث مالك في أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم الجزية من المجوس فأحسنها إسنادا ما حدثناه سعيد بن نصر قال : حدثنا قاسم بن أصبغ قال : حدثنا إسماعيل بن إسحاق قال : حدثنا إسحاق بن إبراهيم قال : أخبرني أبي ، عن موسى بن عقبة قال : قال ابن شهاب : حدثني عروة بن الزبير أن المسور بن مخرمة أخبره أن عمرو بن عوف وهو حليف لبني عامر بن لؤي ، وكان قد شهد بدرا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم - أخبره أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث أبا عبيدة بن الجراح يأتي بجزيتها ، يعني البحرين ، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم هو صالح أهل البحرين ، فأمر عليهم العلاء بن الحضرمي فقدم أبو عبيدة بالمال من البحرين فسمعت الأنصار بقدومه فوافوا صلاة الفجر مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فلما صلى انصرف فعرضوا له ، فتبسم حين رآهم ، وقال : أظنكم سمعتم بقدوم أبي عبيدة وأنه جاء بشيء ، قالوا : أجل ، فقال : فأبشروا وأملوا فوالله ما الفقر أخشى عليكم ولكن أخشى أن تبسط عليكم الدنيا كما بسطت على من كان قبلكم [ ص: 122 ] فتنافسوها كما تنافسوها وتلهيكم كما ألهتهم ، وحدثنا عبد الوارث بن سفيان قال : حدثنا قاسم بن أصبغ قال : حدثنا أحمد بن زهير قال : حدثنا إبراهيم بن المنذر قال : حدثنا محمد بن فليح عن موسى بن عقبة قال : حدثني ابن شهاب قال : حدثني عروة عن المسور بن مخرمة أخبره أن عمرو بن عوف وهو حليف لبني عامر بن لؤي ، وكان قد شهد بدرا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم - أخبره أن رسول الله صلى الله عليه وسلم صالح أهل البحرين وأمر عليهم العلاء بن الحضرمي وذكر الحديث نحوه ، وفي آخره : فتنافسوا فيها كما تنافسوا فتهلككم كما أهلكتهم .

فإن قيل : إن البحرين لعلهم لم يكونوا مجوسا ، قيل له : روى قيس بن مسلم عن الحسن بن محمد أن النبي عليه السلام كتب إلى مجوس البحرين يدعوهم إلى الإسلام ، فمن أسلم منهم قبل ، ومن أبى وجبت عليه الجزية ، ولا توكل لهم ذبيحة ، ولا تنكح لهم امرأة ، وقد كتب عمر بن عبد العزيز إلى عدي بن أرطاة : أما بعد فسل الحسن - يعني البصري - ما منع من قبلنا من الأئمة أن يحولوا بين المجوس وبين ما يجمعون من النساء اللاتي ، لا يجمعهن أحد غيرهم . فسأله ، فأخبروه أن النبي صلى الله عليه وسلم قبل من مجوس البحرين الجزية ، وأقرهم على مجوسيتهم ، وأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم يومئذ على البحرين العلاء بن [ ص: 123 ] الحضرمي وفعله بعده أبو بكر وعمر وعثمان ذكره الطحاوي قال : حدثنا بكار بن قتيبة ، قال : حدثنا عبد الله بن حمران قال : حدثنا عوف قال : كتب عمر بن عبد العزيز وذكر مالك في الموطأ ، عن ابن شهاب قال : بلغني أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أخذ الجزية من مجوس البحرين ، وأن عمر بن الخطاب أخذها من مجوس فارس ، وأن عثمان أخذها من البربر .

وذكر عبد الرزاق أخبرنا معمر قال : سمعت الزهري سئل : أتوخذ الجزية ممن ليس من أهل الكتاب ؟ ، قال : نعم ، أخذها رسول الله صلى الله عليه وسلم من أهل البحرين وعمر من أهل السواد وعثمان من بربر ، قال : وأخبرنا معمر عن الزهري أن النبي عليه السلام صالح عبدة الأوثان على الجزية ، إلا من كان منهم من العرب وقبل الجزية من أهل البحرين وكانوا مجوسا .

قال أبو عمر : هذا يدل على أن مذهب ابن شهاب أن العرب لا تؤخذ منهم الجزية ، إلا أن يدينوا بدين أهل الكتاب ، وما أعلم أحدا روى هذا الخبر المرسل عن ابن شهاب إلا معمرا أعني قوله : صالح رسول الله صلى الله عليه وسلم عبدة الأوثان على الجزية ، إلا من كان منهم من العرب . فاستثنى العرب ، وإن كانوا عبدة أوثان من بين سائر عبدة الأوثان ، وبه يقول ابن وهب وذكر ابن وهب عن يونس عن ابن شهاب قال : أنزلت في كفار العرب وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة ويكون الدين كله لله وأنزلت في أهل الكتاب قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر الآية ، قال ابن شهاب : فكان أول من [ ص: 124 ] أعطى الجزية من أهل الكتاب أهل نجران فيما علمنا وكانوا نصارى ، قال ابن شهاب : ثم قبل رسول الله صلى الله عليه وسلم من أهل البحرين الجزية وكانوا مجوسا ، ثم أدى أهل أيلة وأهل أذرح وأهل أذرعات إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وأقروا له في غزوة تبوك ، فقال ابن شهاب : ثم بعث خالد بن الوليد إلى أهل دومة الجندل وكانوا من عباد الكوفة فأسر رأسهم أكيدر فقاضاه على الجزية ، قال ابن شهاب : فمن أسلم من أولئك كلهم قبل منه الإسلام وأحرز له إسلامه نفسه وماله إلا الأرض ; لأنها كانت من فيء المسلمين ، قال ابن وهب : وأخبرني يونس عن ابن شهاب قال : حدثني ابن المسيب أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أخذ الجزية من مجوس هجر ، وأن عمر بن الخطاب أخذها من مجوس السواد ، وأن عثمان أخذها من بربر .

وذكر عبد الرزاق عن الثوري عن محمد بن قيس عن الشعبي قال : كان أهل السواد ليس لهم عهد ، فلما أخذ منهم الخراج كان لهم عهد .

قال أبو عمر : أهل العهد وأهل الذمة سواء ، وهم أهل العنوة يقرون بعد الغلبة عليهم فيما جعله الله للمسلمين وأفاءه عليهم منهم ، ومن أرضهم ، فإذا أقروهم كانوا أهل عهد وذمة تضرب على رءوسهم الجزية ما كانوا كفارا ويضرب على أرضهم الخراج فيئا للمسلمين ; لأنها مما أفاء الله عليهم ، ولا يسقط الخراج عن الأرض بإسلام عاملها ، فهذا حكم أهل الذمة وهم أهل العنوة الذين غلبوا على بلادهم وأقروا فيها .

وأما أهل الصلح ، فإنما عليهم ما صولحوا عليه يؤدونه عن أنفسهم وأموالهم وأرضهم وسائر ما يملكونه ، وليس عليهم غير ما صولحوا عليه ، إلا أن ينقضوا ، فإن نقضوا ، فلا عهد لهم ، ولا ذمة ويعودون حربا ، إلا أن يصالحوا بعد .

أخبرنا أبو محمد عبد الله بن محمد بن عبد المؤمن قال : حدثنا أبو جعفر محمد بن يحيى بن عمر قال : حدثنا [ ص: 125 ] علي بن حرب قال : حدثنا سفيان بن عيينة عن عمرو بن دينار سمع بجالة ، يقول : كنت كاتبا لجزء بن معاوية عم الأحنف فأتانا كتاب عمر قبل موته بسنة : أن اقتلوا كل ساحر وساحرة ، قال : ولم يكن عمر أخذ الجزية من المجوس حتى شهد عبد الرحمن بن عوف أن النبي عليه السلام أخذها من مجوس هجر . ورواه أبو معاوية عن الحجاج بن أرطاة عن عمرو بن دينار عن بجالة بن عبدة قال : كنت كاتبا لجزء بن معاوية على مناذر ، فقدم علينا كتاب عمر أن انظر وخذ من مجوس من قبلك الجزية ، فإن عبد الرحمن بن عوف أخبرني أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أخذ من مجوس هجر الجزية .

وحدثنا أبو القاسم حدثنا أحمد بن صالح المقرئ قال : حدثنا عبد الله بن سليمان بن الأشعث السجستاني قال : حدثنا محمد بن يحيى النيسابوري قال : حدثنا الخضر بن محمد بن شجاع قال : حدثنا هشيم بن بشير عن عمرو عن بجالة بن عبدة أن عبد الرحمن بن عوف قال : إن رسول الله صلى الله عليه وسلم أخذ من مجوس هجر الجزية ، قال : وقال ابن عباس : فرأيت منهم رجلا أتى النبي عليه السلام فدخل عليه ومكث عنده ما مكث ، ثم خرج ، فقلت : ما قضى الله ورسوله ، قال : شر ، قلت : مه ، قال : الإسلام ، أو القتل ، قال ابن عباس : فأخذ الناس بقول عبد الرحمن بن عوف وتركوا قولي .

[ ص: 126 ] قال أبو عمر : كان ابن عباس يذهب إلى أن أموال أهل الذمة ، لا شيء فيها .

ذكر عبد الرزاق قال : أخبرنا معمر عن ابن طاوس ، عن أبيه أن إبراهيم بن سعد سأل ابن عباس وكان عاملا بعدن ، فقال لابن عباس : ما في أموال أهل الذمة ؟ ، قال : العفو ، قال : إنهم يأمروننا بكذا وكذا ، قال : فلا تعمل لهم ، قلت له : فما في العنبر ؟ ، قال : إن كان فيه شيء فالخمس .

قال أبو عمر : قد روي عنه أن العنبر ليس فيه شيء ، إنما هو شيء دسره البحر ، وعلى هذا جمهور العلماء ، وكان ابن عباس لا يرى في أموال أهل الذمة شيئا تجروا في بلادهم ، أو في غير بلادهم ، أو لم يتجروا ، ولا يرى عليهم غير جزية رؤوسهم ، وقد أخذ عمر بن الخطاب من أهل الذمة مما كانوا يتجرون به ويختلفون به إلى مكة والمدينة وغيرهما من البلدان . ومضى على ذلك الخلفاء ، وكان عمر بن عبد العزيز يأمر به عماله ، وعليه جماعة الفقهاء ، إلا أنهم اختلفوا في المقدار المأخوذ منهم ، وكذلك اختلفت الرواية في ذلك عن عمر بن الخطاب رحمه الله . فروى مالك عن ابن شهاب عن سالم عن أبيه أن عمر بن الخطاب كان يأخذ من النبط من الحنطة والزيت نصف العشر ، يريد بذلك أن يكثر الحمل إلى المدينة ويأخذ من القطنية العشر .

وروى مالك أيضا ، عن ابن شهاب عن السائب بن [ ص: 127 ] يزيد قال : كنت عاملا مع عبد الله بن عتبة بن مسعود على سوق المدينة في زمان عمر بن الخطاب فكان يأخذ من النبط العشر . ورواه معمر عن الزهري عن السائب بن يزيد أن عمر كان يأخذ من أهل الذمة نصف العشر ، وكذلك روى أنس بن سيرين عن أنس بن مالك أن عمر كان يأخذ من المسلم ربع العشر ، ومن الذمي نصف العشر ، ومن الحربي إذا دخل من الشام العشر . وبهذا يقول الثوري وأبو حنيفة وأصحابه والحسن بن حي ويعتبرون النصاب في ذلك والحول ، فيأخذون من الذمي نصف العشر إذا كان معه مائتا درهم ، ولا يؤخذ منه شيء إلى الحول . ومن المسلم زكاة ماله الواجبة ربع العشر . هذه رواية الأشجعي عن الثوري كقول أبي حنيفة .

وروى عنه أبو أسامة أن الذمي يؤخذ منه من كل مائة درهم خمسة دراهم ، فإن نقصت من المائة ، فلا شيء عليهم . يعتبر النصاب في هذه الرواية كنصاب المسلم ، قال مالك : يؤخذ من الذمي كلما تجر من بلده إلى غير بلده كما لو تجر من الشام إلى العراق ، أو إلى مصر من قليل ما يتجر به في ذلك وكثيره كلما تجر ، ولا يراعى في ذلك نصاب ، ولا حول .

وأما المقدار المأخوذ فالعشر ، إلا في الطعام إلى مكة والمدينة ، فإن فيه نصف العشر على ما فعل عمر ولا يؤخذ منهم إلا مرة واحدة في كل سفرة عند البيع لما جلبوه ، فإن لم يبيعوا شيئا ودخلوا بمال ناض لم يؤخذ منهم حتى يشتروا ، فإن اشتروا أخذ منهم ، فإن باع ما اشترى لم يؤخذ منه شيء ، ولو أقام سنين وعبيدهم كذلك إن تجروا يؤخذ منهم مثل ما يؤخذ من ساداتهم .

وقال الشافعي : لا يؤخذ من الذمي في السنة ، إلا مرة واحدة كالجزية ، ويؤخذ منهم ما أخذ عمر بن الخطاب من المسلم ربع العشر ، ومن [ ص: 128 ] الذمي نصف العشر ، ومن الحربي العشر اتباعا له ، وهو قول أحمد فإن قال قائل : كيف ادعيت الإجماع على أنه لا يجوز للمسلمين نكاح المجوسيات ، وقد تزوج بعض الصحابة مجوسية ، قيل له : هذا لا يصح ، ولا يؤخذ من وجه ثابت ، وإنما الصحيح - والله أعلم - عن حذيفة أنه تزوج يهودية ، وعن طلحة بن عبيد الله أنه تزوج يهودية ، وقد كره ذلك عمر بن الخطاب لحذيفة رضي الله عنهما خشية أن يظن الناس ذلك .

وروينا عن سعيد بن المسيب أن عمر بن الخطاب كتب إلى حذيفة بن اليمان وهو بالكوفة ، وكان نكح امرأة من أهل الكتاب ، فكتب عمر أن فارقها فإنك بأرض المجوس وإني أخشى أن يقول الجاهل : قد تزوج صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم كافرة ويجهل الرخصة التي كانت من الله عز وجل في نساء أهل الكتاب فيتزوجوا نساء المجوس ، ففارقها حذيفة .

وإجماع فقهاء الأمصار على أن نكاح المجوسيات والوثنيات ، وما عدا اليهوديات والنصرانيات من الكافرات لا يحل ، يغني عن الإكثار في هذا .

ذكر عبد الرزاق قال : أخبرنا الثوري عن قيس بن مسلم عن الحسين بن محمد بن علي قال : كتب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى مجوس هجر يدعوهم إلى الإسلام ، فمن أسلم قبل منه ، ومن أبى كتب عليه الجزية ، ولا توكل لهم ذبيحة ، ولا تنكح لهم امرأة .

واختلف العلماء في مقدار الجزية ، فقال عطاء بن أبي رباح : لا توقيت في ذلك ، وإنما هو على ما صولحوا عليه ، وكذلك قال يحيى بن آدم وأبو عبيد والطبري إلا أن الطبري قال : أقله دينار ، وأكثره لا حد له ، إلا الإجحاف والاحتمال ، قالوا : الجزية على قدر الاحتمال بغير [ ص: 129 ] توقيت يجتهد في ذلك الإمام ، ولا يكلفهم ما لا يطيقون ، إنما يكلفهم من ذلك ما يستطيعون ويخف عليهم ، هذا معنى قولهم وأظن من ذهب إلى هذا القول يحتج بحديث عمرو بن عوف الذي قدمنا ذكره في هذا الباب أن رسول الله صلى الله عليه وسلم صالح أهل البحرين على الجزية ، وبما ذكره محمد بن إسحاق عن عاصم بن عمر عن أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم بعث خالد بن الوليد إلى أكيدر دومة فأخذه وأتى به فحقن له دمه وصالحه على الجزية ، وبحديث السدي عن ابن عباس في مصالحة رسول الله صلى الله عليه وسلم أهل نجران ، ولما رواه معمر عن ابن شهاب أن النبي عليه السلام صالح عبدة الأوثان على الجزية ، إلا ما كان من العرب ، ولا نعلم أحدا روى هذا الخبر بهذا اللفظ ، عن ابن شهاب إلا معمرا .

وقال الشافعي : المقدار في الجزية دينار على الغني والفقير من الأحرار البالغين ، لا ينقص منه شيء . وحجته في ذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث معاذا إلى اليمن فأمره أن يأخذ من كل حالم دينارا في الجزية ، وهو المبين عن الله عز وجل مراده صلى الله عليه وسلم ، وبهذا قال أبو ثور قال الشافعي : وإن صولحوا على أكثر من دينار جاز ، وإن زادوا وطابت بذلك أنفسهم قبل منهم ، وإن صولحوا على ضيافة ثلاثة أيام جاز إذا كانت الضيافة معلومة في الخبز والشعير والتبن والإدام ، وذكر على الوسط من ذلك ، وما على الموسر ، وذكر موضع النزول والكن من البرد والحر ، ولا يقبل من غني ، ولا فقير أقل من دينار لأنا لم نعلم أن النبي عليه السلام صالح أحدا على أقل من دينار .

وقال في موضع آخر : أخذ عمر الجزية من أهل الشام ، إنما كان على وجه الصلح ، فلذلك اختلفت ضرائبه ، ولا بأس بما صولح عليه أهل الذمة .

حدثنا عبد الله بن محمد حدثنا محمد بن بكر حدثنا أبو داود حدثنا عبد [ ص: 130 ] الله بن محمد النفيلي حدثنا أبو معاوية عن الأعمش عن أبي وائل عن معاذ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما وجهه إلى اليمن أمره أن يأخذ من كل حالم - يعني محتلما - دينارا ، أو عدله من المعافر ثياب تكون باليمن . هكذا قال أبو معاوية في هذا الحديث ، عن الأعمش عن أبي وائل عن معاذ وإنما هو عن أبي وائل عن مسروق عن معاذ .

حدثنا عبد الوارث بن سفيان حدثنا قاسم بن أصبغ حدثنا أحمد بن زهير حدثنا موسى بن إسماعيل حدثنا أبو عوانة عن سليمان الأعمش عن أبي وائل عن مسروق قال : بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم معاذا إلى اليمن فأمره أن يأخذ من كل حالم في كل عام دينارا ، أو عدله معافر . ومن البقر من كل ثلاثين بقرة تبيعا ، ومن كل أربعين مسنة . وهكذا رواه شعبة وجماعة ، عن الأعمش كما رواه أبو عوانة بإسناده هذا ، وهو حديث صحيح ، وكذلك رواه عاصم ابن بهدلة عن أبي وائل عن مسروق عن معاذ .

وقال مالك : أربعة دنانير على أهل الذهب وأربعون درهما على أهل الورق للغني والفقير سواء ، لا يزاد ، ولا ينقص على ما فرض عمر لا يؤخذ منهم غيره .

وقال أبو حنيفة وأصحابه والحسن بن حي وأحمد بن حنبل : اثنا عشر وأربعة وعشرون وثمانية وأربعون .

وقال الثوري : جاء عن عمر بن الخطاب في ذلك ضرائب مختلفة ، فللوالي أن يأخذ بأيها شاء إذا كانوا ذمة .

وأما أهل الصلح ، فما صولحوا عليه لا غير .

[ ص: 131 ] قال أبو عمر : روى مالك عن نافع عن أسلم : أن عمر بن الخطاب ضرب الجزية على أهل الذهب أربعة دنانير ، وعلى أهل الورق أربعين درهما مع ذلك أرزاق المسلمين وضيافة ثلاثة أيام .

وروى إسرائيل ، عن أبي إسحاق عن حارثة بن مضرب أن عمر بعث عثمان بن حنيف : فوضع الجزية على أهل السواد ثمانية وأربعين وأربعة وعشرين واثني عشر .

وذكر عبد الرزاق عن الثوري قال : ذكرت عن عمر ضرائب مختلفة على أهل الذمة الذين أخذوا عنوة ، قال الثوري : وذلك إلى الوالي يزيد عليهم بقدر يسرهم ويضع عنهم بقدر حاجتهم ، وليس لذلك وقت ولكن ينظر في ذلك الوالي على قدر ما يطيقون ، فأما ما لم يؤخذ عنوة حتى صولحوا صلحا ، فلا يزاد عليهم شيء على ما صولحوا عليه ، والجزية على ما صولحوا عليه من قليل ، أو كثير في أرضهم وأعناقهم ، وليس في أموالهم زكاة .

وأجمع العلماء على أن لا زكاة على أهل الكتاب ، ولا المجوس في شيء من مواشيهم ، ولا زرعهم ، ولا ثمارهم ، إلا أن من العلماء من رأى تضعيف الصدقة على بني تغلب دون جزية ، وهو فعل عمر بن الخطاب فيما رواه أهل الكوفة ، وممن ذهب إلى تضعيف الصدقة على بني تغلب دون جزية - الثوري وأبو حنيفة والشافعي وأصحابهم وأحمد بن حنبل قالوا : يؤخذ منهم من كل ما [ ص: 132 ] يؤخذ من المسلم مثلا ما يؤخذ من المسلم حتى في الركاز ، يؤخذ منهم خمسان ، وما يؤخذ من المسلم فيه العشر أخذ منهم عشران ، وما أخذ من المسلم فيه ربع العشر أخذ منهم نصف العشر ، ويجرى ذلك على أموالهم ونسائهم ورجالهم بخلاف الجزية .

وقال زفر : لا شيء على نساء بني تغلب في أموالهم ، وليس عن مالك في هذا شيء منصوص . ومذهبه عند أصحابه أن بني تغلب وغيرهم سواء في أخذ الجزية منهم ، وقد جاء عن عمر أنه إنما فعل ذلك بهم على أن لا ينصروا أولادهم ، وقد فعلوا ذلك ، فلا عهد لهم ، كذلك قال داود بن كردوس وهو راوية حديث عمر في بني تغلب .

قال أبو عمر : قد عم الله أهل الكتاب في أخذ الجزية منهم ، فلا وجه لإخراج بني تغلب عنهم . وأجمع العلماء على أن الجزية ، إنما تضرب على البالغين من الرجال دون النساء والصبيان ، وأجمعوا أن الذمي إذا أسلم ، فلا جزية عليه فيما يستقبل ، واختلفوا فيه إذا أسلم في بعض الحول ، أو مات قبل أن يتم حوله ، فقال مالك : إذا أسلم الذمي سقط عنه كل ما لزمه من الجزية لما مضى ، وسواء اجتمع عليه حول ، أو أحوال ، وهو قول أبي حنيفة وأصحابه وعبيد الله بن الحسين .

وقال أبو حنيفة : إذا انقضت السنة ولم يؤخذ منه شيء ودخلت سنة أخرى لم يؤخذ منه شيء لما مضى .

وقال أبو يوسف ومحمد : يؤخذ منه .

وقال الشافعي وابن شبرمة : إذا أسلم في بعض السنة أخذ [ ص: 133 ] منه بحساب ، قال الشافعي : فإن أفلس فالإمام غريم من الغرماء . وقول أحمد بن حنبل في المسألة كقول مالك وهو الصواب إن شاء الله والحمد لله .




الخدمات العلمية