الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
معلومات الكتاب

التمهيد لما في الموطأ من المعاني والأسانيد

ابن عبد البر - أبو عمر يوسف بن عبد الله بن محمد بن عبد البر

صفحة جزء
1846 [ ص: 151 ] حديث ثالث عشر لأبي الزناد

مالك ، عن أبي الزناد ، عن الأعرج ، عن أبي هريرة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : لا يقولن أحدكم يا خيبة الدهر ، فإن الدهر هو الله .

التالي السابق


هكذا هذا الحديث في الموطأ بهذا الإسناد عند جماعة الرواة فيما علمت ، ورواه إبراهيم بن خالد بن عثمة ، عن مالك ، عن سمي ، عن أبي صالح ، عن أبي هريرة ، والصواب فيه إسناد الموطأ .

حدثنا خلف بن القاسم ، قال : حدثنا محمد بن جعفر غندر ، قال : حدثنا الحسن بن أبي عباد الصفار ، حدثنا عبد السلام بن محمد ، حدثنا إبراهيم بن خالد بن عثمة ، حدثنا ملك ، عن سمي ، عن أبي صالح ، عن أبي هريرة ، قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لا تسبوا الدهر ، فإن الله هو الدهر .

[ ص: 152 ] وفي الموطأ عند جماعة رواته في هذا الحديث " لا يقولن أحدكم يا خيبة الدهر " وقال فيه سعيد بن هاشم بإسناد الموطأ " لا تسبوا الدهر " .

حدثنا خلف بن قاسم ، حدثنا أبو جعفر أحمد بن جعفر بن محمد التميمي ، حدثنا يوسف بن يزيد ، حدثنا سعيد بن هاشم الفيومي ، حدثنا مالك ، عن أبي الزناد ، عن الأعرج ، عن أبي هريرة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : لا تسبوا الدهر ، فإن الله هو الدهر وقال فيه يحيى : فإن الدهر هو الله ، وغيره كلهم يقول : فإن الله هو الدهر .

وهذا الحديث قد اختلف في ألفاظه عن أبي هريرة من رواية الأعرج وغيره ، فمنهم من يقول فيه " لا تسبوا الدهر فإن الله هو الدهر " هكذا رواه ابن أبي الزناد ، عن أبيه ، عن الأعرج ، عن أبي هريرة ، وكذلك رواه ابن لهيعة ، عن الأعرج بإسناده سواء ، وكذلك رواه ابن سيرين وغيره ، عن أبي هريرة .

حدثنا أحمد بن قاسم ، وعبد الوارث بن سفيان ، قالا : حدثنا قاسم بن [ ص: 153 ] أصبغ ، قال : حدثنا الحارث بن أبي أسامة ، قال : حدثنا هوذة بن خليفة ، قال : حدثنا عوف ، عن محمد وخلاس ، عن أبي هريرة ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : لا تسبوا الدهر ، فإن الله هو الدهر .

وحدثنا عبد الوارث ، قال : حدثنا قاسم ، قال : حدثنا أبو إسماعيل الترمذي ، قال : حدثنا سعيد بن أبي مريم ، قال : أخبرنا محمد بن جعفر ، قال : أخبرني العلاء بن عبد الرحمن بن يعقوب مولى الحرقة ، عن أبيه ، عن أبي هريرة ، قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : قال الله عز وجل : استقرضت عبدي فلم يقرضني ، وشتمني ، ولم ينبغ له أن يشتمني ، يقول : وادهره ، وادهره ، وأنا الدهر ، وأنا الدهر .

قال أبو عمر : هذه ألفاظ إن صحت فمخرجها على معان سنبينها ، والصحيح في لفظ هذا الحديث ما رواه ابن شهاب وغيره من الفقهاء ذوي الألباب : أخبرنا عبد الله بن محمد ، قال : أخبرنا محمد بن بكر ، قال : أخبرنا أبو داود ، قال : حدثنا محمد بن الصباح بن سفيان ، وأحمد بن السرح ، قالا : حدثنا سفيان بن عيينة ، عن الزهري ، عن سعيد بن المسيب [ ص: 154 ] عن أبي هريرة ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - يؤذيني ابن آدم يسب الدهر ، وأنا الدهر ، بيدي الأمر أقلب الليل والنهار .

هكذا قال ابن عيينة ، عن الزهري ، عن سعيد ، وقال يونس بن يزيد ، عن الزهري ، عن أبي سلمة ، وهما جميعا صحيحان .

حدثنا عبد الوارث بن سفيان ، قال : حدثنا قاسم بن أصبغ ، قال : حدثنا محمد بن وضاح ، قال : حدثنا أبو الطاهر ، وزيد بن البشر ، قالا : أخبرنا ابن وهب ، عن يونس بن يزيد ، عن الزهري ، قال : أخبرني أبو سلمة بن عبد الرحمن ، قال : قال أبو هريرة : سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول : قال الله تبارك وتعالى : يسب ابن آدم الدهر ، وأنا الدهر بيدي الليل والنهار .

فمن أهل العلم من يروي هذا الخبر بنصب الدهر على الظرف يقول : أنا الدهر كله بيدي الأمر أقلب الليل والنهار ، ومنهم من يرويه بالرفع على معنى حديث مالك ومن تابعه ، والمعنى فيه أن أهل الجاهلية كانوا يذمون الدهر في أشعارهم وأخبارهم ، ويضيفون إليه كل ما يصنعه الله بهم ، وقد حكى الله عنهم قولهم ( ما هي إلا حياتنا الدنيا نموت ونحيا وما يهلكنا إلا الدهر وما لهم بذلك من علم إن هم إلا يظنون ) [ ص: 155 ] فنهى الله عن قولهم ذلك ، ونهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عنه أيضا بقوله : لا تسبوا الدهر ، يعني لأنكم إذا سببتموه وذممتموه لما يصيبكم فيه من المحن ، والآفات ، والمصائب ، وقع السب والذم على الله ; لأنه الفاعل ذلك وحده لا شريك له ، وهذا ما لا يسع أحدا جهله ، والوقوف على معناه لما يتعلق بهالدهرية أهل التعطيل والإلحاد ، وقد نطق القرآن وصحت السنة بما ذكرنا ، وذلك أن العرب كان من شأنها ذم الدهر عندما ينزل بها من المكاره ، فيقولون : أصابتنا قوارع الدهر ، وأبادنا الدهر ، وأتى علينا الدهر ، ألا ترى إلى قول شاعرهم :


رمتني بنات الدهر من حيث لا أرى فكيف بمن يرمى وليس برام فلو أنها نبل إذا لاتقيتها
ولكنني أرمى بغير سهام فأفنى وما أفنيت للدهر ليلة
ولم يغن ما أفنيت سلك نظام

[ ص: 156 ] وقال أبو العتاهية - فذكر الزمان والدهر وهما سواء ومراده في ذلك كله ما يحدث الله من العبر فيها لمن اعتبر - :


إن الزمان إذا رمى لمصيب والعود منه إذا عجمت صليب
إن الزمان لأهله لمؤدب لو كان ينفع فيهم التأديب
كيف اغتررت بصرف دهرك يا أخي كيف اغتررت به وأنت لبيب
ولقد رأيتك للزمان مجربا لو كان يحكم رأيك التجريب

وهذا المعنى في شعره كثير جدا ، وقال غيره - وهو المساور بن هند - :


بليت وعلمي في البلاد مكانه وأفنى شبابي الدهر وهو جديد

وقال غيره :


حنتني حانيات الدهر حتى كأني خاتل أدنو لصيد
قريب الخطو يحسب من يراني ولست مقيدا إني بقيد

وقال امرؤ القيس :


ألا إن هذا الدهر يوم وليلة وليس على شيء قويم بمستمر

وقال أيضا :


أرجي من صروف الدهر لينا ولم تغفل عن الصم الهضاب

[ ص: 157 ] وقال أبو ذؤيب الهذلي :


أمن المنون وريبها تتفجع والدهر ليس بمعتب من يجزع

وقال أرطاة بن سهية :


عن الدهر فاصفح إنه غير معتب وفي غير من قد وارت الأرض فاطمع

وقال الراجز :


ألقى علي الدهر رجلا ويدا والدهر ما أصلح يوما أفسدا
يصلحه اليوم ويفنيه غدا ويسعد الموت إذا الموت عدا

وأشعارهم في هذا أكثر من أن تحصى خرجت كلها على المجاز ، والاستعارة ، والمعروف من مذاهب العرب في كلامها ; لأنهم يسمون الشيء ويعبرون عنه بما يقرب منه وبما هو فيه ، فكأنهم أرادوا ما ينزل بهم في الليل والنهار من مصائب الأيام ، فجاء النهي عن ذلك تنزيها لله ; لأنه الفاعل ذلك بهم في الحقيقة ، وجرى ذلك على الألسنة في الإسلام وهم لا يريدون ذلك ، ألا ترى أن المسلمين الخيار الفضلاء قد استعملوا ذلك في أشعارهم على دينهم وإيمانهم جريا في ذلك على [ ص: 158 ] عادتهم ، وعلما بالمراد ، وأن ذلك مفهوم معلوم لا يشكل على ذي لب ، هذا سابق البربري على فضله يقول :


المرء يجمع والزمان يفرق ويظل يرقع والخطوب تمزق

ويروى أن هذا الشعر لصالح بن عبد القدوس .

وهذا سليمان العدوي ، وكان خيرا متدينا يقول :


أيا دهرا عملت فينا أذاكا ووليتنا بعد وجه قفاكا
جعلت الشرار علينا رءوسا وأجلست سفلتنا مستواكا
فيا دهر إن كنت عاديتنا فها قد صنعت بنا ما كفاكا

وقالت صفية الباهلية :


أخنى علي واحدي ريب المنون وما يبقي الزمان على شيء ولا يذر

وقال أبو العتاهية - وموضعه من الخير موضعه - :


يا دهر تؤمننا الخطوب وقد نرى في كل ناحية لهن شباكا
يا دهر قد أعظمت عبرتنا بمن دارت عليه من القرون رحاكا

[ ص: 159 ] وروينا أن مالك بن أنس رحمه الله كان ينشد لبعض صالحي أهل المدينة :


أخي لا تعتقد دنيا قليلا ما تواتيكا
فكم قد أهلكت خلا أليفا لو تنبيكا
ولا تغررك زهرتها فتلقي السم في فيكا

في أبيات كثيرة ، فمرة يضيفون ذلك إلى الدهر ، ومرة إلى الزمان ، ومرة إلى الأيام ، ومرة إلى الدنيا ، وذلك كله مفهوم المعنى على ما ذكرنا وفسرنا ، والحمد لله .

وقال أبو العتاهية :


ألا عجبا للدهر لا بل لريبه تضرم ريب الدهر كل إخاء
ومزق ريب الدهر كل جماعة وكدر ريب الدهر كل صفاء

وقال آخر :


يا دهر ويحك ما أبقيت لي أحدا وأنت والد سوء تأكل الولدا
أستغفر الله بل ذا كله قدر رضيت بالله ربا واحدا صمدا [ ص: 160 ]
لا شيء يبقى سوى خير تقدمه ما دام ملك لإنسان ولا خلدا

ومما ينشد للمأمون ويروى له من قوله :


أنا في علمي بالدهر أبو الدهر وأمه
ليس يأتي الدهر يوما بسرور فيتمه
فكما سر أخاه فكذا سوف يغمه
ليس للدهر صديق حامد الدهر يذمه

وقال ابن المغيرة في شعر يرثي به أباه :


أين من يسلم من صرف الردى حكم الموت علينا فعدل
فكأنا لا نرى ما قد نرى وخطوب الدهر فينا تنتضل

وقال نصر بن أحمد :


كأنما الدهر قد أغرى بنا حسدا ونعمة الله مقرون بها الحسد

وقال جحظة :


أيا دهر ويحك كم ذا الغلط وضيع علا وكريم سقط [ ص: 161 ]
وعير تسيب في جنة وطرف بلا علف يرتبط
وجهل برءوس وعقل برأس وذاك مشتبه مختلط
وأهل القرن كلهم ينتمون إلى آل كسرى فأين النبط

وقال غيره :


رأيت الدهر بالأشراف يكبو ويرفع راية القوم اللئام
كأن الدهر موتور حقود يطالب ثأره عند الكرام

والأشعار في هذا لا يحاط بها كثرة ، وفيما لوحنا به منها كفاية ، والحمد لله .




الخدمات العلمية