الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
معلومات الكتاب

التمهيد لما في الموطأ من المعاني والأسانيد

ابن عبد البر - أبو عمر يوسف بن عبد الله بن محمد بن عبد البر

صفحة جزء
320 [ ص: 363 ] حديث سادس لابن شهاب ، عن سعيد ( بن المسيب ) مسند

مالك ، عن ابن شهاب ، عن سعيد بن المسيب ، عن أبي هريرة أن سائلا سأل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن الصلاة في ثوب واحد فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : أو لكلكم ثوبان ؟ .

التالي السابق


( لم يختلف الرواة عن مالك في إسناد هذا الحديث ، ولا متنه ) رواه معمر ، عن الزهري ، عن أبي سلمة ، عن أبي هريرة مثله سواء .

وكذلك رواه ابن جريج ( ورواه يونس ، وعقيل عن ابن شهاب ، عن سعيد ، وابن سلمة ، عن أبي هريرة ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - مثله ورواه ابن سيرين ، عن أبي هريرة ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - مثله سواء ) .

وهذا الحديث حجة لإجازة الصلاة في ثوب [ ص: 364 ] ( واحد ) ، وكل ثوب ستر العورة والفخدين من الرجل جازت الصلاة فيه على ظاهر الحديث ، لأنه يقع عليه اسم ثوب ، وقد أجمعوا أنه من صلى مستور العورة ، فلا إعادة عليه ، وإن كانت امرأة فكل ثوب يغيب ظهور قدميها ويستر جميع جسدها وشعرها فجائز لها الصلاة فيه ، لأنها كلها عورة إلا الوجه والكفين . على هذا أكثر أهل العلم ، وقد أجمعوا على أن المرأة تكشف وجهها في الصلاة والإحرام ، وقال مالك ، وأبو حنيفة ، والشافعي ، وأصحابهم ، وهو قول الأوزاعي وأبي ثور على المرأة أن تغطي منها ما سوى وجهها وكفيها ، وقال أبو بكر بن عبد الرحمن بن الحارث : كل شيء من المرأة عورة حتى ظفرها .

حدثناه أحمد بن محمد ، قال : حدثنا أحمد بن الفضل ، قال : حدثنا محمد بن جرير ، قال : حدثنا الفضل ، قال : حدثنا عبد الله بن رجاء عن ابن عجلان ، عن سمي مولى أبي بكر [ ص: 365 ] بن عبد الرحمن ( عن أبي بكر بن عبد الرحمن ) قال كل شيء من المرأة عورة حتى ظفرها .

قال أبو عمر :

قول أبي بكر هذا خارج عن أقاويل أهل العلم لإجماع العلماء على أن للمرأة أن تصلي المكتوبة ويداها ووجهها مكشوف ذلك كله منها تباشر الأرض به ، وأجمعوا ( على ) أنها لا تصلي متنقبة ، ولا عليها أن تلبس قفازين في الصلاة ، وفي هذا أوضح الدلائل على أن ذلك عورة وجائز أن ينظر إلى ذلك منها كل من نظر إليها بغير ريبة ، ولا مكروه . وأما النظر للشهوة فحرام تأملها من فوق ثيابها لشهوة فكيف بالنظر إلى وجهها مسفرة ، وقد روي نحو قول أبي بكر بن عبد الرحمن ( عن أحمد ) بن حنبل ، قال الأثرم : سئل أحمد بن حنبل عن المرأة تصلي وبعض شعرها مكشوف ، وقدمها ، قال لا يعجبني إلا أن تغطي [ ص: 366 ] شعرها ، وقدميها ، قال : وسمعته يسأل عن أم الولد كيف تصلي فقال : تغطي رأسها وقدميها ، لأنها لا تباع ، وهي تصلي كما تصلي الحرة ، قال : وسمعته يسأل عن الرجل يصلي في قميص مزرور فقال : ينبغي أن يزره ، قيل فإن كانت لحيته تغطي ، ولم يكن القميص متسع الجيب ، أو نحو هذا فقال : إن كان يسيرا فجائز ، قال : ولا أحب لأحد أن يصلي في ثوب مزرور .

مالك : إن صلت المرأة الحرة وشعرها مكشوف أو قدماها أو صدرها أعادت ما دامت في الوقت وقال الشافعي ، وأبو ثور ، وأحمد : تعيد أبدا إن انكشف شيء من شعرها ، أو صدرها ، أو صدور قدميها ، وقال أبو حنيفة : وأصحابه قدم المرأة ليست بعورة ، فإن صلت وقدمها مكشوفة ، فلا شيء عليها ، وإن صلت وجل شعرها مكشوف ، فصلاتها فاسدة ، وإن كان الأقل من شعرها مكشوفا فلا شيء عليها ، وإن انكشف شيء منها غير ما ذكرنا فصلت بذلك ، فصلاتها فاسدة علمت أم لم تعلم ، وقال إسحاق : إن علمت فسدت صلاتها ، وإن لم تعلم ، فلا إعادة عليها ، والأصل في هذا الباب أن أم سلمة سئلت ماذا تصلي فيه المرأة من الثياب [ ص: 367 ] فقالت تصلي في الدرع والخمار السابغ الذي يغيب ظهور قدميها ، وعن عائشة وميمونة مثل ذلك درع وخمار وهذه الآثار عن أم سلمة ، وعائشة وميمونة في الموطأ ، فحديث عائشة من بلاغات مالك ، وحديث ميمونة عن الثقة عنده عن بكير بن الأشج ، عن بسر بن سعيد ، عن عبيد الله الخولاني ، عن ميمونة أنها كانت تصلي في درع وخمار دون إزار ، وحديث أم سلمة رواه مالك ، عن محمد بن زيد بن قنفذ ، عن أمه سألت أم سلمة ماذا تصلي فيه المرأة من الثياب ؟ فقالت : تصلي في درع وخمار سابغ إذا غيب ظهور قدميها ، وقد روي حديث أم سلمة مرفوعا ، والذين وقفوه على أم سلمة أكثر وأحفظ ، منهم مالك ، وابن إسحاق ، وابن أبي ذئب وبكر بن مضر وحفص بن غياث ، وإسماعيل بن جعفر كلهم رووه عن محمد بن زيد ، عن أمه عن أم سلمة موقوفا ، قال أبو داود : ورفعه عبد الرحمن بن عبد الله بن دينار ، عن محمد بن زيد ( عن أمه ) [ ص: 368 ] عن أم سلمة أنها سألت النبي - صلى الله عليه وسلم - ( فذكره ) ، ( عبد الرحمن هذا ضعيف عندهم إلا أنه قد خرج البخاري بعض حديثه ) والإجماع في هذا الباب أقوى من الخبر ( فيه ) وحدثنا عبد الوارث ، قال : حدثنا قاسم ، قال : حدثنا جعفر بن محمد ، قال : حدثنا عفان ، قال : حدثنا حماد بن سلمة ، عن قتادة ، عن ابن سيرين ، عن صفية بنت الحارث ، عن عائشة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : لا يقبل الله صلاة حائض إلا بخمار .

قال أبو عمر :

اختلف العلماء في تأويل قول الله - عز وجل - : ولا يبدين زينتهن إلا ما ظهر منها فروي عن ابن عباس ، وابن عمر إلا ما ظهر منها الوجه والكفان ، وروي عن ابن مسعود ( ما ظهر منها ) الثياب ، قال : لا يبدين قرطا ولا قلادة ولا سوارا ولا خلخالا إلا ما ظهر من الثياب ، وقد روي عن أبي هريرة في قوله تعالى ولا يبدين زينتهن إلا ما ظهر منها ، قال : القلب والفتخة رواه ابن وهب ، عن جرير [ ص: 369 ] بن حازم ، قال : حدثني قيس بن سعد أن أبا هريرة كان يقول : فذكره ، قال جرير بن حازم : القلب والسوار ، والفتخة ، والخاتم ، وقال : جابر بن زيد هي كحل في عين ، أو خاتم في خنصر ، وقال : سعيد بن جبير الجلباب والرداء ، وعن عائشة مثل قول أبي هريرة ، وقد روي عن ابن مسعود ، ولا يصح البنان ، والقرط ، والدملج ، والخلخال ، والقلادة ( يريد موضع ذلك ) ، والله أعلم .

واختلف التابعون فيها أيضا على هذين القولين ، وعلى قول ابن عباس ، وابن عمر الفقهاء في هذا الباب .

فهذا ما جاء في المرأة وحكمها في الاستتار في صلاتها وغير صلاتها ، وأما الرجل ، فإن أهل العلم يستحبون أن يكون على عاتق الرجل ثوب إذا لم يكن متزرا لئلا تقع عينه على عورة نفسه ويستحبون للواحد المطيق على الثياب أن يتجمل في صلاته ما استطاع بثيابه وطيبه وسواكه ، قال معمر : عن أيوب ، عن نافع رآني ابن عمر أصلي في ثوب واحد فقال : ألم أكسك ثوبين ، قلت : بلى فقال : أرأيت لو أرسلتك إلى فلان كنت ذاهبا في هذا الثوب قلت : لا ، قال : فالله أحق [ ص: 370 ] من تزين له ، أو من تزينت له وقد جاء عن النبي - صلى الله عليه وسلم - مثل هذا ومحمله عندنا على الأفضل ، ولا سيما إن كان إماما .

حدثنا عبد الوارث بن سفيان ، قال : حدثنا قاسم بن أصبغ ، قال : حدثنا محمد بن عيسى بن السكن الواسطي ، قال : حدثنا المثنى بن معاذ ، عن أبيه عن شعبة ، وأخبرنا عبد الوارث ، قال : حدثنا قاسم ، قال : حدثنا إبراهيم بن إسحاق النيسابوري ، قال : أنبأنا عبيد الله بن معاذ ، قال : حدثنا أبي ، قال : حدثنا شعبة ، واللفظ لحديث المثنى ، عن أبيه عن شعبة ، عن توبة ( العنبري ، عن نافع ، عن ابن عمر ، قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : إذا أراد أحدكم أن يصلي ، فليتزر وليرتد .

حدثنا عبد الوارث بن سفيان ويعيش بن سعيد ، قالا : حدثنا قاسم بن [ ص: 371 ] أصبغ ، حدثنا أحمد بن محمد البرتي ، حدثنا أبو معمر ، حدثنا عبد الوارث ، قال : حدثنا أيوب ، عن نافع ، قال : شغلني شيء فجاء ابن عمر ، وأنا أصلي في ثوب واحد ، قال : فأمهلني حتى فرغت من الصلاة ، ثم قال : ألم تكس ثوبين قلت : بلى ، قال : فلو أرسلت خارجا من الدار أكنت تذهب في ثوب واحد قلت : لا ، قال : فالله أحق أن تزين له أم الناس قلت : بل الله ، قال : ثم حدث بحديث أكثر ظني أنه ذكر النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : إذا وجد أحدكم ثوبين ، فليصل فيهما ، وإن لم يجد إلا ثوبا واحدا فليتزر به اتزارا ، ولا يشتمل اشتمال اليهود ، وفي قوله - صلى الله عليه وسلم - : أو لكلكم ثوبان دليل على أن من كان معه ثوبان يتزر بالواحد ويلبس الآخر أنه حسن في الصلاة ، وإنما قلنا حسن ، ولم نقل واجب ، لأن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - [ ص: 372 ] وأصحابه قد صلوا في ثوب واحد ، ومعهم ثياب وحسبك بأبي هريرة ، وهو راوي ( هذا ) الحديث .

ذكر مالك ، عن ابن شهاب ، عن سعيد بن المسيب أنه قال : سئل أبو هريرة هل يصلي الرجل في ثوب واحد ؟ قال : نعم فقيل له : هل تفعل أنت ذلك ؟ قال : نعم إني لأصلي في ثوب واحد ، وإن ثيابي لعلى المشجب ، وقد حدثنا محمد بن عبد الملك ، قال : حدثنا أبو سعيد بن الأعرابي ، قال : حدثنا الحسن بن محمد الزعفراني ( قال : حدثنا سفيان ) بن عيينة ، عن أبي الزناد ، عن الأعرج ، عن أبي هريرة ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - لا يصلي أحدكم في الثوب الواحد ليس على منكبيه منه شيء . وأخبرنا عبد الوارث بن سفيان ، قال : حدثنا قاسم بن أصبغ ، قال : حدثنا محمد بن الجهم السمري ، قال : حدثنا جعفر بن عون ، قال : أنبأنا هشام بن عروة ، عن أبيه عن عمر بن أبي سلمة ، قال : رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في بيت أم سلمة يصلي في ثوب واحد واضعا طرفيه على عاتقيه . وروى عكرمة ، عن أبي هريرة ، قال : قال [ ص: 373 ] رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : إذا صلى أحدكم في ثوب ، فليخالف بطرفيه على عاتقيه . من حديث يحيى بن أبي كثير ، عن عكرمة .

قال أبو عمر :

فهذه سنة الصلاة في الثوب الواحد إذا كان واسعا ، وإن كان ضيقا فحديث جابر ، وحديث ابن عمر ، أما حديث جابر فرواه أبو حزرة يعقوب بن مجاهد ، عن عبادة بن الوليد ، قال : أنبأني جابر أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال له : إن كان واسعا فخالف بين طرفيه ، وإن كان ضيقا فاشدده عليك ، وبعضهم يقول فيه : فاشدده على حقوك ، وعند مالك حديث جابر هذا بلاغا ، عن جابر ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - وقال في آخره وإن كان قصيرا فليتزر به ، وقد ذكرنا هذا الخبر في بلاغات مالك ، والحمد لله .

وأما حديث ابن عمر فرواه حماد بن زيد ، عن [ ص: 374 ] أيوب ، عن نافع ، عن ابن عمر ، قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : أو قال عمر : إذا كان لأحدكم ثوبان ، فليصل فيهما ، وإن لم يكن له إلا ثوب ، فليتزر به ، ولا يشتمل اشتمال اليهود ، وروى أبو المنيب ( عبيد الله العتكي ) عن عبد الله بن بريدة ، عن أبيه ، قال : نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يصلى في سراويل ليس عليها رداء ، وهذا خبر لا يحتج به لضعفه ، ولو صح كان معناه الندب لمن قدر ، وقد جاء ما يعارضه . روى أبو حصين ، عن أبي صالح ، عن عائشة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - صلى في ثوب بعضه عليها ، وهذا لا محالة دون السراويل ويرده أيضا حديث جابر ، وحديث ابن عمر : قوله : وإن كان ضيقا فليتزر به ، وقد روى سلمة بن الأكوع ( أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال له : صل في قميص ، وبعضهم يقول في حديث سلمة هذا أنه قال : قلت ) : يا رسول الله ، إني أتصيد [ ص: 375 ] أفأصلي في القميص الواحد ؟ قال : نعم وزره ولو بشوكة ، وروى ابن عباس ، عن علي أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : إذا كان إزارك واسعا فتوشح به ، وإن كان ضيقا ، فاتزر به .

وهذه الآثار كلها تبين لك ما قلناه وفسرناه وبالله التوفيق .

وروي عن جابر ، وابن عمر ، وابن عباس ومعاوية وسلمة بن الأكوع ، وأبي أمامة ، وأبي هريرة وطاوس ومجاهد وإبراهيم ، وجماعة من التابعين أنهم أجازوا الصلاة في القميص الواحد إذا كان لا يصف ، وهو قول عامة فقهاء الأمصار في جميع الأقطار ، ومن العلماء من استحب الصلاة في ثوبين واستحبوا أن يكون المصلي مخمر العاتقين وكرهوا أن يصلي الرجل في ثوب واحد مؤتزرا به ليس على عاتقه منه شيء إذا قدر على غيره ، وأجمع جميعهم أن صلاة من صلى بثوب يستر عورته جائزة ، وكان الشافعي يقول : إذا كان الثوب ضيقا يزره ، أو يخلله بشيء لئلا يتجافى القميص فيرى من الجيب العورة ، وإن لم يفعل ، ورأى عورته أعاد الصلاة ، وهو قول أحمد ، وقد رخص مالك في الصلاة في القميص محلول الإزار ليس عليه سراويل ، ولا إزار ، وهو قول أبي حنيفة ، وأبي ثور ، وكان سالم يصلي محلول الإزار ، وقال داود الطائي : إذا كان عظيم [ ص: 376 ] اللحية ، فلا بأس به ، وأجمعوا على أن ستر العورة فرض واجب بالجملة على الآدميين ، واختلفوا هل هي من فروض الصلاة أم لا ، فقال أكثر أهل العلم وجمهور فقهاء الأمصار : إنها من فروض الصلاة ، وإلى هذا ذهب أبو الفرج عمرو بن محمد المالكي واستدل بأن الله - عز وجل - قرن أخذ الزينة بذكر المساجد يعني الصلاة ، والزينة المأمور بها في قول الله - عز وجل - : خذوا زينتكم عند كل مسجد هي الثياب الساترة للعورة ، لأن الآية نزلت من أجل الذين كانوا يطوفون بالبيت عراة ، وهذا ما لا خلاف فيه بين العلماء ، وأخبرنا عبد الله بن محمد ، قال : حدثنا حمزة بن محمد ، قال : أنبأنا أحمد بن شعيب ، قال : أنبأنا محمد بن بشار ، قال : حدثنا غندر ، عن شعبة ، عن سلمة ، قال : سمعت مسلما البطين ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس [ ص: 377 ] قال : كانت المرأة تطوف بالبيت وهي عريانة وتقول :


اليوم يبدو بعضه أو كله وما بدا منه فلا أحله



فنزلت يابني آدم خذوا زينتكم عند كل مسجد .

قال أبو عمر :

لا يختلف العلماء بتأويل القرآن أن قوله - عز وجل - خذوا زينتكم عند كل مسجد نزلت في القوم الذين كانوا يطوفون بالبيت عراة . روينا عن مجاهد وطاوس ، وأبي صالح ومحمد بن كعب القرظي ومحمد بن شهاب الزهري في ذلك معنى ما نورده بدخول كلام بعضهم في بعض ، وأكثره على لفظ ابن شهاب ، قال : كانت العرب تطوف بالبيت ( عراة ) إلا الحمس قريشا وأحلافهم ، فمن جاء من غيرهم وضع ثيابه ، فطاف في ثوبي أحمسي يستعيرهما منه ، فإن [ ص: 378 ] لم يجد من يعيره استأجر من ثيابهم ، فإن لم يجد من يستأجر منه ثوبه من الحمس ، ولا من يعيره ذلك كان بين أحد أمرين ، إما أن يلقي عنه ثيابه ويطوف عريانا ، وإما أن يطوف في ثيابه ، فإن طاف في ثيابه ألقاها عن نفسه إذا قضى طوافه وحرمها عليه ، فلا يقربها ( ولا يقربها ) غيره فكان ذلك الثوب يسمى اللقى ، وفي ذلك يقول بعضهم :


كفى حزنا كري عليه كأنه لقى بين أيدي الطائفين حريم



والمرأة في ذلك والرجل سواء ، إلا أن النساء كن يطفن بالليل ، والرجال بالنهار فقدمت امرأة لها هيئة وجمال ، فطافت عريانة ، وقال بعضهم : بل كان عليها من ثيابها ما ينكشف عنها فجعلت تقول :


اليوم يبدو بعضه أو كله فما بدا منه فلا أحله



فكانوا على ذلك حتى بعث الله نبيه - صلى الله عليه وسلم - [ ص: 379 ] وأنزل عليه يابني آدم خذوا زينتكم عند كل مسجد وأمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مناديا فنادى أن لا يطوف بالبيت عريان ، وقال مجاهد كانت قريش تطوف عراة ، ولا يلبس أحدهم ثوبا طاف فيه ، وقال غيره ما ذكرناه .

قال أبو عمر :

استدل من جعل ستر العورة من فرائض الصلاة بالإجماع على إفساد من ترك ثوبه ، وهو قادر على الاستتار به وصلى عريانا ، وقال آخرون : ستر العورة فرض عن أعين المخلوقين لا من أجل الصلاة ، وستر العورة سنة مؤكدة من سنن الصلاة ، ومن ترك الاستتار ، وهو قادر على ذلك وصلى عريانا فسدت صلاته كما تفسد صلاة من ترك الجلسة الوسطى عامدا ، وإن كانت مسنونة ولكلا الفريقين اعتلال يطول ذكره . والقول الأول أصح في النظر وأصح أيضا من جهة الأثر ، وعليه الجمهور ، واختلفوا في العورة من الرجل ما هي فقال الشافعي وأبو حنيفة ، وأصحابهما ، والأوزاعي ، وأبو ثور ما دون السرة إلى الركبة عورة ، وقال أبو حنيفة : الركبة عورة ، وقال الشافعي : ليست السرة ، ولا الركبتان من [ ص: 380 ] العورة وحكى أبو حامد الترمذي للشافعي في السرة قولين ، واختلف المتأخرون من أصحابه في ذلك أيضا على ذينك القولين ، فطائفة قالت السرة من العورة ، وطائفة قالت ليست السرة عورة ، وقال عطاء : الركبة عورة ، وقال مالك : السرة ليست بعورة وأكره للرجل أن يكشف فخذه بحضرة زوجته ، وقال ابن أبي ذئب العورة من الرجل الفرج نفسه القبل والدبر دون غيرهما ، وهو قول داود ، وأهل الظاهر وقول ابن علية ، والطبري ، فمن حجة من قال : إن الفخذ ليست بعورة حديث عائشة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان جالسا في بيته كاشفا عن فخذه ، فاستأذن أبو بكر ، ثم عمر ، فأذن لهما ، وهو على تلك الحال ، ثم استأذن عثمان فسوى عليه ثيابه ( ثم أذن له ) فسئل عن ذلك فقال : ألا أستحيي ممن تستحيي منه الملائكة ، وهذا حديث في ألفاظه اضطراب [ ص: 381 ] ( واحتج البخاري في ذلك بحديث أنس بن مالك ، قال : حسر النبي - صلى الله عليه وسلم - على فخذه حتى إني لأرى بياض فخذ نبي الله - صلى الله عليه وسلم - ) ومن حجة من قال : ما بين السرة والركبة عورة قوله - صلى الله عليه وسلم - الفخذ عورة رواه علي بن أبي طالب رضي الله عنه . وابن عباس ومحمد بن جحش وجرهد الأسلمي وقبيصة بن مخارق كلهم عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قالوا : والركبة ليست من الفخذ ، واحتجوا أيضا بأن أبا هريرة قبل سرة الحسن بن علي ، وقال : أقبل منك ما كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقبل منك ، فلو كانت السرة عورة ما قبلها أبو هريرة ، ولا مكنه منها الحسن ومحال أن يقبلها حتى ينظر إليها .

( أخبرنا أحمد بن محمد ، قال : حدثنا أحمد بن الفضل بن العباس ، قال : حدثنا أبو بكر أحمد بن محمد بن الجعد [ ص: 382 ] ( الوشاء ) قال : حدثنا عبد الأعلى بن حماد ( الرنسي ) قال : حدثنا معمر بن سليمان ، قال : حدثنا حميد ، عن أنس ، قال : صلى النبي - صلى الله عليه وسلم - خلف أبي بكر - رحمه الله - في ثوب واحد ، قال معتمر : أظنه في مرضه )




الخدمات العلمية