الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
معلومات الكتاب

التمهيد لما في الموطأ من المعاني والأسانيد

ابن عبد البر - أبو عمر يوسف بن عبد الله بن محمد بن عبد البر

صفحة جزء
101 [ ص: 100 ] حديث ثان لابن شهاب عن عروة .

مالك عن ابن شهاب عن عروة عن عائشة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يغتسل من إناء هو الفرق من الجنابة .

التالي السابق


هكذا قال مالك في هذا الحديث ، وتابعه ابن عيينة والليث بن سعد على إسناده ، ومتنه إلا أنهما زادا فيه : وكنت أغتسل أنا ، ورسول الله صلى الله عليه وسلم من إناء واحد ، وهذا اللفظ عند مالك عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة ، وروى هذا الحديث عن ابن شهاب معمر ، وابن جريج بمثل إسناد مالك إلا أنهما قالا : " كنت أغتسل أنا ورسول الله صلى الله عليه وسلم من إناء واحد " هو الفرق فأتيا بلفظ حديث مالك عن هشام بن عروة فذكرا فيه الفرق ، وليس في حديث هشام ذكر الفرق .

حدثنا عبد الوارث بن سفيان قال : حدثنا قاسم بن أصبغ قال : حدثنا محمد بن إسماعيل قال : حدثنا الحميدي ، قال : حدثنا سفيان قال : حدثنا الزهري قال : أخبرني عروة بن الزبير قال : سمعت عائشة تقول : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يغتسل في القدح ، وهو الفرق وكنت أغتسل أنا ، وهو من إناء واحد ، فأتى بحديثي مالك جميعا عن ابن شهاب ، وهشام في هذا الإسناد ، وكذلك رواه الليث .

[ ص: 101 ] حدثنا عبد الله بن محمد قال : حدثنا حمزة بن محمد قال : حدثنا أحمد بن شعيب قال : أخبرنا قتيبة بن سعيد قال : حدثنا الليث عن ابن شهاب عن عروة عن عائشة أنها قالت : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يغتسل في القدح ، وهو الفرق ، وكنت أغتسل أنا وهو من إناء واحد . حدثنا محمد بن إبراهيم قال : حدثنا معاوية قال : حدثنا أحمد بن شعيب قال : حدثنا إسحاق بن إبراهيم قال : أخبرنا عبد الرزاق قال : حدثنا معمر وابن جريج عن الزهري عن عروة عن عائشة قالت : كنت أغتسل أنا ورسول الله صلى الله عليه وسلم من إناء واحد ، وهو قدر الفرق ، ورواه إبراهيم بن سعد عن ابن شهاب فخالف جميعهم في إسناده ، وجعله عن القاسم ، ولم يجعله عن عروة . حدثنا عبد الوارث بن سفيان قال : حدثنا قاسم بن أصبغ قال : حدثنا جعفر بن محمد الصائغ قال : حدثنا سليمان بن داود قال : حدثنا إبراهيم بن سعد قال : حدثنا ابن شهاب عن القاسم بن محمد عن عائشة قالت : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يغتسل من إناء هو الفرق قالت : عائشة : وكنت أغتسل معه في الإناء الواحد قال ابن شهاب : وأظن الفرق يومئذ خمسة أقساط . [ ص: 102 ] قال أبو عمر :

لا أدري ما أراد ابن شهاب بالقسط ، ولا ما كان مقداره عندهم ، وأما العرب فالقسط عندها الحصة والمقدار كذلك قال الخليل ، وقال الخليل : الفرق مكيال ، وقال ابن وهب : الفرق مكيال من خشب كان ابن شهاب يقول : إنه يسع خمسة أقساط بأقساط بني أمية ، وفسر محمد بن عيسى الأعشى عن ابن كنانة الفرق ، أنه ثلاثة أصوع قال الأعشى : والثلاثة أصوع خمسة أقساط ، وفي الخمسة أقساط اثنا عشر مدا بمد النبي صلى الله عليه وسلم ، وقال ابن مزين : قال لي عيسى بن دينار : قال لي ابن القاسم ، وسفيان بن عيينة في الفرق : إنه كان يحمل ثلاثة أصوع ، وقال أبو داود : سمعت أحمد بن حنبل يقول : الفرق ستة عشر رطلا ، وقال موسى الجهني : عن مجاهد أنه أتى بقدح - حزرته ثمانية أرطال - فقال : حدثتني عائشة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يغتسل بمثل هذا ، وقال الأثرم سمعت : أبا عبد الله يسأل عن الفرق كم هو ؟ قال : ثلاثة أصوع . قال أبو عمر :

قول ابن شهاب ، وابن عيينة ، وابن القاسم ، والأعشى قريب من قريب في مقدار الفرق ، وكذلك قول أحمد بن حنبل ، وأما قول مجاهد فبعيد ، وقول أولئك أولى ، والله أعلم .

[ ص: 103 ] وروى في الموطأ الفرق ( والفرق ) بتسكين الراء ، وتخفيفها ، وحركتها ، ورواية يحيى بالإسكان ، وتابعه قوم ، وأما قول عائشة كنت أغتسل أنا ، ورسول الله صلى الله عليه وسلم من إناء واحد فرواه عبد الرحمن بن القاسم ( عن أبيه عن عائشة من حديث شعبة ) وغيره عن عبد الرحمن ( ورواه إبراهيم عن الأسود عن عائشة ، ورواه هشام عن أبيه عن عائشة ) وقد ذكرنا الاختلاف فيه على ابن شهاب ، وفيه من الفقه : ترك التحديد فيما يكفي من الماء ، وأن فضل المرأة لا بأس بالوضوء منه وسنذكر الاختلاف في ذلك ، ووجه الصواب فيه إن شاء الله عند ذكر حديث نافع عن ابن عمر إن كان الرجال ، والنساء ليتوضئون جميعا في زمان رسول الله صلى الله عليه وسلم ; لأن حديث هشام بن عروة هذا ليس من رواية مالك في الموطأ ، وإذا توضأ الاثنان وأكثر من إناء واحد ففي ذلك دليل على أنه لا تحديد ، ولا توقيف فيما يكفي المغتسل ، والمتوضئ من الماء ، وحسبه الإتيان بالماء على ما يغسل من الأعضاء غسلا ، وعلى ما يمسح مسحا ، وأما حديث ابن شهاب المذكور في هذا الباب ففيه من الفقه الاقتصار على أقل ما يكفي من الماء ، وأن الإسراف فيه مذموم ، وفي ذلك رد على الإباضية ، ومن ذهب مذهبهم في الإكثار من الماء وهذا ما [ ص: 104 ] سيق هذا الحديث ( له ) والله أعلم ، إنكارا على أولئك ( الطائفة ) ; لأنه مذهب ظهر في زمن التابعين ، وسئل عنه الصحابة ، ونقل ( في ) ذلك من الحديث ما ترى ، وروى عبد الله بن المبارك عن شعبة عن عبد الله ( بن عبد الله ) بن جبر عن أنس بن مالك قال : كان النبي صلى الله عليه وسلم يتوضأ بمكوك ويغتسل بخمس مكاكيك .

وقال الخليل : الصاع طاس يشرب به والمكوك مكيال ، وقال أبو جعفر محمد بن علي : تمارينا في الغسل عند جابر ، فقال جابر : يكفي للغسل صاع من ماء قلنا : ما يكفي صاع ، ولا صاعان فقال جابر : قد كان يكفي من كان خيرا منكم ، وأكثر شعرا [ ص: 105 ] وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم من وجوه أنه كان يتوضأ بالمد ، ويغتسل بالصاع وهي آثار مشهورة مستعملة ، عند قوم من الفقهاء ، وليست أسانيدها مما يحتج به ، والذي اعتمد عليه البخاري ، وأبو داود في باب ما يكفي الجنب من الماء حديث الفرق المذكور في هذا الباب ، وهذه الآثار كلها إنما رويت إنكارا علىالإباضية ، وجملتها تدل على أن لا توقيت فيما يكفي من الماء ، والدليل على ذلك أنهم أجمعوا أن الماء لا يكال للوضوء ، ولا للغسل من قال منهم بحديث المد والصاع ومن قال بحديث الفرق لا يختلفون أنه لا يكال ( الماء ) لوضوء ، ولا لغسل لا أعلم في ذلك خلافا ، ولو كانت الآثار في ذلك على التحديد الذي لا يتجاوز استحبابا ، أو وجوبا ؛ ما كرهوا الكيل بل كانوا يستحبونه اقتداء وتأسيا برسول الله صلى الله عليه وسلم ، ولا يكرهونه .

روى عبد الرزاق عن ابن جريج قال : سمعت عبد الله بن عبيد بن عمير يقول : صاع للغسل من ( غير ) أن يكال قال : وأخبرني ابن جريج قال : قلت لعطاء : كم بلغك أنه يكفي الجنب ؟ قال : صاع من ماء من غير أن يكال .

[ ص: 106 ] حدثنا عبد الله بن محمد ، حدثنا عبد الحميد بن أحمد ، حدثنا الخضر بن داود ، حدثنا أبو بكر الأثرم حدثنا القعنبي قال : حدثنا سليمان بن بلال عن عبد الرحمن بن عطاء أنه سمع سعيد بن المسيب ، ورجل من أهل العراق يسأله عما يكفي الإنسان في غسل الجنابة فقال له سعيد : إن لي تورا يسع مدين من ماء ، أو نحوهما وأغتسل به فيكفيني ، ويفضل منه فضل فقال الرجل : والله ( إني ) لأستنثر بمدين من ماء فقال سعيد بن المسيب : فما تأمرني إن كان الشيطان يلعب بك فقال له الرجل : وإن لم يكفني فإني رجل - كما ترى - عظيم ، فقال له سعيد : ثلاثة ( أمداد ) فقال : إن ثلاثة أمداد قليل فقال له سعيد : فصاع ، قال عبد الرحمن : وقال لي سعيد : إن لي لركوة ، أو قدحا ما يسع إلا نصف المد ، ونحوه ، وإني لأتوضأ منه ، وربما فضل ( منه ) فضل قال عبد الرحمن : فذكرت هذا الحديث الذي سمعت من سعيد بن المسيب لسليمان بن يسار فقال ( لي ) سليمان بن يسار : وأنا يكفيني مثل ذلك قال عبد الرحمن : فذكرت ذلك لأبي عبيدة ( بن [ ص: 107 ] محمد ) بن عمار بن ياسر فقال أبو عبيدة : هكذا سمعنا عن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم قال الأثرم : وحدثنا أبو حذيفة قال : حدثنا عكرمة بن عمار قال : كنت مع القاسم بن محمد فدعا بوضوء فأتي بقدر نصف مد ، وزيادة قليل فتوضأ به قال : وسألت أبا عبد الله يعني أحمد بن حنبل أيجزئ في الوضوء مد ؟ قال : نعم إذا أحسن أن يتوضأ ( به ) قلت : فإن الناس في الأسفار ربما ضاق عليهم الماء أفيجزئ الرجل أن يتوضأ بأقل من المد قال : إذا أحسن أن يتوضأ به فإنه يجزئه ، ثم قال أبو عبد الله : لا يمسح إنما هو الغسل قال الله عز وجل : فاغسلوا وجوهكم وأيديكم فإنما هو الغسل ، ليس هو المسح ، فإذا أمكنه أن يغسل به غسلا فإن مدا ، أو أقل أجزأه . قال أبو عمر : على هذا جماعة العلماء من أهل الفقه ، والأثر بالحجاز ، والعراق ، ولا يخالف ( في ) هذا إلا مبتدع ضال ، وبالله التوفيق .




الخدمات العلمية