الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
معلومات الكتاب

التمهيد لما في الموطأ من المعاني والأسانيد

ابن عبد البر - أبو عمر يوسف بن عبد الله بن محمد بن عبد البر

صفحة جزء
1815 [ ص: 33 ] حديث رابع لابن شهاب ، عن عبيد الله بن عبد الله - مسند

مالك ، عن ابن شهاب ، عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود ، عن ابن عباس ، عن ميمونة زوج النبي - صلى الله عليه وسلم - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سئل عن الفأرة تقع في السمن ، فقال : انزعوها وما حولها فاطرحوه .

التالي السابق


هكذا روى يحيى هذا الحديث فجود إسناده وأتقنه عن مالك ، عن ابن شهاب ، عن عبيد الله ، عن ابن عباس ، عن ميمونة ، وتابعه جماعة من الحفاظ ، منهم عبد الرحمن بن مهدي ، وعبد الله بن نافع ، والشافعي ، وإسماعيل بن أبي أويس ، وسعيد بن أبي مريم ، وزيد بن يحيى بن عبيد الدمشقي ، وأشهب بن عبد العزيز ، وإبراهيم بن طهمان ، وزياد بن يونس ، ومطرف بن عبد الله ، وسعيد بن داود الزبيري ، وإسحاق بن عيسى الطباع ، وعبيد بن حيان ، كل هؤلاء يروونه عن مالك ، عن ابن شهاب ، عن عبيد الله بن عبد الله ، عن ابن عباس ، عن ميمونة ، عن النبي ، صلى الله عليه وسلم .

ورواه ابن وهب ، عن مالك ، عن ابن شهاب ، عن عبيد الله ، عن ميمونة ، لم يذكر ابن عباس .

[ ص: 34 ] هكذا رواه عن ابن وهب يونس بن عبد الأعلى ، وأبو الطاهر ، والحارث بن مسكين ، ورواه القعنبي ، والتنيسي ، وعثمان بن عمر ، ومعن بن عيسى ، وإسحاق بن سليمان الرازي ، وخالد بن مخلد ، ومحمد بن الحسن ، وأبو قرة موسى بن طارق ، وإسحاق بن محمد الفروي ، كل هؤلاء رووه عن مالك ، عن ابن شهاب ، عن عبيد الله ، عن ابن عباس ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يذكروا ميمونة ، ورواه يحيى القطان ، وجويرية ، عن مالك ، الزهري ، عن عبيد الله بن عبد الله ، عن ابن عباس ، أن ميمونة استفتت النبي ، صلى الله عليه وسلم .

ورواه ابن بكير ، وأبو مصعب ، عن مالك ، عن ابن شهاب ، عن عبيد الله ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - مقطوعا . وهذا اضطراب شديد عن مالك في إسناد هذا الحديث - والله أعلم - والصواب فيه ما قاله يحيى ومن تابعه ، والله أعلم .

واختلف في هذا الحديث أيضا أصحاب ابن شهاب ، فرواه ابن عيينة ، ومعمر عن ابن شهاب ، عن عبيد الله ، عن ابن عباس ، عن ميمونة ، كما روى يحيى . وعنه معمر خاصة من بين أصحاب ابن شهاب في هذا الحديث إسناد آخر ، عن سعيد بن المسيب ، عن أبي هريرة ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه سئل عن فأرة وقعت في سمن ، فقال : إن كان جامدا فخذوها وما حولها فألقوه .

[ ص: 35 ] قال عبد الرزاق في هذا الحديث بهذا الإسناد : وإن كان مائعا فلا تقربوه . وقال عنه عبد الواحد بن يزيد : وإن كان ذائبا أو مائعا فاستصبحوا به ، أو قال : انتفعوا به ، وروى الأوزاعي هذا الحديث عن ابن شهاب ، عن عبيد الله ، عن ابن عباس ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يذكر ميمونة بنحو حديث مالك وتابعه على هذا الإسناد عبد الرحمن بن إسحاق ، عن ابن شهاب ، عن عبيد الله ، عن ابن عباس لم يذكر ميمونة . ورواه عقيل ، عن ابن شهاب ، عن عبيد الله أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - استفتي في فأرة وقعت في سمن - مقطوعا - لم يذكر ابن عباس ، ولا ميمونة ، والصحيح في إسناد هذا الحديث ما قاله مالك في رواية يحيى ومن تابعه كما ذكرنا .

قال محمد بن يحيى النيسابوري : وحديث معمر أيضا الزهري عن سعيد ، عن أبي هريرة ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - محفوظ . قال : والطريقان عندنا محفوظان إن شاء الله . قال : لكن المشهور حديث ابن شهاب عن عبيد الله ، قال : وصوابه : عن ابن عباس عن ميمونة كما قال مالك وابن عيينة .

[ ص: 36 ] وقال البخاري : حديث عبد الرزاق عن معمر ، عن الزهري ، عن ابن المسيب ، عن أبي هريرة في هذا غير محفوظ . قال محمد بن يحيى : ورواه عبد الجبار بن عمر ، عن ابن شهاب ، عن سالم بن عبد الله ، عن عبد الله بن عمر ، أنه كان عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حين جاءه رجل فسأله عن فأرة وقعت في ودك لهم . قال : وهذا الإسناد عندنا غير محفوظ ، وهو خطأ ، ولا يعرف هذا الحديث من حديث سالم ، وعبد الجبار ضعيف جدا .

قال أبو عمر :

حديث ابن عمر هذا ذكره ابن وهب في موطئه عن عبد الجبار بن عمر بإسناده هذا فأما رواية ابن عيينة لهذا الحديث فحدثنا سعيد بن نصر ، قال : حدثنا قاسم بن أصبغ ، قال : حدثنا محمد بن إسماعيل الترمذي ، قال : حدثنا الحميدي قال : حدثنا سفيان ، قال : حدثنا الزهري ، قال : أخبرني عبيد الله بن عبد الله بن عتبة ، أنه سمع ابن عباس يحدث عن ميمونة أن فأرة وقعت في سمن فماتت ، فسئل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال : ألقوها وما حولها وكلوا .

هذا مثل إسناد يحيى عن مالك في هذا الحديث سواء .

[ ص: 37 ] وحدثنا خلف بن قاسم ، حدثنا أحمد بن محمد بن الحسين العسكري ، حدثنا إبراهيم بن أبي داود البرلسي ، حدثنا سعيد بن أبي مريم ، عن مالك بن أنس ، وسفيان بن عيينة ، عن الزهري ، عن عبيد الله بن عبد الله ، عن ابن عباس ، عن ميمونة ، أن فأرة وقعت في سمن ، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - : ألقوها وما حولها وكلوه .

وحدثنا خلف ، حدثنا أحمد بن محمد بن الحسين ، حدثنا يونس بن عبد الأعلى ، حدثنا أشهب بن عبد العزيز ، حدثنا مالك ، حدثني ابن شهاب ، عن عبيد الله بن عبد الله ، عن ابن عباس ، عن ميمونة ، قالت سئل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن فأرة وقعت في سمن ، فقال : خذوها وما حولها فألقوه .

وأما رواية معمر ، فأخبرنا خلف بن سعيد ، أخبرنا عبد الله بن محمد ، حدثنا أحمد بن خالد ، حدثنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن الزهري ، عن سعيد بن المسيب ، عن أبي هريرة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سئل عن فأرة وقعت في سمن ، فقال : إن كان جامدا فخذوها وما حولها فألقوه ، وإن كان مائعا فلا تقربوه .

وأخبرنا عبد الله بن محمد بن عبد المؤمن ، قال : حدثنا محمد بن بكر ، قال : حدثنا أبو داود ، قال : حدثنا أحمد بن صالح والحسن بن علي ، وهذا لفظ الحسن ، قال : حدثنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن الزهري ، عن سعيد بن المسيب ، عن أبي هريرة ، قال : قال رسول الله [ ص: 38 ] - صلى الله عليه وسلم - : إذا وقعت الفأرة في السمن ، فإن كان جامدا فألقوه وما حولها ، وإن كان مائعا فلا تقربوه .

قال الحسن : قال عبد الرزاق : وربما حدث به معمر عن الزهري ، عن عبيد الله بن عبد الله ، عن ابن عباس ، عن ميمونة ، عن النبي ، صلى الله عليه وسلم .

قال أبو داود : وحدثنا أحمد بن صالح ، قال : حدثنا عبد الرزاق ، قال : حدثنا عبد الرحمن بن بوذويه عن معمر ، عن الزهري ، عن عبيد الله بن عبد الله ، عن ابن عباس ، عن ميمونة ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - بمثل حديث الزهري عن سعيد بن المسيب .

هكذا قال عبد الرزاق ، عن معمر ، عن سعيد ، عن أبي هريرة بهذا الإسناد : وإن كان مائعا فلا تقربوه .

وقال فيه عبد الواحد بن زياد ، عن معمر أيضا بهذا الإسناد ، عن الزهري ، عن سعيد ، عن أبي هريرة ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - وإن كان ذائبا - أو قال : مائعا - لم يؤكل . هذه رواية مسدد ، عن عبد الواحد .

حدثنا بذلك عبد الوارث ، حدثنا قاسم ، حدثنا بكر ، حدثنا مسدد ، حدثنا عبد الواحد ، قال : أخبرنا معمر ، عن الزهري ، عن سعيد بن المسيب ، عن أبي هريرة ، قال : سئل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن [ ص: 39 ] فأرة وقعت في سمن ، فقال : إن كان جامدا ألقيت وما حولها وإن كان ذائبا أو مائعا لم يؤكل .

وغير مسدد يقول فيه عن عبد الواحد ، عن معمر بهذا الإسناد : وإن كان مائعا فانتفعوا به واستصبحوا .

وقد يحتمل أن يكون المعنى في رواية مسدد وغيره عن عبد الواحد في ذلك سواء ، ويحمل قوله لم يؤكل في رواية مسدد على تخصيص الأكل ، كأنه قال : لم يؤكل ولكنه يستصبح به وينتفع ، فلا تتعارض الرواية عنه في ذلك .

وأما عبد الأعلى ، فرواه عن معمر ، عن الزهري ، عن سعيد ، عن أبي هريرة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سئل عن فأرة وقعت في سمن ، فأمر بها أن تؤخذ وما حولها فتطرح ، هكذا قال . لم يذكر حكم المائع بشيء ، وكل هؤلاء ليس عنده عن معمر في هذا الحديث إلا هذا الإسناد ، عن الزهري ، عن سعيد ، عن أبي هريرة .

وقال محمد بن يحيى النيسابوري بعد ذكره هذا الحديث ، قال : وحدثنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا عبد الرحمن بن بوذويه - وكان من مثبتيهم - أن معمرا كان يرويه أيضا عن الزهري ، عن عبيد الله بن عبد الله ، عن ابن عباس ، عن ميمونة . قال محمد بن يحيى : ومما يصحح حديث معمر ، عن الزهري ، عن سعيد أن عبد الله بن صالح ، حدثني [ ص: 40 ] قال : حدثني الليث ، قال : حدثني خالد بن يزيد ، عن سعيد بن أبي هلال ، عن ابن شهاب ، قال : قال ابن المسيب بلغنا أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سئل عن فأرة وقعت في سمن ، قال محمد بن يحيى : فقد وجدنا ذكر سعيد بن المسيب في هذا الحديث من غير رواية معمر ، فالحديثان محفوظان .

قال أبو عمر :

في هذا الحديث معان من الفقه ، منها ما اجتمع عليه ، ومنها ما اختلف فيه ، فأما ما اجتمع عليه العلماء من ذلك ، أن الفأرة ومثلها من الحيوان كله يموت في سمن جامد ، أو ما كان مثله من الجامدات ، أنها تطرح وما حولها من ذلك الجامد ، ويؤكل سائره إذا استيقن أنه لم تصل الميتة إليه ، وكذلك أجمعوا أن السمن وما كان مثله إذا كان مائعا ذائبا فماتت فيه فأرة ، أو وقعت - وهي ميتة - أنه قد تنجس كله ، وسواء وقعت فيه ميتة أو حية فماتت ، يتنجس بذلك قليلا كان أو كثيرا . هذا قول جمهور الفقهاء ، وجماعة العلماء .

وقد شذ قوم فجعلوا المائع كله كالماء ، ولا وجه للاشتغال بشذوذهم في ذلك ، ولا هم عند أهل العلم ممن يعد خلافا ، وسلك داود بن علي سبيلهم في ذلك ، إلا في السمن الجامد والذائب ، فإنه قال فيه بظاهر حديث هذا الباب ، وخالف معناه في العسل والخل والمري والزيت ، [ ص: 41 ] وسائر المائعات ، فجعلها كالماء في لحوق النجاسة إياها بما ظهر منها فيها ، فشذ أيضا ويلزمه أن لا يتعدى الفأرة كما لم يتعد السمن والحية ، قوله وقول بعض أصحابه ، ويلزمهم أيضا ألا يعتبروا إلقاءها في السمن حتى تكون هي تقع بنفسها ، وكفى بقول يؤول إلى هذا قود أصله قبحا وفسادا .

وأما سائر العلماء وجماعة أئمة الأمصار في الفتوى فالفأرة والوزعة والدجاجة وما يؤكل وما لا يؤكل عندهم سواء ، إذا مات في السمن أو الزيت أو وقع فيه وهو ميت إذا كان له دم ، ولم يكن كالبعوض الذي لا دم له والدود وشبه ذلك .

وأجمعوا أن المائعات كلها من الأطعمة والأشربة ما خلا الماء سواء ، إذا وقعت فيها الميتة نجست المائع كله ، ولم يجز أكله ولا شربه عند الجميع إلا فرقة شذت على ما ذكرنا ، منهم داود .

واختلفوا في الزيت تقع فيه الميتة بعد إجماعهم على نجاسته ، هل يستصبح به ؟ وهل يباع وينتفع به في غير الأكل ؟ فقالت طائفة من العلماء : لا يستصبح به ولا يباع ولا ينتفع بشيء منه .

وممن قال ذلك منهم : الحسن بن صالح ، وأحمد بن حنبل ، ومن حجة من ذهب هذا المذهب قوله - صلى الله عليه وسلم - في السمن تقع فيه [ ص: 42 ] الفأرة : خذوها وما حولها فألقوه ، وإن كان مائعا فلا تقربوه .

قالوا : فلما أمر بإلقاء الجامد وحكم له بحكم الفأرة الميتة ، وجب أن يلقى أبدا ، ولا ينتفع به في شيء كما لا ينتفع بالفأرة ، ولو كان بينهما فرق لبينه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولما أمر بإلقاء شيء يمكن الانتفاع به .

قالوا : وكذلك المائع يلقى أيضا كله ولا يقرب ولا ينتفع بشيء منه ، هذا لو لم يكن في المائع نص ، فكيف وقد قال عبد الرزاق في هذا الحديث : وإن كان مائعا فلا تقربوه .

واحتجوا أيضا بعموم تحريم الميتة في الكتاب والسنة ، فمن ذلك ما حدثنا عبد الوارث بن سفيان ، قال : حدثنا قاسم بن أصبغ ، قال : حدثنا مطلب بن شعيب ، قال : حدثنا عبد الله بن صالح قال : حدثني الليث ، عن يزيد بن أبي حبيب ، قال : قال عطاء بن أبي رباح سمعت جابر بن عبد الله يقول : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عام الفتح بمكة : إن الله ورسوله حرم بيع الخمر والميتة والخنزير والأصنام . قيل له : يا رسول الله أرأيت شحوم الميتة ، فإنه يدهن بها السفن والجلود ، ويستصبح بها الناس ؟ فقال : لا ، هي حرام . ثم قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : قاتل الله اليهود ، لما حرم عليهم الشحم جملوه فباعوه وأكلوا ثمنه . فحذر أمته أن يفعلوا مثل ذلك وذكره البخاري ، قال : حدثنا [ ص: 43 ] قتيبة ، قال : حدثنا الليث ، عن يزيد بن أبي حبيب ، عن عطاء بن أبي رباح ، عن جابر بن عبد الله ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - مثله .

وذكره ابن أبي شيبة ، عن أبي أسامة ، عن عبد الحميد بن جعفر ، عن يزيد بن أبي حبيب ، عن عطاء ، عن جابر مرفوعا مثله . وقال آخرون : يجوز الاستصباح بالزيت تقع فيه الميتة ، وينتفع به في الصابون وشبهه ، وفي كل شيء ما لم يبع ولم يؤكل ، فإنه لا يجوز بيعه ولا أكله بحال . وممن قال ذلك مالك والشافعي وأصحابهما والثوري .

قال أبو عمر :

أما أكله فمجتمع على تحريمه إلا الشذوذ الذي ذكرنا .

وأما الاستصباح به فقد روي عن علي بن أبي طالب ، وعبد الله بن عمر إجازة ذلك . روى الحارث عن علي قال : استنفع به للسراج ، ولا تأكله .

وروى سفيان بن عيينة ، عن أيوب بن موسى ، عن نافع ، عن صفية بنت أبي عبيد ، أن فأرة وقعت في أفران زيت لآل عبد الله بن عمر فأمرهم ابن عمر أن يستصبحوا به ويدهنوا به الأدم . وروى ابن عيينة والثوري ومعمر ، عن أيوب السختياني ، عن نافع ، عن ابن عمر مثله .

وروى ابن وهب قال : أخبرني أسامة بن زيد ، عن نافع أن امرأة عبد الله بن عمر أخبرته أنه كان لعبد الله بن عمر جرة ضخمة ملأى [ ص: 44 ] سمنا ، فوجد فيها فأرة ميتة ، فأبى أن يأكل منها ، ومنع أهله وأمرهم أن يستصبحوا ، به وأن يدهنوا به أدما كان لهم .

قال ابن وهب : وأخبرني أنس بن عياض ، عن عبد الله بن محمد بن أبي مريم الثقفي ، أنه قال : سألت سعيد بن المسيب عن جرتين وقعت فيهما فأرتان : فأما الواحدة فأخرجنا منها الفأرة حية ، فقال سعيد لا بأس بزيتها فكلوه . وأما الأخرى فعالجنا بالفأرة التي فيها حتى ماتت ، فقال : لا تأكلوا ما خرج روحها فيها .

ومن حجة هؤلاء في تحريم بيعه ، ما حدثنا خلف بن سعيد ، حدثنا عبد الله بن محمد ، حدثنا أحمد بن خالد ، حدثنا علي بن عبد العزيز ، حدثنا عمرو بن عون ، قال : أخبرنا هشيم ، عن خالد - يعني الحذاء - عن بركة أبي الوليد ، عن ابن عباس ، قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : لعن الله اليهود ، حرمت عليهم الشحوم فباعوها وأكلوا أثمانها ، وأن الله إذا حرم أكل شيء حرم ثمنه .

واحتجوا أيضا بحديث زيد بن أسلم ، عن ابن وعلة ، عن ابن عباس ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قوله في الخمر : إن الذي حرم شربها ، حرم بيعها وقد مضى هذا الحديث بطرقه في باب زيد من كتابنا هذا والحمد لله .

[ ص: 45 ] قالوا : فهذه نصوص صحاح في أنه لا يجوز بيع شيء لا يحل أكله من الطعام والشراب .

وقال آخرون : ينتفع بالزيت الذي تقع فيه الميتة بالبيع وبكل شيء ما عدا الأكل ، فإنه لا يؤكل ، قالوا : وجائز أن يبيعه ويبين له ، وممن قال ذلك أبو حنيفة وأصحابه ، والليث بن سعد ، وقد روي عن أبي موسى الأشعري قال : لا تأكلوه وبيعوه وبينوا لمن تبيعونه منه ، ولا تبيعوه من المسلمين .

وعن القاسم وسالم يبيعونه ويبينون له ولا يؤكل .

ذكر ابن وهب عن ابن لهيعة ، وحيوة بن شريح ، عن خالد بن أبي عمران ، أنه قال : سألت القاسم وسالما عن الزيت تموت فيه الفأرة ، هل يصلح أن يؤكل منه ؟ فقالا : لا ، قلت : أفيبيعه ، قالا : نعم ، ثم كلوا ثمنه ، وبينوا لمن يشتريه ما وقع . ومن حجة من ذهب إلى هذا المذهب ما ذكره عبد الواحد ، عن معمر ، عن الزهري ، عن سعيد بن المسيب ، عن أبي هريرة ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في الفأرة تقع في السمن قال : إن كان جامدا فألقوها وما حولها ، وإن كان مائعا فاستصبحوا به وانتفعوا . قالوا : والبيع من باب الانتفاع ، قالوا : وأما قوله في حديث عبد الرزاق : إن كان مائعا فلا تقربوه . فإنه يحتمل أن يريد : لا تقربوه للأكل ، قالوا : وقد أجرى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - التحريم في شحوم الميتة في كل وجه ، ومنع من الانتفاع بشيء منها .

[ ص: 46 ] وذكروا حديث يزيد بن أبي حبيب ، عن عطاء ، عن جابر المذكور . قالوا : وأباح رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في السمن تقع فيه الميتة الانتفاع به ، فدل على جواز وجوه سائر الانتفاع غير الأكل ، قالوا : والبيع من الانتفاع ، قالوا : والنظر يدل على ذلك ، لأن شحوم الميتة محرمة العين والذات .

وأما الزيت تقع فيه الميتة ، فإنما تنجس بالمجاورة ، وما تنجس بالمجاورة فبيعه جائز ، كالثوب تصيبه النجاسة من الدم وغيره . وفرقوا بينه وبين أمهات الأولاد بأن الزيت النجس تجوز هبته والصدقة به ، وليس يجوز ذلك في أمهات الأولاد ، قالوا : وما جاز تمليكه جاز البيع فيه ، قالوا : وأما قوله عليه الصلاة والسلام : إن الله إذا حرم أكل شيء حرم ثمنه فإنما هو كلام خرج على شحوم الميتة التي حرم أكلها ، ولم يبح الانتفاع بشيء منها . وكذلك الخمر ، والمعنى في ذلك أن الله تعالى إذا حرم أكل شيء ولم يبح الانتفاع به ، حرم ثمنه . وأما ما أباح الانتفاع به فليس مما عنى بقوله : إن الله إذا حرم أكل شيء حرم ثمنه ، بدليل إجماعهم على بيع الهر والسباع والفهود المتخذة للصيد والحمر الأهلية ، قالوا : وكل ما يجوز الانتفاع به يجوز بيعه .

[ ص: 47 ] قال أبو عمر :

أجاز بعض أصحابنا - وهو عبد الله بن نافع فيما ذكر عنه - غسل البان تقع فيه الميتة ، ومثله الزيت تقع فيه الميتة ، وقد روي عن مالك أيضا مثل ذلك ، وذلك أن يعمد إلى قصاع ثلاث أو أكثر فيجعل الزيت النجس في واحد منها حتى يكون نصفها أو نحو ذلك ، ثم يصب عليها الماء حتى يمتلئ ، ثم يؤخذ الزيت من على الماء ، ثم يجعل في أخرى ويعمل به كذلك ، ثم في ثالثة ويعمل به كذلك .

حكيت لنا هذه الصفة في غسل الزيت عن محمد بن أحمد العتبي ، وهو قول ليس لقائله سلف ولا تسكن إليه النفس ، لأنه لو كان جائزا ما خفي على المتقدمين ولعملوا به ، مع أنه لا يصح غسل ما لا يرى عند أولي النهى . وقد روي عن عطاء بن أبي رباح في شحوم الميتة قول لم يقله أحد من علماء المسلمين غيره ، فيما علمت .

ذكر عبد الرزاق ، ابن جريج ، قال : أخبرني عطاء ، قال : ذكروا أنه يستفيد بشحوم الميتة ، ويدهن به السفن ولا يمس ، ولكن يؤخذ بعود ، فقلت : فيدهن به غير السفن ؟ قال : لم أعلم ، قلت : وأين يدهن به من السفن ؟ قال : ظهورها ، ولا يدهن بطونها ، قلت : فلا بد أن يمس ودكها بالمصباح فتناله اليد ، قال : فليغسل يده إذا مسه .

[ ص: 48 ] قال أبو عمر :

قول عطاء هذا شذوذ ، وخروج عن تأويل العلماء ، لا يصح به أثر ، ولا مدخل له في النظر ، لأن الله حرم الميتة تحريما مطلقا ، فصارت نجسة الذات ، محرمة العين ، لا يجوز الانتفاع بشيء منها ، إلا ما خصت السنة من الإهاب بعد الدباغ ، ولا فرق بين الشحم واللحم في قياس ولا أثر .

وقد روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - خلاف قول عطاء من حديثه عن جابر ، وقد تقدم ذكره في هذا الباب . وما أدري كيف جاز له الفتوى بخلاف ما روى ، إلا أنهم يقولون إن يزيد بن أبي حبيب لم يسمع حديثه ذلك من عطاء وقد حدثنا عبد الوارث بن سفيان ، قال : حدثنا قاسم بن أصبغ ، قال : حدثنا محمد بن إسماعيل الترمذي ، قال : حدثنا أبو نعيم ، قال : حدثنا زمعة بن صالح ، قال : حدثنا أبو الزبير ، قال : سمعت جابر بن عبد الله يقول كنت عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم - جالسا فجاءه أناس من أهل البحرين ، فقالوا : يا رسول الله إنا نعمل في البحر ، ولنا سفينة قد احتاجت إلى الدهن ، وقد وجدنا ناقة ميتة كثيرة الشحم ، وقد أردنا أن ندهن به سفينتنا ، فإنما هو عود وإنما تجري في البحر ، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : لا تنتفعوا بشحم الميتة . أو قال : بشيء من الميتة .




الخدمات العلمية