الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
معلومات الكتاب

التمهيد لما في الموطأ من المعاني والأسانيد

ابن عبد البر - أبو عمر يوسف بن عبد الله بن محمد بن عبد البر

صفحة جزء
913 [ ص: 259 ] حديث ثالث لابن شهاب ، عن سالم - مسند

مالك ، عن ابن شهاب ، عن سالم بن عبد الله بن عمر ، عن أبيه ، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - صلى المغرب والعشاء بالمزدلفة جميعا .

التالي السابق


هكذا رواه جماعة الرواة ، عن مالك ، فيما علمت ، إلا محمد بن عمرو الغزي ، فإنه ذكر فيه الظهر والعصر بعرفة ، وزاد ألفاظا ليست في الموطأ عند أحد من الرواة : أخبرني محمد ، حدثنا علي بن عمر الحافظ ، حدثنا علي بن محمد بن أحمد المصري ، حدثنا بكر بن سهل الدمياطي ، حدثنا محمد بن عمرو ، حدثنا مالك بن أنس ، عن الزهري ، عن سالم ، عن ابن عمر ، قال : جمع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بين الظهر والعصر بعرفة ، وبين المغرب والعشاء بالمزدلفة ، لم يناد في واحدة منهما إلا بالإقامة ، ولم يفصل بينهما تطوعا ولا إثر واحدة منهما ، قلت : فما بال الأذان ؟ قال : إنما الأذان داع يدعو الناس [ ص: 260 ] إلى الصلاة ، فمن يدعو وهم معه ؟ لم يتابع عليه عن مالك ، وزاد فيه قوم من أصحاب ابن شهاب ألفاظا سنذكرها ونوضح القول في معانيها ، إن شاء الله .

قال أبو عمر :

لا خلاف - علمته - بين علماء المسلمين من الصحابة والتابعين ، ومن بعدهم من الخالفين ; أن المغرب والعشاء ، يجمع بينهما في وقت العشاء ليلة النحر بالمزدلفة لإمام الحاج والناس معه .

واختلف العلماء فيمن لم يدفع مع الإمام على ما سنذكره إن شاء الله . والمزدلفة هي المشعر الحرام ، وهي جمع ثلاثة أسماء لموضع واحد ، ومن الدليل على أن ذلك كذلك لإمام الحاج والناس في تلك الليلة قوله - صلى الله عليه وسلم - لأسامة بن زيد : الصلاة أمامك بالمزدلفة وسنذكر هذا الحديث ووجه القول فيه ، في باب موسى بن عقبة من كتابنا هذا إن شاء الله تعالى .

واختلف العلماء في هيئة الجمع بين الوقوف بالمزدلفة على وجهين ، أحدهما : الأذان والإقامة ، والآخر : هل يكون جمعهما متصلا لا يفصل بينهما بعمل ، أم يجوز العمل بينهما بعمل مثل العشاء ، وحط الرحال ، ونحو ذلك ؟ .

وأما اختلافهم في الأذان والإقامة ، فإن مالكا وأصحابه يقولون : يؤذن لكل واحدة منهما ويقام بالمزدلفة ، وكذلك قوله في الظهر والعصر بعرفة أيضا ، إلا أن ذلك في أول وقت الظهر بإجماع . قال : ابن القاسم [ ص: 261 ] قال لي مالك في جمع الصلاتين بعرفة وبالمشعر الحرام ، قال : لكل صلاة أذان وإقامة ، وقال مالك : كل شيء إلى الأئمة ، فلكل صلاة أذان وإقامة .

قال أبو عمر :

لا أعلم فيما قاله مالك في هذا الباب حديثا مرفوعا إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - بوجه من الوجوه ، ولكنه روى عن عمر بن الخطاب من حديث إسرائيل ، عن سماك بن حرب ، عن النعمان بن حميد أبي قدامة ، أنه صلاها مع عمر بالمزدلفة كذلك ، واختلف فيه وليس بقوي الحديث ، وروي عن ابن مسعود من حديث أبي إسحاق ، عن عبد الرحمن بن يزيد ، قال : خرجت مع عبد الله بن مسعود إلى مكة ، فلما أتى جمعا - صلى الصلاتين - كل واحد منهما بأذان وإقامة ، ولم يصل بينهما شيئا ، رواه الثوري وشعبة ، وجماعة ، عن أبي إسحاق ، والذي يحضرني من الحجة في هذا الباب من جهة النظر ، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سن في الصلاتين بعرفة والمزدلفة ، أن الوقت لهما جميعا وقت واحد ، وإذا كان وقتهما واحدا ، وكانت كل واحدة تصلى في وقتها ، لم تكن واحدة منهما أولى بالأذان والإقامة من الأخرى ، لأن ليس [ ص: 262 ] واحدة منهما فائتة تقضى ، وإنما هي صلاة تصلى في وقتها ، وكل صلاة صليت في وقتها ، فسنتها أن يؤذن لها ويقام في الجماعة ، وهذا بين ، والله أعلم .

وقال آخرون : أما الأولى منهما فتصلى بأذان وإقامة ، وأما الثانية فتصلى بلا أذان ولا إقامة ، قالوا : وإنما أمر عمر بالتأذين للثانية ، لأن الناس كانوا قد تفرقوا لعشائهم ، فأذن ليجمعهم ; قالوا : وكذلك نقول نحن إذا تفرق الناس عن الإمام لعشاء أو غيره ، أمر المؤذنين فأذنوا لجمعهم ، وإذا أذن أقام ، قالوا : فهذا معنى ما روي عن عمر - رضي الله عنه - قالوا : والذي روي عن ابن مسعود فمثل ذلك أيضا .

وذكروا ما حدثناه محمد بن إبراهيم ، قال : حدثنا أحمد بن مطرف ، قال : حدثنا سعيد بن عثمان ، قال : حدثنا يونس بن عبد الأعلى ، قال : حدثنا سفيان ، عن أبي إسحاق ، عن عبد الرحمن بن يزيد ، قال : كان ابن مسعود يجعل العشاء بالمزدلفة بين الصلاتين .

وذكر عبد الرزاق ، قال : أخبرنا أبو بكر بن عياش ، عن أبي إسحاق ، عن عبد الرحمن بن يزيد ، قال : كنت مع ابن مسعود بجمع ، فجعل بين المغرب والعشاء العشاء ، وصلى كل صلاة بأذان وإقامة . وذكر الطحاوي قال : حدثنا ابن أبي داود ، قال : حدثنا أحمد بن يونس ، قال : [ ص: 263 ] حدثنا إسرائيل ، عن منصور ، عن إبراهيم ، عن الأسود ، أنه صلى الصلاتين مرتين بجمع كل صلاة بأذان وإقامة ، والعشاء بينهما ، وقال آخرون : تصلى الصلاتان جميعا بالمزدلفة بإقامة واحدة ولا يؤذن في شيء منهما .

واحتجوا بما رواه شعبة ، عن الحكم بن عتيبة وسلمة بن كهيل ، قالا : صلى بنا سعيد بن جبير بإقامة المغرب ثلاثا ، فلما سلم ، قام فصلى ركعتي العشاء ، ثم حدث عن ابن عمر أنه صنع بهم في ذلك المكان مثل ذلك .

وحدث ابن عمر أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - صنع بهم في ذلك المكان مثل ذلك
.

وذكر عبد الرزاق وعبد الملك بن الصباح ، عن الثوري ، عن سلمة بن كهيل ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عمر ، قال : جمع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بين المغرب والعشاء ، بجمع صلاة المغرب ثلاثا والعشاء ركعتين بإقامة واحدة ، وقالا أيضا عن الثوري ، عن أبي إسحاق ، عن عبد الله بن مالك ، قال : صليت مع ابن عمر المغرب ثلاثا ، والعشاء ركعتين بالمزدلفة بإقامة واحدة ، فقال مالك بن خالد ، قال : عبد الرزاق : [ ص: 264 ] هو الحارثي ، وقال عبد الملك : هو المحاربي ، ما هذه الصلاة يا أبا عبد الرحمن ؟ قال : صليتها مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في هذا المكان بإقامة واحدة .

قال أبو عمر :

وقد روى شعبة هذا الحديث عن أبي إسحاق ، عن عبد الله بن مالك بن الحارث ، عن ابن عمر ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - كما رواه الثوري ، ورواه زهير بن معاوية ، عن أبي إسحاق ، عن مالك بن الحارث ، عن ابن عمر ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - والصواب ما قاله شعبة والثوري ، والله أعلم .

وحدثنا محمد بن إبراهيم ، قال : حدثنا أحمد بن مطرف ، قال : حدثنا سعيد بن عثمان ، قال : حدثنا يونس ، قال : حدثنا سفيان ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد قال : حدثني أربعة كلهم ثقة ، منهم سعيد بن جبير ، وعلي الأزدي ، عن ابن عمر أنه صلى المغرب والعشاء بالمزدلفة بإقامة واحدة ، وذكر عبد الرزاق ، عن ابن عيينة ، عن ابن أبي حسين ، عن علي الأزدي ، عن ابن عمر مثله . وبه يقول سفيان الثوري وجماعة ، وقد حمل قوم حديث ابن أبي ذئب ، عن ابن شهاب ، عن سالم بن عبد الله بن [ ص: 265 ] عمر ، عن أبيه ، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - صلى المغرب والعشاء بالمزدلفة جميعا لم يناد في واحدة منهما إلا بالإقامة على هذا أيضا أي بإقامة واحدة ، وحمله غيرهم على الإقامة لكل صلاة منهما دون أذان ، وهو الصواب ، وهو محفوظ في حديث ابن أبي ذئب من رواية الحفاظ الثقات . وكذلك ذكر معمر وغيره في هذا الحديث عن ابن شهاب على ما سنذكره - إن شاء الله .

وقد روي من حديث أبي أيوب الأنصاري ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه صلى المغرب والعشاء بجمع بإقامة واحدة ، ولا يصح قوله فيه بإقامة واحدة ، لأن مالكا وغيره من الحفاظ لم يذكروا ذلك فيه . وروي ذلك أيضا من حديث البراء ، وهو عند أهل الحديث خطأ ، وسنذكر ذلك في بابه - من كتابنا هذا إن شاء الله .

وقال آخرون : تصلى الصلاتان جميعا بالمزدلفة بأذان واحد وإقامتين . واحتجوا بحديث جعفر بن محمد ، عن أبيه ، عن جابر ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - بذلك ، وهو أكمل حديث روي في الحج وأتمه وأحسنه مساقا ، رواه بتمامه عن جعفر بن محمد ، يحيى بن سعيد القطان ، وحاتم بن إسماعيل وجماعة ، وإلى هذا ذهب أبو جعفر الطحاوي واختاره ، وزعم أن النظر يشهد له ، لأن الآثار لم تختلف أن الصلاتين بعرفة صلاهما رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بأذان واحد [ ص: 266 ] وإقامتين ، فكذلك صلاتا المزدلفة في القياس ، لأنهما في حرمة الحج ، والآثار مختلفة في ذلك بالمزدلفة ، وغير مختلفة في ذلك بعرفة ، خالف الطحاوي في ذلك أبا حنيفة وأصحابه ، لأنهم يقولون إن الوقوف تصليان بالمزدلفة بأذان واحد وإقامة واحدة ، وذهبوا في ذلك إلى ما رواه هشيم عن يونس بن عبيد ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عمر أنه جمع بين المغرب والعشاء بجمع بأذان واحد وإقامة واحدة ، ولم يجعل بينهما شيئا ، قالوا : فكان محالا أن يكون ابن عمر أدخل بينهما أذانا إلا وقد علمه من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وروي مثل هذا مرفوعا من حديث خزيمة بن ثابت وليس بالقوي .

وقد حكى الجوزجاني ، عن محمد بن الحسن ، عن أبي يوسف ، عن أبي حنيفة ، أنهما تصليان بأذان وإقامتين ، يؤذن للمغرب ويقام للعشاء فقط ، وإلى هذا ذهب الطحاوي ، وبه قال أبو ثور .

وحجتهم في ذلك ، حديث جعفر بن محمد ، عن أبيه ، عن جابر ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - واعتلوا بنحو ما قدمنا ذكره من أن عمر وابن مسعود ، إنما أذنا للثانية من أجل تأخيرهما العشاء ، وقال آخرون : تصلى الصلاتان جميعا بإقامتين دون أذان لواحدة منهما ; وممن قال ذلك الشافعي وأصحابه ، ومن حجة من ذهب إلى ذلك ، ما ذكره عبد الرزاق ، [ ص: 267 ] عن معمر ، عن ابن شهاب ، عن سالم ، عن ابن عمر أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لما جاء المزدلفة ، جمع بين المغرب والعشاء ، صلى المغرب ثلاثا والعشاء ركعتين بإقامة لكل واحدة منهما ، ولم يصل بينهما شيئا . ورواه الليث بن سعد ، عن عبد الرحمن بن خالد بن مسافر ، عن ابن شهاب ، عن سالم بن عبد الله ، عن أبيه ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - مثله . وليس في حديث مالك هذه الزيادة ، وهؤلاء حفاظ زيادتهم مقبولة ، وذكر الشافعي عن عبد الله بن نافع ، عن ابن أبي حبيب ، عن ابن شهاب ، عن سالم ، عن أبيه ، أنه ، قال : لم يناد بينهما ، ولا على إثر واحدة منهما إلا بإقامة .

حدثنا عبد الوارث بن سفيان ، قال : حدثنا قاسم بن أصبغ ، قال : حدثنا بكر بن حماد ، قال : حدثنا مسدد ، قال : حدثنا يحيى بن سعيد ، عن ابن أبي ذئب ، عن الزهري ، عن سالم ، عن أبيه ، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - صلى بجمع بإقامة إقامة ، لم يسبح بينهما ولا على إثر واحدة منهما . واحتج الشافعي أيضا بحديث مالك ، عن موسى بن عقبة ، عن كريب مولى ابن عباس ، عن أسامة بن زيد ، أنه سمعه يقول دفع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من عرفة حتى إذا كان بالشعب نزل فبال ثم توضأ ، فلم يسبغ الوضوء ، فقلت له : الصلاة ؟ فقال : الصلاة أمامك ، فركب حتى جاء المزدلفة ، فنزل فتوضأ ، فأسبغ الوضوء ، ثم أقيمت الصلاة ، [ ص: 268 ] فصلى المغرب ، ثم أناخ كل إنسان بعيره في منزله ، ثم أقيمت العشاء فصلاها ولم يصل بينهما شيئا .

قال أبو عمر :

هذه الآثار ثابتة عن ابن عمر ، وهي من أثبت ما روي في هذا الباب عنه ، ولكنها محتملة للتأويل ، وحديث جابر لم يختلف عليه فيه : أخبرني عبد الرحمن بن يحيى وغيره ، عن أحمد بن سعيد ، قال : سمعت أحمد بن خالد يعجب من مالك في هذا الباب ، إذ أخذ بحديث ابن مسعود ولم يروه ، وترك الأحاديث التي روى .

[ ص: 269 ] قال أبو عمر :

فهذا اختصار ما بلغنا من الآثار واختلافها في هذا الباب عن النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه وتهذيب ذلك ; وأجمع العلماء أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - دفع من عرفة بالناس - بعدما غربت الشمس يوم عرفة ، فأفاض إلى المزدلفة ، وأنه - عليه السلام - أخر حينئذ صلاة المغرب ، فلم يصلها حتى أتى المزدلفة ، فصلى بها بالناس بالمغرب والعشاء جميعا - بعدما غاب الشفق ودخل وقت العشاء الآخرة ، وأجمعوا أن ذلك سنة الحاج في ذلك الموضع ، وقد قدمنا ذكر ما اختلف فيه عنه - صلى الله عليه وسلم - من كيفية الأذان والإقامة في حين جمعه للصلاتين بالمزدلفة ; وأما اختلاف الفقهاء في ذلك ، فإن مالكا ذهب إلى أن كل صلاة منهما يؤذن لها ويقام ، واحدة بإثر أخرى ، وعلى ذلك أصحابه . وذهب الثوري إلى أنهما - جميعا - تصليان بإقامة واحدة ولا يفصل بينهما إلا بالتسليم . وذهب الشافعي إلى أن كل واحدة منهما تصلى بإقامة إقامة ، ولا يؤذن لواحدة منهما ; وبه قال إسحاق بن راهويه ، وهو أحد قولي أحمد بن حنبل ، وروي ذلك عن سالم والقاسم ; وذهب أبو حنيفة وأصحابه إلى أنهما يصليان بأذان واحد وإقامتين ، وهو قول أبي ثور ، واحتج بحديث جعفر بن محمد ، عن أبيه ، عن جابر ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - بذلك وقد ذكرنا حجة كل واحد [ ص: 270 ] منهم من جهة الأثر ، ولا مدخل في هذه المسألة للنظر ، وإنما فيها الاتباع ; واختلفوا فيمن صلى الصلاتين المذكورتين قبل أن يصل إلى المزدلفة ، فقال مالك : لا يصليهما أحد قبل جمع إلا من عذر ، فإن صلاهما من عذر لم يجمع بينهما حتى يغيب الشفق . وقال الثوري : لا يصليهما حتى يأتي جمعا ، وله السعة في ذلك إلى نصف الليل ; فإن صلاهما دون جمع أعاد . وقال أبو حنيفة : إن صلاهما قبل أن يأتي المزدلفة فعليه الإعادة ، وسواء صلاهما قبل مغيب الشفق أو بعده ، عليه أن يعيدهما إذا أتى المزدلفة .

واختلف ، عن أبي يوسف ومحمد ، فروي عنهما مثل ذلك ، وروي عنهما إن صلاهما بعرفات أجزأه .

وعلى قول الشافعي : لا ينبغي أن يصليهما قبل جمع ، فإن فعل أجزأه ، وبه قال أبو ثور ، وأحمد ، وإسحاق وروي ذلك عن عطاء ، وعروة ، وسالم ، والقاسم ، وسعيد بن جبير .

وقد روي عن جابر بن عبد الله قال : لا صلاة إلا بجمع .

ومن الحجة لمن ذهب إلى ذلك قوله - صلى الله عليه وسلم - خذوا عني مناسككم . وصلاهما جميعا بعد مغيب الشفق بجمع ، فليس لأحد أن يصليهما إلا في ذلك الموضع كذلك ، إلا من عذر - كما قال مالك - والله أعلم .

[ ص: 271 ] وقد ذكرنا أقوال الفقهاء فيمن فاتته الصلاة مع الإمام بالمزدلفة ، هل له أن يجمع الصلاتين أم لا ، في كتابنا هذا ثم ذكر الصلاة بعرفة . واختلفوا فيمن لم يمر بالمزدلفة ليلة النحر ولم يأتها ولم يبت بها غداة النحر ، فقال مالك : من لم ينخ بالمزدلفة ولم ينزل بها ، وتقدم إلى منى فرمى الجمرة ، فإنه يهريق دما ، فإن نزل بها ثم دفع منها في أول الليل أو وسطه أو آخره ، وترك الوقوف مع الإمام ، فقد أجزأه ولا دم عليه .

وقال الثوري : من لم يقف بجمع ، ولم يقف بها ليلة النحر ، فعليه دم ، وهو قول عطاء في رواية ، وقول الزهري ، وقتادة ، وبه قال أحمد وإسحاق وأبو ثور .

وقال أبو حنيفة ، وأبو يوسف ، ومحمد : إذا ترك الوقوف بالمزدلفة ولم يقف بها ولم يمر بها ولم يبت فيها ، فعليه دم ; قالوا : فإن بات وتعجل في الليل ، رجع إذا كان خروجه لعذر حتى يقف مع الإمام أو يصبح بها ، فإن لم يفعل ، فعليه دم ، قالوا : وإن كان رجلا مريضا أو ضعيفا أو غلاما صغيرا فتقدموا من المزدلفة بالليل فلا شيء عليهم .

وقال الشافعي : إن نزل وخرج منها بعد نصف الليل ، فلا شيء عليه ، وإن خرج قبل نصف الليل فلم يعد إليها ليقف بها مع الإمام ويصبح ، فعليه شاة . قال : وإنما حددنا نصف الليل ، لأنه بلغنا أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أذن لضعفة أهله أن يرتحلوا من آخر الليل ، ورخص [ ص: 272 ] لهم في أن لا يصبحوا ، بها ولا يقفوا مع الإمام ; والفرض على الضعيف والقوي - سواء ، ولكنه تأخر لمواضع الفضل وتعليم الناس ; قال : وما كان بعد نصف الليل فهو من آخر الليل ، وروي عن عطاء أنه إن لم ينزل بجمع فعليه دم ، وإن نزل بها ثم ارتحل بليل فلا شيء عليه . رواه ابن جريج وغيره ، وهو الصحيح عنه ; وكان عبد الله بن عمر يقول : إنما تدلج منه إذا شئت .

وقال علقمة وعامر الشعبي ، وإبراهيم النخعي ، والحسن البصري : من لم ينزل بالمزدلفة ، وفاته الوقوف بها ، فقد فاته الحج ، ويجعلها عمرة ; وهو قول عبد الله بن الزبير ، وبه قال الأوزاعي إن الوقوف بالمزدلفة فرض واجب ، يفوت الحج بفواته . وقد روي عن الثوري مثل ذلك ولا يصح عنه ، والأصح عنه - إن شاء الله - ما قدمنا ذكره .

وروي عن حماد بن أبي سليمان أنه قال : من فاتته الإفاضة من جمع ، فقد فاته الحج فليحل بعمرة ثم يحج قابلا .

وحجة من قال بهذا القول ، قول الله عز وجل : فإذا أفضتم من عرفات فاذكروا الله عند المشعر الحرام . وقول رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : من أدرك جمعا مع الناس حتى يفيض ، فقد أدرك . وهذا المعنى رواه عروة بن مضرس ، عن النبي صلى الله عليه وسلم .

[ ص: 273 ] حدثنا عبد الوارث بن سفيان ، قال : حدثنا قاسم بن أصبغ ، قال : حدثنا أحمد بن زهير ، قال : حدثنا أبو نعيم ، قال : حدثنا زكرياء بن أبي زائدة ، عن عامر قال : حدثني عروة بن مضرس بن أوس بن حارثة بن لام ، أنه حج على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فلم يدرك الناس إلا ليلا ، وهم بجمع ، فانطلق إلى عرفات ليلا فأفاض منها ، ثم رجع إلى جمع ، فأتى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال : يا رسول الله ، أتعبت نفسي ، وأنصبت راحلتي ، فهل لي من حج ؟ فقال : من صلى معنا الغداة بجمع ، ووقف معنا حتى نفيض ، وقد أفاض من عرفات قبل ذلك ليلا أو نهارا ، فقد تم حجه ، وقضى تفثه رواه . عن الشعبي جماعة منهم : إسماعيل بن أبي خالد ، وعبد الله بن أبي السفر ، وداود بن أبي هند ، وكان سفيان بن عيينة يقول : زكرياء أحفظهم لهذا الحديث ، عن الشعبي .

قال أبو عمر :

معناهم كله واحد متقارب : أخبرنا عبد الله بن محمد ، حدثنا محمد بن بكر ، حدثنا أبو داود ، حدثنا مسدد ، حدثنا يحيى ، عن إسماعيل ، حدثنا عامر ، أخبرنا عروة بن مضرس الطائي ، قال : أتيت [ ص: 274 ] رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالموقف - يعني بجمع - فقلت : جئت يا رسول الله من جبلي طيئ ، أكللت مطيتي ، وأتعبت نفسي ، والله ما تركت من حبل إلا وقفت عليه ، فهل لي من حج ؟ ، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : من أدرك معنا هذه الصلاة ، وأتى عرفات قبل ذلك ليلا أو نهارا ، فقد تم حجه ، وقضى تفثه .

قال إسماعيل القاضي : ظاهر هذا الحديث إن كان صحيحا - والله أعلم - يدل على أن الرجل سأله عما فاته من الوقوف بالنهار بعرفة ، فأعلمه أن من وقف بعرفة ليلا أو نهارا ، فقد تم حجه ، فدار الأمر على أن الوقوف بالنهار لا يضره إن فاته ، لأنه لما قال : ليلا أو نهارا ، فالسائل يعلم أنه ( إذا وقف بالليل وقد فاته الوقوف بالنهار ، أن ذلك لا يضره ، وأنه قد تم حجه ; لأنه رأى له بهذا القول أن يقف بالنهار دون الليل ) وعلم أن المعنى فيه إذا وقف بالليل وقد فاته الوقوف بالنهار ، أن ذلك لا يضره ، قال : ولو حمل هذا الحديث أيضا على ما يحتج به من احتج به ، لوجب على من لم يدرك الصلاة مع الإمام بجمع ، أن يكون حجه فاسدا ، ولكن الكلام يحمل على صحته ، وصحة هذا المعنى فيه ، لأن [ ص: 275 ] الرجل إنما سأل وقد أدرك الصلاة بجمع ، وقد وقف بعرفة ليلا فأعلم أن حجه تام .

وقال أبو الفرج : معنى قول رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في حديث عروة بن مضرس - : وقد أفاض قبل ذلك ليلا أو نهارا أراد - والله أعلم - ليلا ، أو نهارا وليلا فسكت عن أن يقول ليلا ، لعلمه بما قدم من فعله ، لأن من وقف نهارا ، فقد أدرك الليل ، لأنه أراد بذكر النهار اتصال الليل به . قال : وقد يحتمل أن يكون قوله ليلا أو نهارا ، بمعنى ليلا ونهارا ، فتكون أو بمعنى الواو ، كما قال الله عز وجل : ولا تطع منهم آثما أو كفورا - أي آثما وكفورا - والله أعلم .

قال أبو عمر :

لو كان كما ذكر ، كان الوقوف واجبا ليلا ونهارا ، ولم يغن أحدهما عن صاحبه ، وهذا لا يقوله أحد ، وقد أجمع المسلمون أن الوقوف بعرفة ليلا يجزئ عن الوقوف بالنهار ، إلا أن فاعل ذلك عندهم إذا لم يكن مراهقا ، ولم يكن له عذر ، فهو مسيء ، ومن أهل العلم من رأى عليه دما ، ومنهم من لم ير عليه شيئا ، وجماعة العلماء يقولون : إن من وقف بعرفة ليلا أو نهارا - بعد زوال الشمس من يوم عرفة - أنه مدرك للحج ، إلا مالك بن أنس ، ومن قال بقوله ، فإن الفرض عنده الليل دون النهار ، وعند سائر العلماء الليل والنهار بعد الزوال في ذلك سواء في الفرض ; إلا أن السنة أن يقف كما وقف رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نهارا يتصل [ ص: 276 ] له بالليل ; ولا خلاف بين أهل العلم أن الوقوف بعرفة فرض ، لا حج لمن فاته الوقوف بها يوم عرفة - كما ذكرنا ، أو ليلة النحر - على ما وصفنا ; وسنذكر ما يجب من القول في أحكام الوقوف بعرفة والصلاة بها في أولى المواضع من كتابنا هذا ، وذلك حديث ابن شهاب ، عن سالم ، في قصة ابن عمر مع الحجاج - إن شاء الله .

واحتج أيضا بعض من لم ير الوقوف بالمزدلفة فرضا من غير أصحابنا ، بأن قال : ليس في حديث عروة بن مضرس دليل على ما ذكر لمن أوجب الوقوف بالمزدلفة فرضا ، لأن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إنما قال فيه : من صلى صلاتنا هذه - وكان قد أتى قبل ذلك عرفة من ليل أو نهار ، فقد قضى حجه ، وتم تفثه ، فذكر الصلاة بالمزدلفة ، وكان أجمع أنه لو بات بها ، ووقف ونام عن الصلاة فلم يصلها مع الإمام حتى فاتته ، أن حجه تام ، فلما كان حضور الصلاة مع الإمام المذكور في هذا الباب ليس من صليب الحج ، كان الوقوف بالموطن الذي تكون فيه الصلاة أحرى أن يكون كذلك ; قالوا : فلم يتحقق بهذا الحديث ذلك الفرض إلا بعرفة خاصة ، قالوا : فإن احتج محتج بقول الله عز وجل : فإذا أفضتم من عرفات فاذكروا الله عند المشعر الحرام وقال : قد ذكر الله المشعر الحرام كما ذكر عرفات ، وذكر ذلك رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في سنته ، فحكمهما واحد ، لا يجزئ الحج إلا بإصابتهما ; قيل له : ليس في قول الله عز وجل : فاذكروا الله عند المشعر الحرام دليل على أن ذلك على الوجوب في الوقوف ، وكل قد أجمع أنه لو وقف بالمزدلفة - ولم يذكر الله - أن حجه تام ، فإذا لم يكن الذكر المأمور به من صلب الحج ، فشهود الموطن أولى بأن لا يكون كذلك .

[ ص: 277 ] قال : وقد ذكر الله في كتابه أشياء من أمر الحج لم يرد بذكرها إيجابها ; هذا ما احتج به أبو جعفر الأزدي ، وذكر حديث عبد الرحمن بن يعمر الديلي ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال : الحج عرفات . وفي بعض ألفاظ هذا الحديث : الحج يوم عرفة فمن أدرك جمعا قبل صلاة الفجر فقد أدرك .




الخدمات العلمية