الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
معلومات الكتاب

التمهيد لما في الموطأ من المعاني والأسانيد

ابن عبد البر - أبو عمر يوسف بن عبد الله بن محمد بن عبد البر

صفحة جزء
1554 [ ص: 103 ] حديث عاشر من مراسيل ابن شهاب .

مالك عن ابن شهاب أنه أخبره أن رجلا اعترف على نفسه بالزنا على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وشهد على نفسه أربع مرات ، فأمر به رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فرجم .

التالي السابق


هكذا هو في الموطأ عند جميع رواته فيما علمت ، وقد روى هذا الحديث عن ابن شهاب مسندا عقيل وغيره .

حدثنا عبد الوارث بن سفيان قال : حدثنا قاسم بن أصبغ قال : حدثنا المطلب بن شعيب قراءة عليه قال : حدثنا عبد الله بن صالح قال : حدثني الليث قال : حدثني عقيل ، عن ابن شهاب قال : أخبرني أبو سلمة وسعيد بن المسيب عن أبي هريرة أنه قال : أتى رجل من المسلمين رسول الله - صلى الله عليه وسلم - [ ص: 104 ] وهو في المسجد فناداه فقال : يا رسول الله ، إني قد زنيت ، فأعرض عنه حتى ثنى ذلك أربع مرات ، فلما شهد على نفسه أربع مرات دعاه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال : أبك جنون ؟ فقال : لا ، قال : فهل أحصنت ؟ قال : نعم ، قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : اذهبوا به فارجموه .

قال ابن شهاب : فأخبرني من سمع جابر بن عبد الله يقول : فكنت فيمن رجمه ، فلما أذلقته الحجارة هرب ، فأدركناه بالحرة فرجمناه ، هكذا قال عقيل عن ابن شهاب ، عن سعيد وأبي سلمة ، عن أبي هريرة وبعضه عن جابر ، وقد جوده إن شاء الله .

ورواه معمر ويونس ، عن ابن شهاب ، عن أبي سلمة ، عن جابر ، أخبرنا عبد الله بن محمد قال : حدثنا محمد بن بكر قال : حدثنا أبو داود قال : حدثنا الحسن بن علي [ ص: 105 ] وابن ( أبي ) السري العسقلاني قالا : حدثنا عبد الرزاق قال : أخبرنا معمر ، عن الزهري ، عن أبي سلمة ، عن جابر بن عبد الله أن رجلا من أسلم جاء إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فاعترف بالزنا فأعرض عنه ، ثم اعترف فأعرض عنه ، حتى شهد على نفسه أربع شهادات ، فقال ( له ) النبي - صلى الله عليه وسلم - أبك جنون ؟ قال : لا ، قال : أحصنت ؟ قال : نعم ، قال : فأمر به النبي - صلى الله عليه وسلم - فرجم في المصلى ، فلما أذلقته الحجارة فر فأدرك ، فرجم حتى مات ، فقال له النبي - صلى الله عليه وسلم - خيرا ولم يصل عليه .

وأخبرنا عبد الرحمن بن عبد الله قال : حدثنا أبو العباس بن تميم قال : حدثنا عيسى بن مسكين ( ح ) .

وأخبرنا عبد الوارث بن سفيان قال : حدثنا قاسم بن أصبغ قال : حدثنا ابن وضاح قال : حدثنا سحنون قال : حدثني ابن وهب [ ص: 106 ] عن يونس بن يزيد ، عن ابن شهاب قال : أخبرني أبو سلمة بن عبد الرحمن ، عن جابر بن عبد الله أن رجلا من أسلم أتى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو في المسجد ، فناداه وحدثه أنه زنا ، فأعرض عنه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، فتنحى لشقه الذي أعرض قبله فأخبره أنه زنا وشهد على نفسه أربع مرات ، فدعاه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال : هل بك جنون ؟ فقال : لا ، قال : فهل أحصنت ؟ قال : نعم ، فأمر به رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يرجم بالمصلى ، فلما أذلقته الحجارة جمز حتى أدرك بالحجارة فقتل بها رجما .

وقد روى هذا الحديث في رجم الأسلمي - وهو ماعز - جماعة من الصحابة ، منهم أبو هريرة ، رواه عنه ابن عمه عبد الرحمن بن الصامت وأبو سلمة ، ومنهم جابر بن عبد الله روي عنه من طرق شتى ، وابن عباس روي عنه أيضا من وجوه كثيرة ، وجابر بن سمرة ، وسهل بن سعد ، ونعيم بن هزال ، وأبو سعيد الخدري ، وبريدة الأسلمي ، وأكثرهم يقول : إنه اعترف [ ص: 107 ] أربع مرات . وفي حديث أبي سعيد الخدري ثلاث مرات ، وفي حديث جابر بن سمرة أنه اعترف مرتين ، ثم أمر به فرجم ، هكذا رواه شعبة وإسرائيل وأبو عوانة ، عن سماك ، عن جابر بن سمرة .

واختلف الفقهاء في عدد الإقرار بالزنا ، فقال مالك والليث والشافعي وعثمان البتي : إذا أقر مرة واحدة حد ، وهو قول داود والطبري ، ومن حجتهم ما روي من الآثار المذكور فيها الرجم بإقرار مرتين وثلاثا ، وهو دون الأربع ، وحديث ابن شهاب عن عبيد الله عن أبي هريرة وزيد بن خالد في قصة العسيف : قوله - صلى الله عليه وسلم - : واغد يا أنيس على امرأة هذا ، فإن اعترفت فارجمها فاعترفت فرجمها ، ولم يقل : إن اعترفت أربع مرات ، فكل اعتراف على ظاهر هذا الحديث يوجب الرجم مرة كان أو أكثر .

وقد أجمعوا أن الإقرار في الحقوق يجب بالمرة الواحدة ، وكذلك الحدود في القياس ، وليس الشهادات من باب الإقرار [ ص: 108 ] في ( شيء ) ، لإجماعهم على أن الإقرار في الحقوق لا يجب تكراره مرتين قياسا على الشاهدين ، وكذلك لا يجب الإقرار في الزنا أربع مرات قياسا على الشهود الأربعة .

وقال أبو حنيفة وأصحابه : لا يجب الرجم بالإقرار حتى يقر بالزنا أربع مرات في مجالس مفترقة ، وهو أن يغيب عن مجلس القاضي حتى لا يراه ، ثم يعود فيقر .

وقال الحسن بن حي : يقر أربع مرات ولم يذكر مجالس مفترقة .

وقال أبو يوسف ومحمد : يحد في الخمر بإقراره مرة واحدة ، وقال زفر : لا يحد حتى يقر مرتين في موطنين .

وقال أبو حنيفة وزفر ومحمد بن الحسن : إذا أقر مرة واحدة في السرقة صح إقراره ، وقال أبو يوسف : لا يصح حتى يقر مرتين .

حدثنا عبد الوارث بن سفيان وسعيد بن نصر قالا : حدثنا قاسم بن أصبغ قال : حدثنا ابن وضاح قال : حدثنا أبو بكر بن [ ص: 109 ] أبي شيبة قال : حدثنا عبد الله بن نمير قال : حدثنا بشير بن المهاجر قال : حدثني عبد الله بن بريدة ، عن أبيه أن ماعز بن مالك الأسلمي أتى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال : يا رسول الله ، إني قد ظلمت نفسي وزنيت وأنا أريد أن تطهرني ، فرده ، فلما كان من الغد أتاه أيضا فقال : يا رسول الله ، إني قد زنيت فرده الثانية ، فأرسل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى قومه فقال : أتعلمون بعقله بأسا ؟ أتنكرون منه شيئا ؟ قالوا : لا نعلمه إلا وفي العقل من صالحينا فيما نرى ، قال فأتاه الثالثة فأرسل إليهم أيضا فسأل عنه فأخبروه أنه لا بأس به ولا بعقله ، فلما كان الرابعة حفر له حفرة ، ثم أمر به فرجم .

وحدثنا سعيد بن نصر قال : حدثنا قاسم بن أصبغ قال : حدثنا محمد بن وضاح قال : حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة قال : حدثنا أبو خالد الأحمر عن مجالد عن الشعبي ، عن جابر قال : جاء ماعز بن مالك إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال : إنه قد زنا فقال : أما لهذا أحد ؟ فردوه ، ثم جاء ثلاث مرات فقال : أما لهذا أحد ؟ فردوه ، فلما كانت الرابعة قال : [ ص: 110 ] ارجموه ، فرماه ورميناه وفر واتبعناه . قال عامر : فقال لي جابر : فهاهنا قتلناه .

حدثنا عبد الرحمن بن يحيى قال : حدثنا أحمد بن سعيد قال : حدثنا عبد الملك بن أبجر قال : حدثنا موسى بن هارون قال : حدثنا العباس بن الوليد قال : حدثنا أبو عوانة ، عن سماك بن حرب ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس أن النبي - صلى الله عليه وسلم - رد ماعزا حتى شهد وأقر أربع مرات ثم أمر برجمه .

وحدثنا عبد الوارث بن سفيان قال : حدثنا قاسم بن أصبغ قال : حدثنا محمد بن عبد السلام ، حدثنا محمد بن بشار ، حدثنا محمد بن جعفر ، حدثنا سعيد عن سماك قال : سمعت جابر بن سمرة يقول : أتى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - رجل أشعر قصير له عضلات فأقر أنه قد زنا ، فرده مرتين ، ثم أمر برجمه ، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : كلما نفرنا غازين في سبيل الله تخلف أحدهم له نبيب كنبيب التيس [ ص: 111 ] يمنح إحداهن الكثبة ، لا أوتى بأحد منهم إلا جعلته نكالا .

قال أبو عمر : في بعض هذه الأحاديث ما يدل على أن إقراره كان في مجالس مفترقة ، وفي حديث ابن عباس أيضا وجابر بن سمرة وأبي هريرة ما يدل على أنه أقر على نفسه في مجلس واحد مرتين أو أربع مرات أعرض ( عنه ) رسول الله - صلى الله عليه وسلم - منها في الثلاث ، وبعضهم يقول : شهد على نفسه أربع شهادات ، والآثار في ذلك كثيرة طرقها جدا قد ذكرها المصنفون وفيما ذكرنا منها كفاية ، وإنما غرضنا أن نذكر حديث ابن شهاب متصلا لا غير ، ولكنا ذكرنا غيره ; لأنه من حجة المخالف وفيما ذكرنا من الحجة لمذهبنا شفاء إن شاء الله .

واختلف الفقهاء أيضا في رجوع المقر بالزنا وشرب الخمر ، وما ليس من حقوق الآدميين ، فقال مالك والليث والشافعي [ ص: 112 ] ( والثوري ) والحسن بن حي وأبو حنيفة وأصحابه : يقبل رجوع المقر بالزنا والسرقة وشرب الخمر .

وقال ابن أبي ليلى وعثمان البتي : لا يقبل رجوعه في شيء من ذلك كله .

وقال الأوزاعي في رجل أقر على نفسه بالزنا أربع مرات ، وهو محصن ثم ندم وأنكر أن يكون أتى ذلك : أنه يضرب حد الفرية على نفسه ، فإن اعترف بسرقة أو شرب خمر أو قتل ثم أنكر ، عاقبه السلطان دون الحد .

قال أبو عمر : إذا أقر الرجل بسرقة من مال رجل ، فأنكر الرجل المقر له ذلك ولم يدعه وكذب السارق أو أقر بسرقة من مال غائب ، ثم رجع لم يقطع ; لأنه لا حق لآدمي هاهنا ، وحكمه حكم المقر بالزنا .

واختلف قول مالك في المقر بالزنا أو شرب الخمر يقام عليه الحد ، فيرجع تحت العذاب فمرة قال : إذا أقيم عليه أكثر الحد أتم عليه ; لأن رجوعه ندم منه ، ومرة قال : يقبل منه رجوعه أبدا ، ولا يضرب بعد رجوعه ويرفع عنه ، وهو قول [ ص: 113 ] ابن القاسم ، وعليه الناس ; لأنه محال أن يقام حد بغير إقرار ولا بينة ، وإذا أكذب نفسه قبل تمام الحد فما بقي من الحد لا يتم عليه ; لأنه حينئذ يضرب بغير إقرار ولا بينة ، وظهور المسلمين ودماؤهم حمى إلا بيقين ، ولا وجه لقول من جعل رجوعه ندما ، لإجماعهم على أن رجوعه قبل أن يقام عليه الحد ليس بندم ، ولا فرق في القياس والنظر بين أول الحد وآخره ، وإذا جاز أن يقبل بعد سوط واحد جاز أن يقبل بعد سبعين والله أعلم .

قال أبو عمر : ثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - من حديث أبي هريرة وجابر ونعيم بن هزال ونصر بن دهر وغيرهم ، أن ماعز بن مالك لما رجم ومسته الحجارة هرب فأتبعوه ، فقال لهم : ردوني إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقتلوه رجما . وذكروا ذلك للنبي - صلى الله عليه وسلم - فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - : فهلا تركتموه لعله يتوب فيتوب الله عليه ففي هذا أوضح الدلائل على أنه يقبل إذا رجع ، والله أعلم .

وقد جعل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - هروبه رجوعا ، وقال : فهلا تركتموه .

[ ص: 114 ] وقال : إنه لفي أنهار الجنة ينغمس فيها .

حدثنا سعيد بن نصر قال : حدثنا قاسم بن أصبغ قال : حدثنا محمد بن وضاح قال : حدثنا ابن أبي شيبة قال : حدثنا أبو خالد الأحمر عن محمد بن إسحاق ( ح ) .

وأخبرنا عبد الوارث بن سفيان قال : حدثنا قاسم بن أصبغ قال : حدثنا أحمد بن زهير قال : حدثنا عبيد الله بن عمر قال : حدثنا يزيد بن زريع قال : حدثنا محمد بن إسحاق قال : حدثني محمد بن إبراهيم التيمي عن أبي الهيثم بن نصر بن دهر الأسلمي عن أبيه قال : كنت فيمن رجمه - يعني ماعز بن مالك - فلما وجد مس الحجارة جزع جزعا شديدا ، قال : فذكرنا ذلك لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : فهلا تركتموه .

وفي حديث سعيد - حديث ابن أبي شيبة : فلما وجد مس الحجارة قال : ردوني إلى النبي صلى الله عليه وسلم .




الخدمات العلمية