الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
معلومات الكتاب

التمهيد لما في الموطأ من المعاني والأسانيد

ابن عبد البر - أبو عمر يوسف بن عبد الله بن محمد بن عبد البر

صفحة جزء
1335 [ ص: 325 ] حديث عاشر لنافع عن ابن عمر .

مالك عن نافع عن عبد الله بن عمر أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : من ابتاع طعاما فلا يبعه حتى يستوفيه .

التالي السابق


هذا حديث صحيح الإسناد مجتمع على القول بجملته ، إلا أنهم اختلفوا في بعض معانيه ، ونحن نذكر ما اجتمع عليه من ذلك ، وما اختلف فيه هاهنا إن شاء الله تعالى .

وقد روي عن ابن عمر هذا الحديث من وجوه ; فأما عبد الله بن دينار فلفظه عنه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - من ابتاع طعاما فلا يبعه حتى يقبضه وكذلك لفظ حديث ابن عباس ، وحكيم بن حزام " حتى يقبضه " عند أكثر الرواة ، والقبض والاستيفاء سواء ، ولا يكون ما بيع من الطعام على الكيل والوزن مقبوضا إلا كيلا أو وزنا ، وهذا ما لا خلاف بين جماعة العلماء فيه ، فإن وقع البيع في الطعام على [ ص: 326 ] الجزاف فقد اختلف في بيعه قبل قبضه وانتقاله على ما نذكره ونوضحه في الباب الذي يلي هذا الباب إن شاء الله .

وظاهر هذا الحديث يحظر ما وقع عليه اسم طعام إذا اشتري حتى يستوفى ، واستيفاؤه قبضه على حسب ما جرت العادة فيه من كيل أو وزن قال الله عز وجل ( أوفوا الكيل ولا تكونوا من المخسرين ) وقال : ( فأوف لنا الكيل وتصدق علينا ) وقال : ( وإذا كالوهم أو وزنوهم يخسرون ) وأما اختلاف العلماء في معنى هذا الحديث فإن مالكا قال : من ابتاع طعاما أو شيئا من جميع المأكول أو المشروب مما يدخر ، ومما لا يذخر ما كان منه أصل معاش أو لم يكن ، حاشا الماء وحده ، فلا يجوز بيعه قبل القبض لا من البائع ، ولا من غيره ، سواء كان بعينه أو بغير عينه ، إلا أن يكون الطعام ابتاعه جزافا صبرة أو ما أشبه ذلك ، فلا بأس ببيعه قبل القبض ; لأنه إذا ابتيع جزافا كان كالعروض التي يجوز بيعها قبل القبض ، هذا هو المشهور من مذهب مالك ، وبه قال الأوزاعي . والملح والكزبر والشونيز والتوابل [ ص: 327 ] وزريعة الفجل التي يؤكل زيتها ، وكل ما يؤكل ويشرب ويؤتدم به فلا يجوز بيعه ، ولا بيع شيء منه قبل القبض إذا ابتيع على الكيل أو الوزن ولم يبع جزافا . هذه جملة مذهب مالك المشهور عنه في هذا الباب قال : وأما زريعة السلق ، وزريعة الجزر ، والكراث ، والجرجير ، والبصل ، وما أشبه ذلك فلا بأس أن يبيعه الذي اشتراه قبل أن يستوفيه ; لأن هذا ليس بطعام ، ويجوز فيه التفاضل ، وليس كزريعة الفجل الذي منه الزيت ; لأن هذا طعام .

وما لا يجوز أن يباع قبل القبض عند مالك ، وأصحابه فلا يجوز أن يمهر ولا يستأجر به ، ولا يؤخذ عليه بدل ، وهذا فيما اشتري من الطعام ، وأما من كان عنده طعام لم يشتره ، ولكنه أقرضه أو نحو ذلك فلا بأس ببيعه قبل أن يستوفيه ; لأن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : من ابتاع طعاما فلا يبعه حتى يستوفيه ولم يقل : من كان عنده طعام أو كان له طعام فلا يبعه حتى يستوفيه ، ولا خلاف عن مالك أن ما عدا المأكول ، والمشروب من الثياب والعروض والعقار ، وكل ما يكال ويوزن إذا لم يكن مأكولا ، ولا مشروبا من جميع الأشياء كلها غير المأكول ، والمشروب أنه لا بأس لمن ابتاعه أن يبيعه قبل قبضه واستيفائه ، وحجته فيما ذهب إليه مما [ ص: 328 ] وصفنا عنه قوله - صلى الله عليه وسلم - من ابتاع طعاما فلا يبعه حتى يقبضه ، ولا يبعه حتى يستوفيه .

حدثنا أحمد بن قاسم ، وعبد الوارث بن سفيان قالا : حدثنا قاسم بن أصبغ قال : حدثنا الحارث بن أبي أسامة قال : حدثنا أبو نعيم قال : حدثنا سفيان عن عبد الله بن دينار عن عبد الله بن عمر قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من اشترى طعاما فلا يبعه حتى يقبضه ففي هذا الحديث خصوص الطعام بالذكر ، فوجب أن يكون ما عداه بخلافه ، وفيه : من ابتاع طعاما فوجب أن يكون المقروض ، وغير المشترى بخلافه استدلالا ونظرا ، وحديث مالك عن نافع عن ابن عمر عن النبي - صلى الله عليه وسلم - مثله في قوله : من ابتاع طعاما فلا يبعه حتى يستوفيه .

وحدثنا عبد الله بن محمد بن يحيى قال : حدثنا محمد بن بكر قال : حدثنا أبو داود قال : حدثنا أحمد بن صالح قال : حدثنا ابن وهب قال أخبرني عمرو يعني ابن الحارث [ ص: 329 ] عن المنذر بن عبيد المدني أن القاسم بن محمد حدثه أن عبد الله بن عمر حدثه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نهى أن يبيع أحد طعاما اشتراه بكيل حتى يستوفيه .

ففي هذا الحديث اشتراه بكيل على أن الجزاف بخلافه فهذه حجة مالك مع دليل القرآن في قوله : ( فأوف لنا الكيل ) و ( كالوهم أو وزنوهم ) أن الاستيفاء والقبض لا يكون إلا بذلك ، وقال آخرون : كل ما وقع عليه اسم طعام مما يؤكل أو يشرب فلا يجوز أن يباع حتى يقبض ، وسواء اشترى جزافا أو كيلا أو وزنا ، وما سوى الطعام فلا بأس ببيعه قبل القبض ، وممن قال هذا أحمد بن حنبل وأبو ثور ، وحجتهم عموم قوله - صلى الله عليه وسلم - : من ابتاع طعاما لم يقل جزافا ولا كيلا ، بل قد ثبت عنه أنه قال : من ابتاع طعاما جزافا أن لا يبيعه حتى ينقله ويقبضه ، على ما سنذكره في هذا الباب بعد هذا إن شاء الله تعالى .

وضعفوا زيادة المنذر بن عبيد في قوله : طعاما بكيل ، وقد ذهب هذا المذهب بعض المالكيين ، وحكاه عن مالك ، وهذا اختيار أبي بكر الوقار .

[ ص: 330 ] وقال آخرون : كل ما بيع على الكيل أو الوزن من جميع الأشياء كلها طعاما كان أو غيره ، فلا يباع شيء منه قبل القبض ، وما ليس بمكيل ولا موزون فلا بأس ببيعه قبل قبضه من جميع الأشياء كلها ، روي هذا القول عن عثمان بن عفان ، وسعيد بن المسيب ، والحسن البصري ، والحكم بن عتيبة ، وحماد بن أبي سليمان ، وبه قال إسحاق ابن راهويه ، وروي مثل ذلك أيضا عن أحمد بن حنبل ، والأول أصح عنه .

وحجة من ذهب هذا المذهب ، أن الطعام المنصوص عليه أصله الكيل والوزن فكل مكيل أو موزون فذلك حكمه قياسا عندهم ونظرا .

وقال آخرون : كل ما ملك بالشراء فلا يجوز بيعه قبل القبض إلا العقار وحده ، وهو قول أبي حنيفة ، وإليه رجع أبو يوسف ، وجملة قول أصحاب أبي حنيفة أن المهر والجعل ، وما يؤخذ في الخلع جائز أن يباع ما ملك من هذه الوجوه قبل القبض ، والذي لا يباع قبل القبض ما اشتري أو استؤجر به .

[ ص: 331 ] وقال آخرون : كل ما ملك بالشراء أو بعوض من جميع الأشياء كلها عقارا كان أو غيره مأكولا كان أو مشروبا ، مكيلا كان أو موزونا ، أو غير مكيل ولا موزون ولا مأكول ولا مشروب من كل ما يجري عليه البيع لا يجوز بيع شيء منه قبل القبض ، وممن قال بهذا سفيان الثوري ، وابن عيينة ، والشافعي ، وبه قال محمد بن الحسن ، وهو قول عبد الله بن عباس ، وجابر بن عبد الله رضي الله عنهما .

ومن حجة من ذهب هذا المذهب أن عبد الله بن عباس ، وجابر بن عبد الله رويا عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال : من اشترى طعاما فلا يبعه حتى يقبضه ، وأفتيا جميعا بأن لا يباع بيع حتى يقبض ، وقال ابن عباس : كل شيء عندي مثل الطعام فدل على أنهما فهما عن النبي - صلى الله عليه وسلم - المراد ، والمعنى : حدثنا سعيد بن نصر ، وعبد الوارث بن سفيان قالا : حدثنا قاسم بن أصبغ قال : حدثنا محمد بن إسماعيل الترمذي قال : حدثنا الحميدي قال : حدثنا سفيان قال : حدثنا عمرو قال أخبرني طاوس قال : سمعت ابن عباس يقول : أما الذي نهى عنه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فهو الطعام أن يباع حتى يستوفى ، وربما قال سفيان : حتى يكال ، وقال ابن عباس برأيه ، ولا أحسب كل شيء إلا مثله .

وحدثنا عبد الرحمن بن يحيى قال : حدثنا عبد الله محمد بن [ ص: 332 ] يوسف قال أخبرنا ابن وضاح قال : حدثنا حامد بن يحيى البلخي قال : حدثنا سفيان بن عيينة قال : حدثنا عمرو بن دينار عن طاوس عن ابن عباس قال : أما الذي نهى عنه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يباع حتى يقبض فهو الطعام ، قال ابن عباس برأيه : وأحسب كل شيء مثله .

حدثنا عبد الوارث قال : حدثنا قاسم بن أصبغ قال : حدثنا محمد بن الجهم قال : حدثنا عبد الوهاب قال : حدثنا هشام الدستوائي عن يحيى بن أبي كثير عن يوسف بن ماهك أن عبد الله بن عصمة حدثه أن حكيم بن حزام حدثه قال : قلت : يا رسول الله إني أشتري بيوعا فما يحل لي منها ، وما يحرم فقال : يا ابن أخي إذا اشتريت بيعا فلا تبعه حتى تقبضه . وهذا الإسناد ، وإن كان فيه مقال ففيه لهذا المذهب استظهار .

ومن حجة من ذهب مذهب الشافعي ، والثوري في هذا المذهب نهيه - صلى الله عليه وسلم - عن ربح ما لم يضمن ، وبيع ما لم يضمن ، وما لم يقبضه المشتري عندهم من جميع الأشياء كلها وضاع ، وهلك ، فمصيبته عندهم من البائع ، وضمانه منه . وكان من البائع فلا يجوز لمشتريه عندهم بيعه قبل قبضه ; بدليل نهيه - صلى الله عليه وسلم - عن ربح ما لم [ ص: 333 ] يضمن ، وبنص قوله : من ابتاع بيعا فلا يبعه حتى يقبضه ، واستدلالا بالسنة الثابتة في الطعام أن لا يباع حتى يقبض . أخبرنا عبد الله بن محمد قال : حدثنا محمد بن بكر قال : حدثنا أبو داود قال : حدثنا زهير بن حرب قال : حدثنا إسماعيل عن أيوب قال : حدثني عمرو بن شعيب قال : حدثني أبي عن أبيه حتى ذكر عبد الله بن عمرو قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : لا يحل بيع وسلف ، ولا بيع ما لم يضمن ، ولا بيع ما ليس عندك ، واحتجوا أيضا بعموم بيع ما ليس عندك على ظاهره ، واحتجوا أيضا بحديث سعيد الطائي عن عطية العوفي عن أبي سعيد الخدري قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : من أسلف في شيء فلا يعرفه في غيره أو إلى غيره ، وقالوا هذا كله على العموم في الطعام وغيره ، وذهب مالك وأصحابه ومن تابعه في هذا الباب إلى أن نهيه عليه السلام عن ربح ما لم يضمن ، إنما هو في الطعام وحده ; لأنه خص بالذكر في مثل هذا الحديث وغيره من الأحاديث الصحاح ، ولا بأس عندهم بربح ما لم يضمن ما عدا الطعام من البيوع والكراء وغيره ، وكذلك حملوا النهي عن بيع ما ليس عندك على الطعام وحده ، إلا ما كان من العينة .

[ ص: 334 ] وأصحابنا في أصولهم في الذرائع ، ولتفسير العينة على مذهبهم موضع غير هذا ، قالوا : وكل حديث ذكر فيه النهي عن بيع ما ابتعته حتى تقبضه فالمراد به الطعام ; لأنه الثابت في الأحاديث الصحاح من جهة النقل ، وتخصيصه الطعام بالذكر دليل على أن ما عداه وخالفه فحكمه بخلاف حكمه ، كما أن قوله عند الجميع من ابتاع طعاما تخصيص منه للابتياع دون ما عده من القرض وغيره ، ولكل طائفة في هذا الباب حجج من جهة النظر تركت ذكرها ; لأن أكثرها تشغيب ، ومدار الباب على ما ذكرنا ، وبالله توفيقنا .

وقال عثمان البتي : لا بأس أن تبيع كل شيء قبل أن تقبضه كان مكيلا أو مأكولا ذلك من جميع الأشياء .

قال أبو عمر : هذا قول مردود بالسنة ، والحجة المجمعة على الطعام فقط ، وأظنه لم يبلغه الحديث ، ومثل هذا لا يلتفت إليه ، وبالله التوفيق .




الخدمات العلمية