الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
معلومات الكتاب

التمهيد لما في الموطأ من المعاني والأسانيد

ابن عبد البر - أبو عمر يوسف بن عبد الله بن محمد بن عبد البر

صفحة جزء
21 [ ص: 115 ] حديث حاد وعشرون لنافع عن ابن عمر

مالك ، عن نافع ، عن عبد الله بن عمر ، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : الذي تفوته صلاة العصر فكأنما وتر أهله وماله .

التالي السابق


هذا حديث صحيح بإسناده هذا لم يختلف فيه على مالك . وكذلك رواه أيوب وعبيد الله ( بن عمر ) ، عن نافع ، عن ابن عمر حدثنا عبد الوارث بن سفيان ، حدثنا قاسم بن أصبغ ، حدثنا بكر بن حماد ، قال حدثنا مسدد ، حدثنا يحيى ، عن عبيد الله ، قال حدثني نافع ، عن عبد الله بن عمر ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : الذي تفوته صلاة العصر كأنما وتر أهله وماله . [ ص: 116 ] وحدثنا عبد الوارث ، ويعيش بن سعيد ، قالا حدثنا قاسم ، وحدثنا أحمد بن محمد البرتي ، حدثنا أبو معمر ، حدثنا عبد الوارث بن سعيد ، وحدثنا عبد الوارث بن سفيان ، وأحمد بن قاسم ، قالا حدثنا قاسم بن أصبغ ، حدثنا الحارث بن أبي أسامة ، حدثنا داود بن نوح ، حدثنا حماد ، قالا جميعا حدثنا أيوب ، عن نافع ، عن عبد الله بن عمر قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم : إن الذي تفوته صلاة العصر فكأنما وتر أهله وماله .

وهو عند ابن شهاب ، عن سالم ، عن ابن عمر ، رواه عن ابن شهاب جماعة من أصحابه منهم : ابن عيينة ، ومحمد بن ( أبي ) عتيق ، وإبراهيم بن سعد ، حدثنا سعيد بن نصر ، وعبد الوارث بن سفيان ، قالا حدثنا قاسم بن أصبغ ، حدثنا جعفر بن محمد الصائغ ، حدثنا سليمان بن داود الهاشمي ، حدثنا إبراهيم بن سعد ، عن ابن شهاب ، عن سالم بن عبد الله ، عن ابن عمر قال : سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول : من فاتته صلاة العصر فكأنما وتر أهله وماله . [ ص: 117 ] ورواه سعيد بن إبراهيم ، عن الزهري ، عن ابن عمر مرفوعا ، بغير اللفظ : حدثنا سعيد بن عثمان ، حدثنا أحمد بن دحيم ، حدثنا محمد بن الحسين بن زيد أبو جعفر ، حدثنا محمد بن عمرو ، حدثنا نعيم بن حماد ، حدثنا ابن المبارك ، حدثنا شعبة ، عن سعيد بن إبراهيم ، عن الزهري ، عن ابن عمر ، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : إن الرجل ليدرك الصلاة وما فاته منها خير من أهله وماله . وسنذكر هذا المعنى في باب يحيى بن سعيد - إن شاء الله .

وعند ابن شهاب أيضا في هذا الحديث إسناد آخر ، عن أبي بكر بن عبد الرحمن ، عن نوفل بن معاوية الدئلي ; رواه عنه مالك وغيره ، إلا أنه محفوظ من ابن أبي ذئب ، عن الزهري ; وغير محفوظ ، عن مالك إلا من حيث خلف بن سالم ، عن معن ، عن مالك ; قال أبو عبد الرحمن النسائي : أخاف أن لا يكون محفوظا من حديث مالك ، ولعله أن يكون معن ، عن ابن أبي ذئب . [ ص: 118 ] فأما حديث مالك ، عن ابن شهاب في ذلك فقرأته على أحمد بن فتح بن عبد الله ، أن حمزة بن محمد حدثهم ، قال : حدثنا أحمد بن الحسن بن عبد الجبار ، قال حدثنا خلف بن سالم المخزومي ، قال حدثنا معن بن عيسى ، عن مالك ، عن الزهري ، عن أبي بكر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام ، عن نوفل بن معاوية الدئلي ، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : من فاتته صلاة العصر فكأنما وتر أهله وماله . وخالفه ابن أبي ذئب في هذا الإسناد فجعله ، عن الزهري ، عن أبي سلمة فيما روينا من حديث أسد ، حدثناه خلف بن القاسم - قراءة مني عليه ، قال : حدثنا محمد بن أحمد بن المسور ، قال حدثنا مقدام بن داود ، قال حدثنا أسد بن موسى ، قال حدثنا ابن أبي ذئب ، عن الزهري ، عن أبي سلمة بن عبد الرحمن ، عن نوفل بن معاوية قال : سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول : من فاتته صلاة فكأنما وتر أهله وماله .

هكذا قال صلاة فيما كتبنا عنه وقرأنا عليه ، وذكر أبي سلمة بن عبد الرحمن في هذا الحديث خطأ من قائله ، وإنما هو أبو بكر بن عبد الرحمن ، وليس ذلك من ابن أبي ذئب ، وإنما الخطأ فيه من أسد ، أو ممن دون أسدا ; وأما من ابن أبي ذئب فلا ، حدثنا عبد الوارث بن سفيان ، قال حدثنا قاسم بن أصبغ ، قال حدثنا محمد بن إسماعيل الصائغ ، قال حدثنا [ ص: 119 ] يحيى بن أبي بكير ، قال حدثنا ابن أبي ذئب ، عن الزهري ، عن أبي بكر بن عبد الرحمن ، عن نوفل بن معاوية الدئلي ، قال : سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول : من فاتته الصلاة فكأنما وتر أهله وماله . قلت ما هذه الصلاة قال صلاة العصر قال : وسمعت ابن عمر يقول : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم : إن الذي تفوته صلاة العصر فكأنما وتر أهله وماله . هكذا في هذا الحديث بهذا الإسناد ، وسمعت ابن عمر فإن صح هذا فالحديث لابن شهاب ، عن أبي بكر بن عبد الرحمن ، عن نوفل بن معاوية ، وابن عمر جميعا ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - وعن سالم أيضا ، عن ابن عمر ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ومما يصحح ذلك أن محمد بن إسحاق روى هذا الحديث ، عن يزيد بن أبي حبيب ، عن عراك بن مالك الغفاري قال : سمعت نوفل بن معاوية الدئلي ، وهو جالس مع عبد الله بن عمر بسوق المدينة يقول : سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول : صلاة من فاتته فكأنما وتر أهله وماله . فقال عبد الله بن عمر : قال رسول الله : هي العصر ذكره الطحاوي في فوائده ، عن علي بن معبد ، عن يعقوب بن إبراهيم بن سعد ، عن أبيه ، عن ابن إسحاق . [ ص: 120 ] وحدثنا عبد الوارث ، قال حدثنا قاسم ، قال حدثنا أحمد بن زهير ، قال حدثنا أبي ، قال حدثنا أبو عامر ، ويحيى بن أبي بكير قالا ، حدثنا ابن أبي ذئب ، عن الزهري ، عن أبي بكر بن عبد الرحمن ، عن نوفل بن معاوية ، قال : سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول : من فاتته صلاة العصر فكأنما وتر أهله وماله . وهذا يدلك على أن قوله في حديث نوفل الدئلي : من فاتته الصلاة أراد صلاة العصر فيكون معناه ، ومعنى حديث ابن عمر سواء وتكون صلاة العصر مخصوصة بالذكر في ذلك . غيرها بالمعنى ; وقد ذهب قوم من أهل العلم - إلى أن حديثنوفل بن معاوية أعم وأولى بصحيح المعنى من حديث ابن عمر ; وقالوا فيه : قوله من فاتته الصلاة - وقد فاتته صلاة - يريد كل صلاة ، لأن حرمة الصلوات كلها سواء ; قال : وتخصيص ابن عمر لصلاة العصر ، هو كلام خرج على جواب السائل ; كأنه سمع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قد أجاب من سأله عن صلاة العصر ، بأن قال له : الذي تفوته صلاة العصر فكأنما وتر أهله وماله ; ولو سئل عن الصبح وغيرها كان كذلك جوابه أيضا - والله أعلم - بدليل حديث نوفل بن معاوية الذي تفوته الصلاة أو تفوته صلاة ، فكأنما وتر أهله وماله .

حدثنا أحمد بن محمد ، حدثنا أحمد بن الفضل ، حدثنا محمد بن جرير [ ص: 121 ] ، حدثنا محمد بن عبد الله بن عبد الحكم ، قال حدثنا ابن أبي فديك ، قال حدثنا ابن أبي ذئب ، عن ابن شهاب ، عن أبي بكر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام ، عن نوفل بن معاوية الدئلي قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من فاتته الصلاة فكأنما وتر أهله وماله



وفي هذا الحديث تعظيم لعمل الصلاة في وقتها وهي خير أعمالنا كما قال - صلى الله عليه وسلم : واعملوا إن خير أعمالكم الصلاة وقد سئل - صلى الله عليه وسلم - ، عن أي الأعمال أحب إلى الله فقال : الصلاة في وقتها ، وروي في أول وقتها وفيه تحقير للدنيا ، وإن قليل عمل البر خير من كثير من الدنيا ; فالعاقل العالم بمقدار هذا الخطاب ، يحزن على فوات صلاة العصر إن لم يدرك منها ركعة قبل غروب الشمس ، أو قبل اصفرارها ، فوق حزنه على ذهاب أهله وماله . وما توفيقي إلا بالله .

وقد ذكرنا ما للعلماء في آخر وقت العصر من الأقوال والاعتلال في باب زيد بن أسلم من كتابنا هذا ، فلا وجه لإعادته هاهنا ; وحكم صلاة الصبح وسائر الصلوات في فواتها كذلك - إن شاء الله ، وقد يحتمل أن يكون هذا الحديث خرج [ ص: 122 ] على جواب السائل عمن تفوته صلاة العصر ، فلا يكون غيرها بخلاف حكمها في ذلك ويحتمل أن يكون خصت بالذكر ، لأن الإثم في تضييعها أعظم والتأويل الأول أولى - والله أعلم .

وقد احتج بهذا الحديث من ذهب إلى أن الصلاة الوسطى صلاة العصر ، فقال خصها رسولالله بالذكر من أجل أن الله خصها بقوله : ( حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى ) فجمعها في قوله الصلوات ثم خصها بالذكر تعظيما لها ، كما قال عز وجل : ( وإذ أخذنا من النبيين ميثاقهم ) فعم النبيين ثم قال : ( ومنك ومن نوح وإبراهيم وموسى وعيسى ابن مريم ) فخص هؤلاء تعظيما لهم وهم أولو العزم من الرسل ، وقد اختلف العلماء من الصحابة والتابعين ، وسائر علماء المسلمين في الصلاة الوسطى على حسب ما قد بيناه في باب زيد بن أسلم من كتابنا هذا ، فلا وجه لإعادته هاهنا ; وأما قوله في هذا الحديث فكأنما وتر أهله وماله ، فمعناه عند أهل العلم فكأنما أذيب بأهله وماله ، وكأنما ذهب أهله وماله ; والمعنى في ذلك ذهاب الأجر والثواب ، لأن الأهل والمال [ ص: 123 ] باقيان ، لكن ذهاب الأجر على ذي العقل والدين ، كذهاب الأهل والمال .

وأما أصل الكلمة من اللغة ، فإنها مأخوذة من الوتر والترة ; وهو أن يجني الرجل على الآخر جناية في دم أو مال ، فيطلبه به حتى يأخذ منه ذلك المال أو مثله ; ومثل ذلك الدم وقلما يكون ذلك إلا أكثر من الجناية الأولى ، فيذهب المال ويجحف به وبالأهل ; وقد يسمى كل واحد منهما موتورا لذهاب ماله وأهله قال الأعشى :

علقم ما أنت إلى عامر الناقض الأوتار والواتر

، وقال أعرابي :

كأنما الذئب إذ يعدو على غنمي في الصبح طالب وتر كان فاتأرا

، وقال منقذ الهلالي

وكذاك يفعل في تصرفه والدهر ليس يناله وتر

[ ص: 124 ] وإنما قال - والله أعلم - في هذا الحديث فكأنما وتر أهله ، ولم يقل مات أهله ; لأن الموتور يجتمع عليه همان : هم ذهاب أهله ، وهم الطلب بثأره ووتره ; فالذي تفوته صلاة العصر فمصيبته لو حصل وفهم ، كمصيبة هذا - والله أعلم - وقد جاء ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في الذي تفوته صلاة العصر ، حديث أشد من هذا في ظاهره ; وليس على ظاهره والمعنى فيه عند أهل السنة ، كالمعنى في هذا سواء ، حدثنا سعيد بن نصر ، وعبد الوارث بن سفيان ، قالا حدثنا قاسم بن أصبغ ، قال حدثنا محمد بن وضاح ، قال حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة ، قال حدثنا يزيد بن هارون ، وحدثنا عبد الوارث ، قال حدثنا قاسم ، قال حدثنا بكر بن حماد ، قال حدثنا مسدد ، قال حدثنا يحيى ، قالا جميعا أخبرنا هشام بن أبي عبد الله الدستوائي ، قال حدثني يحيى بن أبي كثير ، عن أبي قلابة ، وقال حدثني أبو المليح ، قال كنا مع يزيد في سفر في يوم غيم فقال : بكروا بالعصر ، وقال يحيى : بالصلاة فإن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : من ترك صلاة العصر فقد حبط عمله . وقال يزيد : من فاتته صلاة العصر حبط عمله [ ص: 125 ] ورواه الأوزاعي ، عن يحيى بن أبي كثير ، عن أبي قلابة ، عن أبي المهاجر ، عن بريرة ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ذكره ابن أبي شيبة ، عن وكيع وعيسى بن يونس جميعا ، عن الأوزاعي .

قال أبو عمر : معنى قوله في هذا الحديث ، حبط عمله أي ; حبط عمله فيها ، فلم يحصل على أجر من صلاها في وقتها - يعني أنه إذا عملها بعد خروج وقتها ، فقد أجر عملها في وقتها وفضله - والله أعلم ; لا أنه حبط عمله جملة في سائر الصلوات ، وسائر أعمال البر ، أعوذ بالله من مثل هذا التأويل فإنه مذهب الخوارج ، وإنما يحبط الأعمال الكفر بالله وحده ; قال الله عز وجل : ( ومن يكفر بالإيمان فقد حبط عمله ) وفي هذا النص دليل واضح أن من لم يكفر بالإيمان لم يحبط عمله .

وقد اختلف في تأويل قوله فقد حبط عمله بما قد ذكرناه في كتاب المرتد ، ورواية من روى في هذا الحديث ترك صلاة العصر ، أولى من رواية من روى فاتته ، وقد يكون المعنى فاتته تركه لها فحبط عمله فيها ، فلا يكون في ذلك تناقض ، ولا [ ص: 126 ] يسمى الناسي لها ، والنائم عنها ، والمحبوس عن القيام إليها تاركا ، لها لأن الفاعل من فعل الترك ، واختاره بقصد منه إليه واردة له ; وليس كذلك من وصفنا حاله من الناسي ، والنائم ، والمغلوب ، وقد ذكرنا أحكام تارك الصلاة عامدا ، وما للعلماء في ذلك من المذاهب ، في باب زيد بن أسلم والحمد لله . ومن ترك صلاة العصر أو غيرها جحودا بها ، فهو كافر قد حبط عمله عند الجميع وبالله التوفيق .




الخدمات العلمية