الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
معلومات الكتاب

التمهيد لما في الموطأ من المعاني والأسانيد

ابن عبد البر - أبو عمر يوسف بن عبد الله بن محمد بن عبد البر

صفحة جزء
1718 مالك ، عن أيوب بن حبيب - مولى سعد بن أبي وقاص - عن أبي المثنى الجهني أنه قال : كنت عند مروان بن الحكم ، فدخل عليه أبو سعيد الخدري ، فقال له مروان بن الحكم : أسمعت من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه نهى عن النفخ في الشراب ؟ فقال له أبو سعيد : نعم فقال له رجل : يا رسول الله إني لا أروى من نفس واحد ، فقال له رسول الله : فأبن القدح عن فيك ثم تنفس ، قال : فإني أرى القذاة فيه ، قال : فأهرقها .

التالي السابق


أبو المثنى الجهني لا أقف على اسمه ، واسم أبي سعيد الخدري سعد بن مالك بن سنان ، قد أتينا على ذكر نسبه ووفاته في كتابنا في الصحابة ، والقذاة ما وقع في إناء الشارب من عود أو ورقة أو ريشة أو نحو ذلك مما يؤذي الشارب .

وفي هذا الحديث من الفقه دخول العالم على السلطان .

[ ص: 392 ] وفيه ما كان عليه الأمراء والسلاطين في سالف الأيام في الإسلام من السؤال عن العلم والبحث عنه ومجالسة أهله .

وفيه القراءة على العالم ، وأن قوله نعم يقوم مقام إخباره ، وكذلك الإقرار يجري عندنا هذا المجرى ، وإن كان غيرنا قد خالفنا فيه ، وهو أن يقال للرجل ألفلان عندك كذا ؟ فيقول : نعم ، فيلزمه ، كما لو قال : لفلان عندي كذا .

وفيه الرخصة في الزيادة على الجواب إذا كان من معنى السؤال .

وفيه إباحة الشرب في نفس واحد ، وكذلك قال مالك رحمه الله ، أخبرنا أحمد بن عبد الله بن محمد أن أباه أخبره ، قال : أخبرنا محمد بن فطيس قال : حدثنا يحيى بن إبراهيم قال : حدثنا عيسى بن دينار ، عن ابن القاسم ، عن مالك أنه رأى في قول النبي عليه السلام للرجل الذي قال له : إني لا أروى من نفس واحد ، فقال له النبي عليه السلام " فأبن القدح عن فيك " قال مالك : فكأني أرى في ذلك الرخصة أن يشرب من نفس واحد ما شاء ، ولا أرى بأسا بالشرب من نفس واحد ، وأرى فيه رخصة لموضع الحديث : إني لا أروى من نفس واحد .

قال أبو عمر : يريد مالك رحمه الله أن النبي عليه السلام لم ينه الرجل حين قال له : إني لا أروى من نفس واحد ، أن يشرب في نفس واحد ، بل قال له كلاما معناه فإن كنت لا تروى في نفس واحد فأبن القدح عن فيك ، وهذا إباحة منه للشرب من نفس واحد إن شاء الله .

[ ص: 393 ] وقد رويت آثار عن بعض السلف فيها كراهة الشرب في نفس واحد ، وليس منها شيء تجب به حجة ، فمن ذلك ما حدثني خلف بن القاسم رحمه الله ، قال : حدثنا مؤمل بن يحيى بن مهدي الفقيه ، قال : حدثنا محمد بن جعفر بن راشد الإمام قال : حدثنا علي بن المديني قال : حدثنا خالد بن مخلد قال : حدثنا إبراهيم بن أبي حبيبة قال : أخبرني داود بن الحصين ، عن عكرمة ، عن ابن عباس قال : الشراب بنفس واحد شرب الشيطان ، وإبراهيم بن أبي حبيبة ضعيف لا يحتج به ، ولو صح كان المصير إلى المسند أولى من قول الصاحب ، وأخبرني عبد الله بن محمد بن عبد المومن قال : حدثنا محمد بن يحيى بن عمر بن علي الطائي قال : حدثنا علي بن حرب الطائي قال : حدثنا سفيان بن عيينة ، عن ابن طاوس قال : كان أبي إذا رآني أشرب بنفس واحد نهاني .

وذكر أبو بكر بن أبي شيبة قال : حدثنا الثقفي ، عن خالد ، عن عكرمة أنه كره الشرب بنفس واحد ، وقال : هو شرب الشيطان .

وأخبرنا أحمد بن سعيد بن بشر قال : حدثنا محمد بن عبد الله بن أبي دليم قال : حدثنا ابن وضاح قال : كنت أرى سحنون إذا أتى بالماء يشربه يسمي الله ثم يتناول منه شيئا ثم يرفع رأسه فيحمد الله ، رأيته يفعل ذلك مرارا .

[ ص: 394 ] قال أبو عمر : فعل سحنون هذا حسن في الأدب وليس بسنة ، ولكنه أهنأ وأمرأ ، كما قال - صلى الله عليه وسلم - في ذلك ، ولعل سحنون بلغه في ذلك ما كان ابن عيينة يرويه عن إسرائيل ، عن كهمس ، عن أنس بن مالك أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : الشرب في ثلاثة أنفاس أمرأ وأشفى وأشهى وأبرأ وقد لقي سحنون ابن عيينة وأخذ عنه .

وجدت في أصل سماع أبي رحمه الله بخطه أن أبا عبد الله محمد بن أحمد بن قاسم بن هلال حدثهم ، قال : حدثنا سعيد بن عثمان قال : حدثنا نصر بن مرزوق قال : حدثنا أسد بن موسى قال : حدثنا حماد بن سلمة ، ووكيع ، وإسرائيل ، عن هشام بن أبي عبد الله الدستوائي ، عن أبي عصام ، عن أنس بن مالك قال : كان رسول الله - صلى الله عليه - إذا شرب تنفس ثلاثا ، ويقول : هو أهنأ وأمرأ وأبرأ .

وذكر أبو جعفر العقيلي في كتاب الصحابة له ، قال : حدثنا إبراهيم بن يوسف قال : أخبرنا يحيى بن عثمان الحمصي قال : أخبرنا اليمان بن عدي الحمصي قال : حدثني ثابت بن كثير الضبي البصري ، عن يحيى بن سعيد ، عن سعيد بن المسيب ، عن بهز قال : كان [ ص: 395 ] النبي - صلى الله عليه وسلم - يستاك عرضا ويشرب مصا ويتنفس ثلاثا ، ويقول : هذا أهنأ وأمرأ وأبرأ ، قال : وأخبرنا جعفر بن محمد الزعفراني قال : أخبرنا عمر بن علي بن أبي بكر الكندي قال : أخبرنا علي بن ربيعة القرشي ، عن يحيى بن سعيد ، عن سعيد بن المسيب ، عن ربيعة بن أكثم قال : كان رسول الله - صلى الله عليه - يستاك عرضا ويشرب مصا ، ويقول : هو أهنأ وأمرأ .

قال أبو عمر : هذان الحديثان حديث بهز وحديث ربيعة بن أكثم ، ليس لإسناديهما عن سعيد أصل ، وليسا بصحيحين من جهة الإسناد عندهم ، وقد جاء عن جماعة من السلف إجازة الشرب في نفس واحد كما قال مالك رحمه الله ، أخبرنا أحمد بن عبد الله أن أباه أخبره ، قال : حدثنا عبد الله بن يونس قال : حدثنا بقي بن مخلد قال : حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة قال : حدثنا ابن المبارك ، عن سالم ، عن عطاء أنه كان لا يرى بالشرب بالنفس الواحد بأسا ، قال أبو بكر : وحدثنا حاتم بن إسماعيل ، عن عبد الله بن يزيد قال : لم أر أحدا كان أعجل إفطارا من سعيد بن المسيب ، كان لا ينتظر مؤذنا ، ويؤتى بالقدح من ماء فيشربه بنفس واحد لا يقطعه حتى يفرغ منه ، هذا أصح عن سعيد قال : وحدثنا الثقفي ، عن أيوب قال : نبئت ، عن ميمون بن مهران قال : رآني عمر بن عبد العزيز وأنا أشرب ، فجعلت أقطع شرابي وأتنفس ، قال : إنما نهي أن يتنفس في الإناء ، فإذا لم تتنفس فاشربه إن شئت بنفس واحد .

[ ص: 396 ] قال أبو عمر : قول عمر بن عبد العزيز في هذا هو الفقه الصحيح في هذه المسألة ، والنهي عن النفخ في الشراب المذكور في حديث مالك في هذا الباب هو عندي كالنهي عن التنفس في الإناء سواء ، والله أعلم .

ألا ترى إلى قوله في الحديث : فأبن القدح عن فيك ثم تنفس ، وإذا لم يجز التنفس في الإناء لم يجز النفخ فيه لأنه مثله وقطعة منه ، وحدثني خلف بن القاسم الحافظ قال : حدثنا أبو عيسى عبد الرحمن بن إسماعيل الأسواني قال : وكان فاضلا رحمه الله ، قال : حدثنا أحمد بن محمد بن سلام قال : حدثنا مجاهد بن موسى قال : حدثنا سفيان بن عيينة ، عن عبد الكريم الجزري ، عن عكرمة ، عن ابن عباس قال : نهى رسول الله - صلى الله عليه - أن ينفخ في الإناء أو يتنفس فيه .

وحدثنا أحمد بن عبد الله ، حدثنا أبي ، حدثنا محمد بن فطيس ، حدثنا يونس بن عبد الأعلى ، حدثنا أنس بن عياض ، عن الحارث بن عبد الرحمن الدوسي ، عن عمه ، عن أبي هريرة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : لا يتنفس أحدكم في الإناء إذا كان يشرب منه ، ولكن إذا أراد أن يتنفس فليؤخر عنه ثم يتنفس .

[ ص: 397 ] قال أبو عمر : في حديث النبي - صلى الله عليه وسلم - نحوه ، وأكثر الآثار إنما جاءت بالنهي عن التنفس في الإناء ، وقد قلنا إن المعنى واحد ، والنهي عن هذا نهي أدب لا نهي تحريم ; لأن العلماء قد أجمعوا أن من تنفس في الإناء ، أو نفخ فيه لم يحرم عليه بذلك طعامه ولا شرابه ، ولكنه مسيء إذا كان بالنهي عالما ، وكان داود بن علي القياسي يقول : إن النهي عن هذا كله وما كان مثله نهي تحريم ، وهو قول أهل الظاهر لا يجوز عند واحد منهم أن يشرب من ثلمة القدح ، ولا أن يتنفس في الإناء ، ومن فعل شيئا من ذلك كان عاصيا لله عندهم إذا كان بالنهي عالما ، ولم يحرم عليه طعامه .

واختلف العلماء في المعنى الذي من أجله ورد النهي عن التنفس في الإناء ، فقال قوم : إنما ذلك لأن الشرب في نفس واحد غير محمود عند أهل الطب ، وربما آذى الكبد ، وقالوا : الكبد من العب ، فكره ذلك لذلك ، كما كره الاغتسال بالماء المسخن بالشمس لأنه قيل : يورث البرص .

قال أبو عمر : ما أظن هذا صحيحا من قولهم أنه يورث البرص ، وفي قوله - صلى الله عليه - هو أهنأ وأمرأ وأبرأ ، حجة لهذا القول .

وقال آخرون : إنما نهي عن التنفس في الإناء ليزيل الشارب القدح عن فيه ; لأنه إذا أزاله عن فيه صار مستأنفا للشرب ، ومن سنة الشراب أن يبتديه المرء بذكر الله ، فمتى أزال القدح عن فيه حمد الله ثم استأنف فسمى الله ، فحصلت له بالذكر حسنات ، فإنما جاء هذا رغبة في الإكثار من ذكر الله على الطعام والشراب .

[ ص: 398 ] قال أبو عمر : وهذا تأويل ضعيف ; لأنه لم يبلغنا أن النبي عليه السلام كان يسمي على طعامه إلا في أوله ، ويحمد الله في آخره ، ولو كان كما قال من ذكرنا قوله لسمى عند كل لقمة وحمد عند كل لقمة ، وهذا لم يرو عنه ولا نعلم أحدا فعله عند كل لقمة من طعامه ، وإن فعله أحد لم أستحسنه له ولم أذمه عليه ، وقد روي حديث بمثل هذا المعنى رواه وكيع ، عن يزيد بن سنان أبي فروة الجزري ، عن ابن لعطاء بن أبي رباح ، عن أبيه ، عن ابن عباس قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لا تشربوا واحدة كشرب البعير ، ولكن اشربوا مثنى وثلاث ، وسموا إذا شربتم ، واحمدوا إذا رفعتم .

وقال آخرون : إنما نهي عن التنفس في الإناء لأدب المجالسة ; لأن المتنفس في الإناء قل ما يخلو أن يكون مع نفسه ريق ولعاب ، ومن سوء الأدب أن يشرب ثم يناول جليسه لعابه ، ألا ترى أنه لو عمد إلى الإناء فشرب منه ثم تفل فيه وناوله جليسه ، أن ذلك مما تقذره النفوس وتكرهه ، وليس من أفعال ذوي العقول ، فكذلك من تنفس في الإناء ; لأنه ربما كان مع تنفسه أكثر من التفل من لعابه ، والله أعلم .

وروى عقيل ، عن ابن شهاب قال : بلغني أن رسول الله - صلى الله عليه - نهى عن النفخ في الطعام والشراب ، قال : ولم أر أحدا كان أشد في ذلك من عمر بن عبد العزيز ، وبالله التوفيق .

فرغ الألف ، وليس في شيوخ مالك أحد ممن له عنه شيء من حديث النبي عليه السلام في موطئه أول اسمه باء ، أو تاء .




الخدمات العلمية