الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
معلومات الكتاب

التمهيد لما في الموطأ من المعاني والأسانيد

ابن عبد البر - أبو عمر يوسف بن عبد الله بن محمد بن عبد البر

صفحة جزء
1812 [ ص: 206 ] حديث ثان وثلاثون لنافع عن ابن عمر

مالك ، عن نافع ، عن ابن عمر ، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : لا يحتلبن أحد ماشية أحد إلا بإذنه ، أيحب أحدكم أن تؤتى مشربته فتكسر خزانته فينتقل طعامه ، فإنما تخزن لهم ضروع مواشيهم أطعماتهم ، فلا يحتلبن أحد ماشية أحد إلا بإذنه .

التالي السابق


في هذا الحديث النهي عن أن يأكل أحد أو يشرب أو يأخذ من مال أخيه شيئا إلا بإذنه ، وذلك عند أهل العلم محمول على ما لا تطيب به نفس صاحبه ; قال - صلى الله عليه وسلم : لا يحل مال امرئ مسلم إلا عن طيب نفس منه . 32 وقال : إن دماءكم وأموالكم وأعراضكم عليكم حرام . يعني من [ ص: 207 ] بعضكم على بعض ، وقد مضى في باب إسحاق طرف من هذا المعنى ، وتفسير قول الله عز وجل ( أو صديقكم ليس عليكم جناح أن تأكلوا جميعا أو أشتاتا ) ونزيد هاهنا بيانا لأخبار عن العلماء ، وتفسير المراد إن شاء الله .

وأما المشربة ، فقال صاحب العين هي الغرفة ، ودليل هذا الحديث يقضي بأن كل ما يختزن فيه الطعام ، فهي مشربة - والله أعلم - والخزانة معروفة ، وأصل الخزن الحفظ والستر والملك . قال امرؤ القيس :


إذا المرء لم يخزن عليه لسانه فليس على شيء سواه بخزان

.

ويروى في هذا الحديث في الموطأ وغيره : " فينتثل طعامه " فمن روى " ينتثل " طعامه ، فمعناه يستخرج طعامه ، وأصل الانتثال الاستخراج ; ومن رواه " ينتقل " ، فالانتقال معروف وهو أبين - والله أعلم . وفي هذا الحديث أيضا من المعاني أن اللبن يسمى طعاما ، وأصل ذلك في اللغة أن كل ما يطعم جائز أن يسمى طعاما . [ ص: 208 ] وقد قال الله تعالى في ماء النهر : ( فمن شرب منه فليس مني ومن لم يطعمه ) الآية قال ابن وهب : سمع مالكا يقول في الرجل يدخل الحائط فيجد الثمر ساقطا ، قال لا يأكل منه إلا أن يكون يعلم أن صاحبه طيب النفس بذلك ، أو يكون محتاجا لذلك ، فأرجو أن لا يكون عليه شيء إن شاء الله . قال : وسمعت مالكا يقول في المسافر ينزل بالذمي ، أنه لا يأخذ من ماله شيئا إلا بإذنه ، وعن طيب نفس منه ، فقيل لمالك أرأيت الضيافة التي جعلت عليهم ثلاثة أيام ؟ قال كان يومئذ يخفف عنهم بذلك .

وروى شعبة ، عن منصور قال : سمعت إبراهيم يحدث ، عن سعيد بن وهب قال : كنت بالشام وكنت أتقي أن آكل من الثمار شيئا ، فقال لي رجل من الأنصار من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم : إن عمر اشترط على أهل الذمة أن يأكل الرجل المسلم يومه غير مفسد ، وقد فرق قوم بين الثمر المعلق وما كان مثله ، وبين سائر الأموال ، فأجازوا أكل الثمار .

أخبرنا خلف بن قاسم قال : أخبرنا عبد الله بن محمد الحصيني ، قال حدثنا بكار بن قتيبة ، قال حدثنا أبو عمر الضرير ، قال حدثنا عبد الواحد بن زياد ، وعبد الله بن المبارك قالا : [ ص: 209 ] أخبرنا عاصم الأحول ، عن أبي زينب ، قال صحبت عبد الرحمن بن سمرة ، وأنس بن مالك ، وأبا برزة في سفر ، فكانوا يصيبون من الثمار ; قال بكار : وحدثنا أبو داود الطيالسي ، قال حدثنا يزيد بن إبراهيم ، قال : سمعت الحسن يقول : يأكل ولا يفسد ، ولا يحمل . وقد يحتمل أن يكون هذا كله في أهل الذمة في ذلك الوقت .

حدثنا أحمد بن عبد الله ، حدثنا مسلمة ، حدثنا محمد بن زيان ، حدثنا أبي ، حدثنا الحارث بن مسكين قال : سمعت أشهب بن عبد العزيز يقول : خرجنا مرابطين إلى الأسكندرية ، فمررنا بجنان الليث بن سعد ، فدخلنا فأكلنا من الثمر ; فلما أن رجعت ، دعتني نفسي إلى أن أستحل من الليث ، فدخلت إليه ، فقلت : يا أبا الحارث إنا خرجنا مرابطين ، ومررنا بجنانك فأكلنا من الثمر ، وأحببنا أن تجعلنا في حل ، فقال لي الليث يا ابن أخي ، لقد نسكت نسكا أعجميا ; أما سمعت الله عز وجل يقول : ( أو صديقكم ليس عليكم جناح أن تأكلوا جميعا أو أشتاتا ) فلا بأس أن يأكل الرجل من مال أخيه الشيء التافه الذي يسره بذلك .

وهذا الحديث يسوي بين اللبن وبين سائر الطعام والمال في التحريم - والله أعلم ; فلا فرق بين المضطر إن شرب اللبن أو غيره من الطعام إذا لم يجد الميتة ، أو وجدها ووجد اللبن أو غيره من سائر مال المسلم أو الذمي ، يستوي فيه المضطر في اللبن [ ص: 210 ] وغيره ، من جميع المأكول كله ، ولا يحل شيء منه إلا على الوجوه التي بها تحل الأملاك ، وللمضطر إلى مال المسلم ماء كان أو طعاما حكم ليس هذا موضع ذكره .

ولا يحل للمضطر أن يأكل الميتة ، وهو يجد مال مسلم لا يخاف فيه قطعا ، كالثمر المعلق وحريسة الجبل ، ونحو ذلك مما لا يخشى فيه قطعا ولا أذى .

وجملة القول : في ذلك أن المسلم إذا تعين عليه رد مهجة المسلم وتوجه الفرض في ذلك إليه بأن لا يكون هناك غيره ، قضي عليه بترميق تلك المهجة الآدمية ، وكان للممنوع ماله من ذلك محاربة من منعه ومقاتلته ، وإن أتى ذلك على نفسه ; وذلك عند أهل العلم إذا لم يكن هناك إلا واحد لا غير ، فحينئذ يتعين عليه الفرض ، فإن كانوا كثيرا أو جماعة وعددا كان ذلك عليهم فرضا على الكفاية ، ظاهرا في ذلك وغيره مما يرد نفس المسلم ويمسكها سواء ، إلا أنهم اختلفوا في وجوب قيمة ذلك الشيء على أن رد به مهجته ، ورمق به نفسه ، فأوجبها موجبون وأباها آخرون ; ولا خلاف بين أهل العلم متأخريهم ومتقدميهم في وجوب رد مهجة المسلم ، عند خوف الذهاب والتلف بالشيء اليسير الذي لا مضرة فيه على صاحبه ، وفيه البلغة ; وهذه المسألة قد جودها إسماعيل بن إسحاق في الأحكام ، وجودها أيضا غيره [ ص: 211 ] ولها موضع من هذا - إن شاء الله نذكرها ونذكر ما فيها من الآثار - عن السلف ، وبالله العون .

حدثنا عبد الوارث بن سفيان ، قال حدثنا قاسم بن أصبغ ، حدثنا بكر بن حماد ، حدثنا مسدد ، حدثنا يحيى ، عن عبيد الله قال حدثني نافع ، عن عبد الله بن عمر قال : نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم ، أن تحلب المواشي بغير إذن أربابها .

أخبرنا أحمد بن عبد الله بن محمد ، قال حدثنا أبي ، قال حدثنا محمد بن فطيس ، قال حدثنا يحيى بن إبراهيم ، قال حدثنا أصبغ بن الفرج ، قال حدثنا سفيان ، عن يحيى بن سعيد ، عن القاسم بن محمد ، قال : سمعت رجلا يسأل ابن عباس قال إن في حجري يتيما ، وإن له إبلا ولي إبل ، أفأقدم إبلي وأمنح منها ؟ فما يحل لي من إبله ؟ فقال ابن عباس : إن كنت ترد نادتها وتلوط حوضها ، وتهنأ جرباها وتسقي عليها ، [ ص: 212 ] فاشرب من لبنها ; فقال القاسم : ما سمعت فتيا بعد آية من كتاب الله ، أو حديث عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أحسن من فتياه هذه ، وروى مالك هذا الحديث ، عن يحيى بن سعيد ، قال سمعت القاسم بن محمد يقول : جاء رجل إلى عبد الله بن عباس فقال : إن لي يتيما ، أفأشرب من لبن إبله ؟ فقال ابن عباس : إن كنت تبغي ضالة إبله ، وتهنأ جرباها ، وتلوط حوضها وتسقيها ، يوم وردها ، فاشرب غير مضر بنسل ، ولا ناهك في الحلب . ولم يذكر قول القاسم .

وفي هذا الحديث أيضا ما يدل على أن من حلب من ضرع الشاة أو البقرة أو الناقة بعد أن يكون في حرز ما يبلغ قيمته ما يجب فيه القطع ، أن عليه القطع ; لأن الحديث قد أفصح بأن الضروع خزائن للطعام ومعلوم أن من فتح خزانة غيره أو كسرها فاستخرج منها من المال الطعام أو غيره ما يبلغ ثلاثة دراهم ; أنه يقطع ، فإذا كان القطع يجب على من سرق الشاة نفسها من مراحها وحرزها ، ولم تكن حريسة جبل ، فاللبن بذلك أولى - والله أعلم - وقد مضى ذكر معاني الحرز عند العلماء في باب ابن شهاب عند ذكر ( سرقة ) رداء صفوان بن أمية ، فلا معنى لإعادة ذلك هاهنا إلا أن الشاة إذا لم تكن في حرز ، فلبنها تبع لها .

[ ص: 213 ] ومن هذا الباب بيع الشاة اللبون بالطعام ، لأن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال في هذا الحديث : فإنما تخزن لهم ضروع مواشيهم أطعماتهم . فجعل اللبن طعاما ; وقد اختلف الفقهاء في بيع الشاة اللبون باللبن ، وبسائر الطعام نقدا ، وإلى أجل ، فذهب مالك وأصحابه : إلى أنه لا بأس بالشاة اللبون باللبن يدا بيد ما لم يكن في ضرعها لبن ، فإذا كان في ضرعها لبن لم يجز يدا بيد باللبن من أجل المزابنة ، ولم يجعله لغوا ; لأن الربا لا يجوز قليله ولا كثيره ، وليس كالغرر الذي يجوز قليله ولا يجوز كثيره ; ولا يجوز عنده بيع الشاة اللبون بالطعام إلى أجل ، فإن كانت الشاة غير لبون جاز في ذلك الأجل وغير الأجل قال مالك : ولا بأس بالشاة اللبون بالطعام إلى أجل ، لأن اللبن من الشاة ، وليس الطعام منها قال : والشاة بالطعام إلى أجل إذا لم تكن شاة لحم جائز ، وإن أريد بها الذبح ، فإن كانت شاة لحم فلا قال : وكذلك السمن إلى أجل بشاة لبون لا يجوز ، وإن لم يكن فيها لبن جاز قال : ويجوز الجميع يدا بيد .

قال أبو عمر : كان القياس أن الشاة إذا لم يكن في ضرعها لبن ، وجاز بيعها باللبن يدا بيد ، وإن كانت لبونا أن يجوز بيعها باللبن إلى أجل إذا لم يكن في ضرعها لبن [ ص: 214 ] في حين عقد التبايع ، وإن كانت اللبون كغير اللبون ، فإن كانت اللبون يراعي أخذها ، وإن لم يكن فيها لبن ويقام مقام اللبن أن تباع باللبن ، وإن لم يكن فيها لبن يدا بيد - والله أعلم - .

وقال الأوزاعي : يجوز شراء زيتونة فيها زيتون بزيتون ، وشاة في ضرعها لبن بلبن ، لأن الزيتون في شجرة ، واللبن في الضرع لغو وقال الشافعي ، وأبو حنيفة ، وأصحابهم : لا يجوز بيع الشاة اللبون بالطعام إلى أجل ، ولا يجوز عند الشافعي بيع شاة في ضرعها لبن بشيء من اللبن لا يدا بيد ، ولا إلى أجل ولكل واحد منهم حجج من طريق النظر ، والاعتبار المطلوب ذكرها ، والأصل في هذا الباب المزابنة فما لا يجوز إلا مثلا بمثل لم يجز أن يباع منه معلوم بمجهول ومن وقع عليه اسم طعام فلا يجوز أن يباع منه شيء بشيء إلى أجل جاز فيه التفاضل أو لم يجز ، لأن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نهى عن الطعام إلا يدا بيد فهذا الأصل في هذا الباب لمن وفق وفهم ، والله المستعان .

وقد روى هذا الحديث ، عن مالك يزيد بن عبد الله بن الهادي شيخه : حدثني أحمد بن فتح ، قال : حدثنا أحمد بن [ ص: 215 ] الحسن الرازي ، قال : حدثنا مقدام بن داود قال : حدثني إسحاق بن بكر بن مضر قال : حدثني أبي ، عن يزيد بن عبد الله بن الهادي ، عن مالك بن أنس ، عن نافع ، عن ابن عمر أنه سمع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول : لا يحلبن أحد ماشية أحد إلا بإذنه أيحب أحدكم أن تؤتى مشربته ؟ . فذكره حرفا بحرف .

وفي هذا الحديث أيضا على ما استدل به أصحابنا وغيرهم ما يرد ما ذهب إليه من قال : إنه جائز للمرتهن الشاة أو البقرة أو الدابة أن يحلب أو يركب ذلك الرهن وتكون عليه نفقة الدابة أو البقرة أو رعيها أو رعي الشاة وممن ذهب إلى هذا أحمد بن حنبل ، وإسحاق بن راهويه وحجتهم حديث الشعبي ، عن أبي هريرة ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - الرهن مركوب ومحلوب وبعض رواته يقول فيه الرهن يركب أو يحلب بقدر نفقته ، وعلى الذي يركب ، ويحلب نفقته ، وهذا الحديث عند جمهور الفقهاء ترده أصول يجتمع عليها ، وآثار ثابتة لا يختلف في صحتها ، وقد أجمعوا أن ليس الرهن وظهره للراهن ، ولا يخلو من أن يكون احتلاب المرتهن له بإذن الراهن أو بغير إذنه ، فإن كان بغير إذنه ففي حديث ابن عمر ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - لا يحتلبن أحد ماشية أحد [ ص: 216 ] إلا بإذنه ما يرده ويقضي بنسخه مع ما ذكرنا من تحريم مال المسلم إلا عن طيب نفس ، وإن كان بإذنه ، ففي الأصول المجتمع عليها في تحريم المجهول ، والغرر ، وبيع ما ليس عندك ، وبيع ما لم يخلق ما يرد ذلك أيضا ، وفيما ذكرنا صحة ما ذهب إليه أصحابنا ، وجمهور الفقهاء في حديث أبي هريرة الرهن يركب ، ويحلب بنفقته أنه منسوخ ، وإن ذلك كان قبل نزول تحريم الربا - والله أعلم - .




الخدمات العلمية