الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
معلومات الكتاب

التمهيد لما في الموطأ من المعاني والأسانيد

ابن عبد البر - أبو عمر يوسف بن عبد الله بن محمد بن عبد البر

صفحة جزء
442 [ ص: 257 ] حديث ثامن وخمسون لنافع ، عن ابن عمر

مالك ، عن نافع أن عبد الله بن عمر كان إذا سئل عن صلاة الخوف قال : يتقدم الإمام بطائفة من الناس ، فيصلي بهم ركعة ، وتكون طائفة منهم بينه وبين العدو لم يصلوا ، فإذا صلى الذين معه ركعة استأخروا مكان الذين لم يصلوا ، ولا يسلمون ، ويتقدم الذين لم يصلوا فيصلون معه ركعة ، ثم ينصرف الإمام ، وقد صلى ركعتين فيقوم كل واحد من الطائفتين فيصلون لأنفسهم ركعة ركعة بعد أن ينصرف الإمام ، فيكون كل واحد من الطائفتين قد صلوا ركعتين ، فإن كان خوفا هو أشد من ذلك صلوا رجالا قياما على أقدامهم ، أو ركبانا مستقبلي القبلة أو غير مستقبليها .

قال مالك : قال نافع : لا أرى ابن عمر حدثه إلا عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - .

التالي السابق


[ ص: 258 ] هكذا روى مالك هذا الحديث ، عن نافع على الشك في رفعه ، ورواه عن نافع جماعة ، ولم يشكوا في رفعه ، وممن رواه كذلك مرفوعا ، عن نافع ، عن ابن عمر ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ابن أبي ذئب ، وموسى بن عقبة ، وأيوب بن موسى ، وكذلك رواه الزهري ، عن سالم ، عن ابن عمر ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - .

وكذلك رواه خالد بن معدان ، عن ابن عمر ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - .

أخبرنا عبد الوارث بن سفيان قال : حدثنا قاسم بن أصبغ ، قال : حدثنا عبيد الله بن عبد الواحد قال : حدثنا محبوب بن موسى ، قال : حدثنا إبراهيم بن محمد الفزاري ، عن موسى بن عقبة ، عن نافع ، عن ابن عمر قال : قام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بطائفة من أصحابه خلفه ، وقامت طائفة بينه وبين العدو ، فصلى بالذين خلفه ركعة وسجدتين ، ثم انطلقوا فقاموا في مقام أولئك ، وجاء الآخرون فصلى بهم ركعة وسجدتين ، ثم سلم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وقد تمت صلاته ، ثم صلت الطائفتان كل واحدة منهما ركعة ركعة .

[ ص: 259 ] أخبرنا عبد الله بن محمد ، قال : حدثنا محمد بن بكر ، قال : حدثنا أبو داود ، وحدثنا عبد الوارث ، قال : حدثنا قاسم بن أصبغ ، قال : حدثنا بكر بن حماد ، قالا : حدثنا مسدد ، قال : حدثنا يزيد بن زريع ، وحدثنا محمد بن إبراهيم ، قال : حدثنا محمد بن معاوية ، قال : حدثنا أحمد بن شعيب ، قال : حدثنا إسماعيل بن مسعود ، عن يزيد بن زريع ، قال : حدثنا معمر ، عن الزهري ، عن سالم ، عن أبيه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - صلى بإحدى الطائفتين ركعة ، والطائفة الأخرى مواجهة العدو ، ثم انصرفوا فقاموا في مقام أولئك ، وجاء أولئك فصلى بهم ركعة أخرى ، ثم سلم عليهم ، ثم قام هؤلاء يقضون ركعتهم ، وقام هؤلاء يقضون ركعتهم .

قال أبو داود : وكذلك روى نافع ، وخالد بن معدان ، عن ابن عمر قال : وكذلك قول مسروق ، ويوسف بن مهران ، عن ابن عباس ، وكذلك روى الحسن ، عن أبي موسى أنه فعله .

ورواه أبو حرة ، عن الحسن ، عن أبي موسى ، عن النبي - عليه السلام - قال : وكذلك رواية أبي سلمة ، عن أبي هريرة ، عن النبي - عليه السلام - .

[ ص: 260 ] قال أبو عمر : وروى أبو العالية الرياحي ، عن أبي موسى مثله ، حدثنا عبد الوارث بن سفيان ، وسعيد بن نصر قالا : حدثنا قاسم بن أصبغ ، قال : حدثنا محمد بن وضاح ، حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة ، قال : حدثنا محمد بن بشر ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، عن أبي العالية الرياحي أن أبا موسى كان بالدار من أصبهان ، وما كان بها يومئذ كبير خوف ، ولكن أحب أن يعلمهم دينهم وسنة نبيهم - صلى الله عليه وسلم - فجعلهم صفين طائفة معها السلاح مقبلة على عدوها ، وطائفة من ورائه ، فصلى بالذين يلونه ركعة ، ثم نكصوا على أدبارهم حتى قاموا يتخللونهم ، وجاء الآخرون حتى قاموا وراءه ، فصلى بهم ركعة أخرى ، ثم سلم ، فقام الذين يلونه والآخرون فصلوا ركعة ركعة ، ثم سلم بعضهم على بعض ، فتمت للإمام ركعتان في جماعة ، وللناس ركعة ، ركعة .

قال أبو عمر : يعني مع الإمام وقضوا ركعة ركعة ، وبحديث ابن عمر هذا المذكور في هذا الباب ، وما كان مثله ، مثل حديث أبي موسى هذا ، وشبهه في صلاة الخوف ، قال جماعة من أهل العلم منهم الأوزاعي : وإليه ذهب أشهب بن عبد العزيز صاحب مالك .

[ ص: 261 ] وأما مالك وسائر أصحابه غير أشهب ، فإنهم كانوا يذهبون في صلاة الخوف إلى حديث سهل بن أبي حثمة ، وهو ما رواه مالك ، عن يحيى بن سعيد ، عن القاسم بن محمد ، عن صالح بن خوات الأنصاري أن سهل بن أبي حثمة حدثه أن صلاة الخوف أن يقوم الإمام ومعه طائفة من أصحابه ، وطائفة مواجهة للعدو ، فيركع الإمام ركعة ، ويسجد بالذين معه ، ثم يقوم ، فإذا استوى قائما وثبت وأتموا لأنفسهم الركعة الباقية ، ثم سلموا وانصرفوا ، والإمام قائم ، وكانوا وجاه العدو ، ثم يقبل الآخرون الذين لم يصلوا فيكبرون وراءه يركع بهم ، ويسجد ، ثم يسلم ، فيقومون ، فيركعون لأنفسهم الركعة الباقية ويسلمون ، وقال ابن القاسم ، وابن وهب وأشهب ، وغيره ، عن مالك أنه سئل فقيل له : أي الحديثين أحب إليك أن يعمل به حديث صالح بن خوات ، أو حديث سهل بن أبي حثمة ؟ فقال : أحب إلي أن يعمل بحديث سهل بن أبي حثمة ، يقومون بعد سلام الإمام فيقضون الركعة التي عليهم ، ثم يسلمون لأنفسهم .

[ ص: 262 ] وقال ابن القاسم : العمل عند مالك في صلاة الخوف على حديث القاسم بن محمد ، عن صالح بن خوات ، قال : وقد كان مالك يقول بحديث يزيد بن رومان ثم رجع إلى هذا .

قال أبو عمر : حديث القاسم ، وحديث يزيد بن رومان كلاهما عن صالح بن خوات إلا أن بينهما فصلا في السلام ففي حديث القاسم أن الإمام يسلم بالطائفة الثانية ، ثم يقومون فيقضون الركعة ، وفي حديث يزيد بن رومان أنه ينتظرهم ويسلم بهم ، وقد تقدم في هذا الباب حديث القاسم من رواية مالك ، عن يحيى بن سعيد ، عن القاسم .

وأما حديث يزيد بن رومان ، فذكره أيضا في الموطإ مالك ، عن يزيد بن رومان ، عن صالح بن خوات عمن صلى مع النبي - صلى الله عليه وسلم - صلاة الخوف يوم ذات الرقاع أن طائفة صلت معه ، وطائفة وجاه العدو فصلى بالذين معه ركعة ، ثم ثبت قائما وأتموا ، لأنفسهم ، ثم جاءت الطائفة الأخرى فصلى بهم ، ثم ثبت جالسا فأتموا لأنفسهم ، ثم سلم بهم وبهذا الحديث ، قال الشافعي وإليه ذهب ، قال الشافعي : حديث صالح

[ ص: 263 ] بن خوات
هذا أشبه الأحاديث في صلاة الخوف بظاهر كتاب الله - عز وجل - وبه أقول ، ومن حجته أن الله - عز وجل - ذكر استفتاح الإمام ببعضهم لقوله : ( فلتقم طائفة منهم معك ) ، ثم قال : ( فإذا سجدوا فليكونوا من ورائكم ) ، وذكر انصراف الطائفتين ، والإمام من الصلاة معا بقوله : ( فإذا قضيتم الصلاة ) وذلك للجميع لا للبعض ، ولم يذكر أن على واحد منهم قضاء ، وفي الآية أيضا دليل على أن الطائفة الثانية لا تدخل في الصلاة إلا بعد انصراف الطائفة الأولى بقوله : ( ولتأت طائفة أخرى لم يصلوا فليصلوا ) ، وهو خلاف ظاهر حديث أبي عياش الزرقي ، وما كان مثله في صلاة الخوف ، وفي قوله : ( فليصلوا معك ) دليل على أن الطائفة الثانية تنصرف ، ولم يبق عليها من الصلاة شيء تفعله بعد الإمام ، بهذا كله نزع بعض من يحتج للشافعي لأخذه بحديث يزيد بن رومان لما فيه من انتظار الإمام الطائفة الثانية حتى يسلم بهم ، ومن حجة مالك في اختياره حديث القاسم بن محمد في سلام الإمام قبل الطائفة الثانية ، وقضائها الركعة الثانية بعد سلامه القياس على سائر الصلوات في أن الإمام ليس له أن ينتظر أحدا [ ص: 264 ] سبقه بشيء ، وأن السنة المجتمع عليها أن يقضي المأمومون ما سبقوا به بعد سلام الإمام .

وقول أبي ثور في ذلك كقول مالك بحديث سهل بن أبي حثمة في رواية القاسم ، عن صالح بن خوات ، قال : يسلم الإمام ، ثم تقوم الطائفة الأخرى فتقضي ركعتها ، ولم يختلف مالك ، والشافعي ، وأبو ثور أن الإمام إذا قرأ في الركعة الثانية بأم القرآن وسورة قبل أن تأتي الطائفة الأخرى ، ثم أتته فركع بها حين دخلت معه قبل أن يقرءوا شيئا أنه يجزيهم إلا أن الشافعي قال : إذا أدركوا معه ما يمكنهم فيه قراءة أم القرآن ، فلا يجزيهم إلا أن يقرءوها ، وقول أحمد بن حنبل في صلاة الخوف كقول الشافعي سواء على حديث يزيد بن رومان هو المختار عند أحمد ، وكان لا يعيب من فعل شيئا من الأوجه المروية في صلاة الخوف .

قال الأثرم : قلت لأحمد بن حنبل صلاة الخوف يقول فيها بالأحاديث كلها كل حديث في موضعه واحدا منها ، فقال : أنا أقول من ذهب إلى واحد منها ، أو ذهب إليها كلها فحسن .

[ ص: 265 ] وأما حديث سهل بن أبي حثمة ، فأنا أختاره ، لأنه أنكأ للعدو قلت له : حديث سهل بن أبي حثمة تستعمله مستقبلي القبلة كان العدو ، أو مستدبريها ، قال : نعم هو أنكأ فيهم ، لأنه يصلي بطائفة ، ثم بطائفة أخرى ، ثم يذهبون ، واختار داود ، وطائفة من أصحابه حديث سهل بن أبي حثمة أيضا في صلاة الخوف ، وكان عبد الرحمن بن مهدي ، ويحيى بن يحيى النيسابوري يختارون في صلاة الخوف حديث سهل بن أبي حثمة .

رواه شعبة ، عن عبد الرحمن بن القاسم ، عن أبيه ، عن صالح بن خوات ، عن سهل بن أبي حثمة ، عن النبي - عليه السلام - مثل حديث مالك ، عن يزيد بن رومان ، عن صالح بن خوات سواء حرفا بحرف كذلك رواه معاذ بن معاذ العنبري ، عن شعبة ، وأما أبو حنيفة ، وأصحابه إلا أبا يوسف ، فإنهم ذهبوا إلى ما رواه الثوري ، وشريك ، وزائدة ، وابن فضيل ، عن خصيف ، عن أبي عبيدة بن عبد الله بن مسعود ، عن أبيه ، قال : صلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - صلاة الخوف بطائفة ، وطائفة مستقبلي العدو فصلى بالذين وراءه ركعة وسجدتين ، وانصرفوا [ ص: 266 ] ، ولم يسلموا فوقفوا بإزاء العدو ، ثم جاء الآخرون فقاموا مقامهم ، فصلى بهم ركعة ، ثم سلم فقام هؤلاء فصلوا لأنفسهم ركعة ، ثم سلموا ، وذهبوا فقاموا مقام أولئك مستقبلي العدو ورجع أولئك إلى مراتبهم فصلوا لأنفسهم ركعة ، ثم سلموا .

وروى أبو الأسود ، عن عروة بن الزبير ، عن مروان ، عن أبي هريرة ، قال : صليت مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عام نجد صلاة الخوف ، قال : فقامت طائفة معه ، وطائفة أخرى مقابل العدو وظهورهم إلى القبلة ، فذكر مثل حديث ابن مسعود سواء إلا أنه ليس في حديث ابن مسعود : وظهورهم إلى القبلة ، ولا ما يخالف ذلك فالمعنى - عندي - في حديث ابن مسعود ، وحديث أبي هريرة ، وحديث ابن عمر المذكور في هذا الباب واحد في أن الطائفتين كلتيهما لا تقضي كل واحدة منهما ركعتها إلا بعد سلام الإمام ، وكان الثوري مرة يقول بحديث ابن مسعود كقول أبي بحديثه ، عن منصور ، عن مجاهد ، عن أبي عياش الزرقي ، قال : كنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعسفان ، وعلى المشركين خالد بن الوليد ، فذكر الحديث ، وفيه : والعدو بينهم وبين القبلة ، قال : فأمرهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأخذوا السلاح ، [ ص: 267 ] ثم قاموا خلفه صفين صف بعد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وكبروا جميعا ، ثم ركع وركعوا جميعا ، ثم رفع ورفعوا جميعا ، ثم سجد وسجد الذين يلونه والآخرون قيام يحرسونهم ، فلما سجدوا سجدتين قاموا وسجد الآخرون الذين كانوا خلفهم ، ثم تأخر الذين سجدوا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى مقام الذين كانوا يحرسونهم ، وتقدم الآخرون فقاموا في مقامهم ، ثم ركع النبي - صلى الله عليه وسلم - وركعوا ، ثم رفع فرفعوا جميعا ، ثم سجد وسجد الذين يلونه في الصف الذي يليه ، والآخرون قيام يحرسونهم ، فلما رفع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - رأسه من سجوده ، وجلس سجد الآخرون ، ثم جلسوا جميعا ، ثم سلم عليهم ، قال : فصلاها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مرة بأرض بني سليم .

قال سفيان : وحدثنا أبو الزبير ، عن جابر أن النبي - صلى الله عليه وسلم - صلاها بنخلة مثل ذلك .

قال أبو عمر : رواه أيوب ، وجماعة ، عن أبي الزبير ، عن جابر كما رواه الثوري ، وكذلك رواه عبد الملك بن أبي سليمان ، عن عطاء ، عن جابر ، وكذلك رواه داود بن [ ص: 268 ] حصين ، عن عكرمة ، عن ابن عباس ، وكذلك رواه قتادة ، عن الحسن ، عن حطان الرقاشي ، عن أبي موسى مثله ، ومن مرسل مجاهد ، وعروة مثله ، وإلى هذا الوجه في صلاة الخوف ذهب ابن أبي ليلى ، قال الثوري : وبلغنا أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - صلى بذي قرد فصف خلفه صفا وقام صف بإزاء العدو ، فصلى بالذين خلفه ركعة ، ثم انصرفوا ، فقاموا مقام أصحابه وجاء الآخرون فصلى بهم ركعة ، ثم سلم عليهم فكانت للنبي - عليه السلام - ركعتان ، ولكل صف ركعة ، قال سفيان : قد جاء هذا ، وهذا ، وأي ذلك فعلت رجوت أن يجزئ .

قال أبو عمر : فخير الثوري في صلاة الخوف على ثلاثة أوجه : أحدها حديث ابن مسعود الذي ذهب إليه أبو حنيفة ، والثاني حديث أبي عياش الزرقي ، وإليه ذهب ابن أبي ليلى جملة ، وذهب إليه أبو حنيفة ، وأصحابه إذا كان العدو في القبلة ، والثالث الوجه الذي بلغه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - صلى صلاة بذي قرد ، وهو وإن كان أرسله في جامعه ، فإنه محفوظ من حديثه ، عن الأشعث بن سليم ، عن الأسود بن هلال ، عن ثعلبة بن زهدم أنهم كانوا مع سعيد بن العاص بطبرستان فسأل سعيد حذيفة عن صلاة الخوف ، فقال حذيفة : [ ص: 269 ] شهدت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - صلاها بهؤلاء ركعة وبهؤلاء ركعة ، ولم يقضوا .

وروى الثوري أيضا ، عن أبي بكر بن أبي الجهم ، عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة ، عن عبد الله بن عباس مثل حديث حذيفة ، وذكر أن ذلك كان بذي قرد فبلاغ الثوري قد بان أنه مسند عنده صحيح ، ورواه مجاهد ، عن ابن عباس .

وروى سماك الحنفي ، عن ابن عمر مثله ، والقاسم بن حيان ، عن زيد بن ثابت ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - مثله إلا أن بعض رواة حديث يزيد الفقير ، قال فيه إنهم قضوا ركعة ، وقال أحمد بن حنبل : لا أعلم أنه روي في صلاة الخوف إلا حديث ثابت هي كلها ثابتة فعلى أي حديث صلى المصلي صلاة الخوف أجزأه - إن شاء الله - . وكذلك قال الطبري .

قال أبو عمر : في صلاة الخوف ، عن النبي - عليه السلام - وجوه كثيرة منها حديث ابن عمر المذكور في أول هذا الباب ، وما كان مثله على حسبما تقدم في هذا الباب ذكره ، ومن القائلين به من أئمة فقهاء الأمصار الأوزاعي وإليه ذهب أشهب صاحب مالك ، ووجه ثان ، وهو حديث صالح بن خوات من رواية [ ص: 270 ] مالك ، عن يحيى بن سعيد ، عن القاسم بن محمد ، عن صالح بن خوات ، ومن روايته أيضا ، عن يزيد بن رومان ، عن صالح بن خوات على حسبما بينهما من الاختلاف في انتظار الإمام الطائفة الأخرى بالسلام ، ومن القائلين بذلك مالك ، والشافعي ، وأبو ثور على اختلاف ما بينهم في السلام على حسبما وصفناه ، ووجه ثالث ، وهو حديث ابن مسعود على ما تقدم ذكره في هذا الباب من القائلين به أبو حنيفة ، وأصحابه إلا أبا يوسف ، وهو أحد الوجوه التي خير الثوري فيها ، وبه قال بعض أصحاب داود أيضا ، ووجه رابع ، وهو حديث أبي عياش الزرقي ، وما كان مثله على حسبما ذكرناه في هذا الباب ، ومن القائلين به ابن أبي ليلى ، والثوري أيضا في تخيره ، وقد قالت به طائفة من الفقهاء إذا كان العدو في القبلة .

ووجه خامس ، وهو حديث حذيفة ، وما كان مثله على ما قد مضى في هذا الباب ذكره ، وهو أحد الأوجه الثلاثة التي خير الثوري - رحمه الله - في العمل بها في صلاة الخوف ، ومن حجة من قال : بهذا الوجه ما رواه بكير بن الأخنس ، عن مجاهد ، عن ابن عباس ، قال : فرض الله - عز وجل - الصلاة على لسان نبيكم - صلى الله عليه وسلم - في الحضر أربعا ، وفي السفر ركعتين ، وفي الخوف ركعة ، وزعم [ ص: 271 ] بعض من قال هذا الوجه من الفقهاء أن للقصر في الخوف خصوصا ليس في غير الخوف لقول الله - عز وجل - : ( إن خفتم أن يفتنكم الذين كفروا ) ، قال : فينبغي أن تكون الصلاة في السفر بشرط الخوف خلاف الصلاة في السفر في حال الأمن ، وذكروا عن جماعة من الصحابة منهم ابن عباس ، وزيد بن ثابت ، وجابر بن عبد الله أنهم قالوا : الصلاة في الحضر أربع ، وفي السفر ركعتان ، وفي الخوف ركعة قالوا : ولو كان القصر في حال الأمن وحال الخوف سواء ما كان لقوله : ( إن خفتم ) معنى ، وقد جل الله - عز وجل - عن ذلك .

قال أبو عمر : هذا القول خلاف ما عليه جمهور الفقهاء ، وقد يجوز في حكم لسان العرب أن يكون المسكوت عنه في معنى المذكور كما يجوز أن يكون بخلافه ، وقد بينا ذلك في مواضع - والحمد لله - .

ومما يدل على أن صلاة السفر في الخوف ، وفي الأمن سواء حديث ابن عمر حين قال له : رجل من آل خالد بن أسد يا أبا عبد الرحمن ، إنا نجد صلاة الحضر وصلاة الخوف [ ص: 272 ] في القرآن ولا نجد صلاة السفر يعني في حال الأمن ، فقال : يا ابن أخي ، إن الله بعث إلينا محمدا - صلى الله عليه وسلم - ونحن لا نعلم شيئا ، فإنما نفعل كما رأيناه يفعل ، أي رأيناه يفعل في حال الخوف ، وحال الأمن في السفر فعلا واحدا ، فنحن نفعل كما كان - صلى الله عليه وسلم - يفعل ، وفي ذلك ما يدل على أن مراد الله - عز وجل - في ذلك من عباده واحد ببيان السنة في ذلك كما صار قتل الصيد خطأ بالسنة يجب فيه من الجزاء كما يجب على من قتله عمدا مع قول الله - عز وجل - : ( ومن قتله منكم متعمدا ) .

وقد عجب عمر بن الخطاب ، ويعلى بن أمية من هذا المعنى أيضا حين قال يعلى لعمر : يا أمير المؤمنين ، ما بالنا نقصر الصلاة ، وقد أمنا ، والله - عز وجل - يقول : ( إن خفتم ) فقال : عجبت مما عجبت منه فسألت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن ذلك فقال : تلك صدقة تصدق الله بها عليكم ، فاقبلوا صدقته . وهذا أيضا بين في أن صلاة السفر في الأمن ، وفي الخوف سواء وبذلك جرى العمل والفتوى في أمصار المسلمين عند جمهور الفقهاء ، وقد يحتمل [ ص: 273 ] أن تكون رواية من روى أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - صلى بهم ركعة ، ولم يقضوا ، أي في علم من روى ذلك لأنه قد روى غيره أنهم قضوا ركعة في تلك الصلاة بعينها ، وشهادة من زاد أولى ، ويحتمل أن يكون أراد بقوله : لم يقضوا ، أي لم يقضوا إذ أمنوا وتكون فائدته أن الخائف إذا أمن لا يقضي ما صلى على تلك الهيئة من الصلوات في الخوف ، وقد يحتمل قوله : صلوا في الخوف ركعة ، أي في جماعة مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وسكت عن الثانية ، لأنهم صلوها أفذاذا .



وحديث ابن عباس انفرد به بكير بن الأخنس ، وليس بحجة فيما ينفرد به والصلاة أولى ما احتيط فيه ، ومن صلى ركعتين في خوفه وسفره خرج من الاختلاف إلى اليقين .

ووجه سادس ، وهو حديث أبي بكرة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - صلى بهم في صلاة الخوف ركعتين بطائفة وركعتين بطائفة فكانت للنبي - عليه السلام - أربع ، ولكل طائفة ركعتان . رواه الأشعث ، وغيره ، عن الحسن ، عن أبي بكرة : حدثنا عبد الله بن محمد ، قال : حدثنا محمد بن بكر ، قال : حدثنا أبو داود [ ص: 274 ] قال : حدثنا عبيد الله بن معاذ بن معاذ ، قال : حدثنا أبي ، حدثنا الأشعث ، عن الحسن ، عن أبي بكرة ، قال : صلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الظهر في خوف فصف بعضهم خلفه ، وبعضهم بإزاء العدو ، فصلى ركعتين ، ثم سلم ، فانطلق الذين صلوا فوقفوا موقف أصحابهم ، ثم جاء أولئك فصفوا خلفه فصلى بهم ركعتين ، ثم سلم فكانت لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - أربع ، ولأصحابه ركعتان ركعتان وبذلك كان يفتي الحسن .

وروى يحيى بن أبي كثير ، عن أبي سلمة ، عن جابر ، حدثنا سعيد بن نصر ، حدثنا قاسم بن أصبغ ، حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة ، قال : حدثنا عفان قال : حدثنا أبان بن يزيد ، قال : حدثني يحيى بن أبي كثير ، عن أبي سلمة بن عبد الرحمن ، عن جابر ، قال : أقبلنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حتى إذا كنا بذات الرقاع ، فذكر الحديث ، وفيه قال : فنودي بالصلاة ، قال : فصلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بطائفة ركعتين ، ثم تأخروا ، وصلى بالطائفة الأخرى [ ص: 275 ] ركعتين ، قال : فكانت لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - أربع ركعات وللقوم ركعتين .

قال أبو عمر : كل من أجاز اختلاف نية الإمام ، والمأموم في الصلاة ، وأجاز لمن صلى في بيته أن يؤم في تلك الصلاة غيره ، وأجاز أن تصلى الفريضة خلف المتنفل يجيز هذا الوجه في صلاة الخوف ، وهو مذهب الأوزاعي ، والشافعي ، وابن علية ، وأحمد بن حنبل ، وداود ، وصلاة الخوف إنما على أخف ما يمكن وأحوطه للمسلمين ، ولا وجه لقول من قال : إن حديث أبي بكرة ، وما كان في الحضر ، لأن فيه سلامه في كل ركعتين منها ، وغير محفوظ عن النبي - عليه السلام - أنه صلى صلاة الخوف في الحضر ، وقد حكى المزني ، عن الشافعي ، قال : ولو صلى في الخوف بطائفة ركعتين ، ثم سلم فصلى بالطائفة الأخرى ركعتين ، ثم سلم كان جائزا ، قال : وهكذا صلى النبي - صلى الله عليه وسلم - ببطن نخلة .

قال أبو عمر : قد روي أن صلاته هكذا كانت يوم ذات الرقاع ، ويحتمل أن يكون صلاها مرتين على الهيئتين هناك .

[ ص: 276 ] فهذه سبعة أوجه كلها ثابتة من جهة النقل قد قال بكل وجه منها طائفة من أهل العلم .

وقال أحمد بن حنبل ، والطبري ، وبعض أصحاب الشافعي بجواز كل وجه منها ، والوجه المختار في هذا الباب على أنه لا يخرج - عندي - من صلى لغيره مما قد ثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - هذا الوجه المذكور في حديث ابن عمر حديث هذا الباب ، وما كان مثله ، لأنه ورد بنقل أئمة أهل المدينة وهم الحجة على من خالفهم ولأنه أشبه بالأصول ، لأن الطائفة الأولى والثانية لم يقضوا الركعة إلا بعد خروج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من الصلاة ، وهو المعروف من السنة المجتمع عليها في سائر الصلوات ، وأما صلاة الطائفة الأولى ركعتها قبل أن يصليها إمامها ، فهو مخالف للسنة المجتمع عليها في سائر الصلوات ومخالف لقوله : - صلى الله عليه وسلم - إنما جعل الإمام ليؤتم به ، وقد روى الثقات حديث صالح بن خوات ، عن سهل بن أبي حثمة على مثل معنى حديث ابن عمر فصار حديث سهل مختلفا فيه ، ولم يختلف في حديث ابن عمر إلا ما جاء من شك مالك - رحمه الله - في رفعه ، وقد رفعه من [ ص: 277 ] شك جماعة ، عن نافع ، ورفعه الزهري ، عن سالم ، والشك لا يلتفت إليه واليقين معمول عليه .

أخبرنا عبد الله بن محمد ، قال : حدثنا ابن السكن ، حدثنا محمد ، حدثنا البخاري ، حدثنا أبو اليمان ، أخبرنا شعيب ، عن الزهري أنه سأله هل صلى النبي - صلى الله عليه وسلم - صلاة الخوف ؟ فقال : أخبرنا سالم أن عبد الله بن عمر قال : غزوت مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قبل نجد فوازينا العدو ، فصففنا لهم ، فقام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يصلي لنا فقامت طائفة معه ، وأقبلت طائفة على العدو فركع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بمن معه ركعة وسجد سجدتين ، ثم انصرفوا مكان الطائفة التي لم تصل ، فجاءوا فركع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بهم ركعة وسجد سجدتين ، ثم سلم ، فقام كل واحد منهم فركع لنفسه ركعة وسجد سجدتين .

وأما الرواية التي جاءت في حديث سهل بن أبي حثمة بنحو حديث ابن عمر فحدثنا محمد بن إبراهيم ، قال : حدثنا [ ص: 278 ] محمد بن معاوية ، قال : حدثنا أحمد بن شعيب ، قال : أخبرنا عمرو بن علي ، قال : حدثنا يحيى يعني القطان قال : حدثنا شعبة ، عن عبد الرحمن بن القاسم ، عن أبيه ، عن صالح بن خوات ، عن سهل بن أبي حثمة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - صلى بهم صلاة الخوف فصف صفا خلفه وصفا مصافي العدو فصلى بهم ركعة ، ثم ذهب هؤلاء وجاء أولئك فصلى بهم ركعة ، ثم قاموا فقضوا ركعة ركعة .

فإن قيل إن يحيى القطان قد خولف عن شعبة في ذلك فالجواب أن الذي خالفه لا يقاس به حفظا ، وإتقانا ، وإمامة في الحديث .

وما اخترناه في هذا الباب ، فهو اختيار أشهب وإليه ذهب الأوزاعي ، وقال به بعض أصحاب داود ، والحجة في اختيارنا هذا الوجه من بين سائر الوجوه المروية في صلاة الخوف أنه أصحها إسنادا وأشبهها بالأصول المجتمع عليها ، وفي صلاة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في الخوف بأصحابه ركعة ركعة ، وأتمت كل طائفة لنفسها دليل على أن حديث جابر في قصة معاذ وصلاته بقومه بعد صلاته مع النبي - صلى الله عليه وسلم - [ ص: 279 ] تلك الصلاة منسوخ ، لأنه لو جاز أن تصلى الفريضة خلف المتنفل لصلى بهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ركعتين ركعتين - والله أعلم - .

قد احتج بهذا أبو الفرج ، وغيره من أصحابنا ، ومن الكوفيين أيضا إلا أنه يعترض عليهم حديث أبي بكرة وحديث جابر ، وفي ذلك نظر ، وبالله التوفيق .

وقالت طائفة من أهل العلم منهم أبو يوسف ، وابن علية : لا تصلى صلاة الخوف بعد النبي - صلى الله عليه وسلم - بإمام واحد ، وإنما تصلى بإمامين يصلي كل إمام بطائفة ركعتين ، واحتجوا بقول الله - عز وجل - : ( وإذا كنت فيهم فأقمت لهم الصلاة فلتقم طائفة منهم معك ) الآية قالوا : فإذا لم يكن فيهم النبي - عليه السلام - لم يكن ذلك لهم ، لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - ليس كغيره في ذلك ولم يكن من أصحابه من يؤثر بنصيبه منه غيره ، وكلهم كان يحب أن يأتم خلفه وليس أحد بعده يقوم في الفضل مقامه ، والناس بعده تستوي أحوالهم ، أو تتقارب فلذلك يصلي الإمام بفريق [ ص: 280 ] منهم ، ويأمر من يصلي بالفريق الآخر ، وليس بالناس اليوم حاجة إلى صلاة الخوف إذا كان لهم سبيل أن يصلوا فوجا فوجا ، ولا يدعوا فرض القبلة ، ولهم إليها سبيل .

قال أبو عمر : هذه جملة ما احتج به القائلون بأن لا تصلى صلاة الخوف بإمام واحد لطائفتين بعد النبي - صلى الله عليه وسلم - ومن الحجة عليهم لسائر العلماء أنه لما كان قول الله - عز وجل - : ( خذ من أموالهم صدقة ) لا يوجب الاقتصار على النبي - صلى الله عليه وسلم - وحده ، وأن من بعده يقوم في ذلك مقامه فكذلك قوله : ( وإذا كنت فيهم فأقمت لهم الصلاة ) سواء ، ألا ترى أن أبا بكر الصديق في جماعة الصحابة قاتلوا من تأول في الزكاة مثل تأويل هؤلاء في صلاة الخوف .

قال أبو عمر : ليس في أخذ الزكاة التي قد استوى فيها النبي - صلى الله عليه وسلم - ومن بعده من الخلفاء ما يشبه صلاة من صلى خلف النبي - صلى الله عليه وسلم - وصلى غيره خلف غيره ، لأن أخذ الزكاة فائدتها توصيلها للمساكين وليس في هذا فضل للمعطى كما في الصلاة فضل للمصلى خلفه .

[ ص: 281 ] وأما مراعاة القبلة للخائف في الصلاة فساقطة عنه عند أهل المدينة ، والشافعي إذا اشتد خوفه كما يسقط عند النزول إلى الأرض لقول الله - عز وجل - : ( فإن خفتم فرجالا أو ركبانا ) .

قال أبو عمر : مستقبلي القبلة ، وغير مستقبليها ، وهذا لا يجوز لمصلي الفرض في غير الخوف ، ومن الدليل على أن ما خوطب به النبي - صلى الله عليه وسلم - دخلت فيه أمته إلا أن يتبين خصوص في ذلك قول الله - عز وجل - : ( فلما قضى زيد منها وطرا زوجناكها لكي لا يكون على المؤمنين حرج في أزواج أدعيائهم ) الآية ، ومثل ذلك قول الله - عز وجل - : ( وإذا رأيت الذين يخوضون في آياتنا فأعرض عنهم ) هو المخاطب به وأمته داخلة في حكمه ، ومثل هذا كثير ، وبالله التوفيق .

وأما قول ابن عمر في حديثه هذا فإن كان خوفا هو أشد من ذلك صلوا رجالا قياسا على أقدامهم ، أو ركبانا مستقبلي القبلة ، وغير مستقبليها فإليه ذهب مالك ، والشافعي ، وأصحابهما ، وجماعة غيرهم ، قال مالك : والشافعي : يصلي المسافر [ ص: 282 ] ، والخائف على قدر طاقته مستقبل القبلة ومستدبرها ، وبذلك قال أهل الظاهر ، وقال ابن أبي ليلى ، وأبو حنيفة ، وأصحابه : لا يصلي الخائف إلا إلى القبلة ، ولا يصلي أحد في حال المسايفة .

وقول الثوري نحو قول مالك ، ومن قول مالك والثوري أنه إن لم يقدر على الركوع ، والسجود ، فإنه يصلي قائما ويومئ .

قال الثوري : إذا كنت خائفا فكنت راكبا ، أو قائما أومأت إيماء حيث كان وجهك ركعتين تجعل السجود أخفض من الركوع ، وذلك عند السلة ، والسلة المسايفة .

وقال الأوزاعي : إذا كان القوم مواجهي العدو وصلى بهم إمامهم صلاة الخوف ، فإن شغلهم القتال صلوا فرادى ، فإن اشتد القتال صلوا رجالا ، وركبانا إيماء حيث كانت وجوههم ، فإن لم يقدروا تركوا الصلاة حتى يأمنوا ، وقال الشافعي : لا بأس أن يضرب في الصلاة الضربة ويطعن الطعنة ، وإن تابع الضرب ، أو الطعن أو عمل عملا بطلت صلاته .

واستحب الشافعي أن يأخذ المصلي سلاحه في الصلاة ما لم يكن نجسا ، أو يمنعه من الصلاة ، أو يؤذي أحدا ، قال : ولا يأخذ الرمح إلا أن يكون في حاشية الناس .

وأكثر أهل [ ص: 283 ] العلم يستحبون للمصلي أخذ سلاحه إذا صلى في الخوف ويحملون قوله : ( وخذوا حذركم ) على الندب ، لأنه شيء لولا الخوف لم يجب أخذه فكان الأمر به ندبا .

وقال أهل الظاهر : أخذ السلاح في صلاة الخوف واجب لأمر الله به إلا لمن كان به أذى من مطر ، أو مرض ، فإن كان ذلك جاز له وضع سلاحه .

قال أبو عمر : الحال التي يجوز فيها للخائف أن يصلي راكبا وراجلا مستقبل القبلة ، وغير مستقبلها هي حال شدة الخوف ، والحال الأولى التي وردت الآثار فيها هذه الحال وأحسن الناس صفة للحالين جميعا من الفقهاء الشافعي - رحمه الله - ونحن نذكر هنا قوله في ذلك لنبين به المراد من الحديث ، وبالله التوفيق .

قال الشافعي : لا يجوز لأحد أن يصلي صلاة الخوف إلا بأن يعاين عدوا قريبا غير مأمون أن يحمل عليه من موضع يراه ، أو يأتيه من يصدقه بمثل ذلك من قرب العدو منه ومسيرهم جادين إليه ، فإن لم يكن واحدا من هذين المعنيين ، فلا يجوز له أن يصلي صلاة الخوف ، فإن صلوا بالخبر صلاة الخوف ، ثم ذهب لم يعيدوا .

[ ص: 284 ] وقال أبو حنيفة : يعيدون ، وقال الشافعي : إن كان بينهم وبين العدو حائل يأمنون وصول العدو إليهم لم يصلوا صلاة الخوف ، وإن كانوا لا يأمنونهم صلوا ، وقال الشافعي : الخوف الذي يجوز فيه الصلاة رجالا وركبانا إطلال العدو عليهم فيتراءون صفا والمسلمون في غير حصن حتى تنالهم السلاح من الرمي ، وأكثر من أن يقرب العدو فيه منهم من الطعن والضرب ، فإذا كان هكذا والعدو من وجه واحد أو محيطون بالمسلمين ، والمسلمون كثير والعدو قليل تستقل كل طائفة وليها العدو بالكر ، وحتى تكون من بين الطوائف التي تليها يليها العدو في غير شدة خوف منهم صلى الذين لا يلونهم صلاة غير شدة الخوف لا يجزئ غير ذلك ولغير الشافعي قريب من هذا المعنى في الوجهين جميعا .

وقال مالك : إن صلى آمنا ركعة ، ثم خاف ركب وبنى ، وكذلك إن صلى ركعة راكبا ، وهو خائف ، ثم أمن نزل وبنى ، وهو أحد قولي الشافعي ، وبه قال المزني .

وقال أبو حنيفة : إذا افتتح الصلاة آمنا ، ثم خاف استقبل ، ولم يبن فإن صلى خائفا ، ثم أمن بنى .

[ ص: 285 ] وقال الشافعي : يبني النازل ولا يبني الراكب ، وقال أبو يوسف : لا يبني في شيء من هذا كله .

وللفقهاء اختلاف فيمن ظن العدو ، أو رآه فصلى صلاة خائف ، ثم انكشف له أنه لم يكن عدو في الخوف من السباع ، وغيرها ، وفي الصلاة في حين المسايفة ، وفي أخذ السلاح في الحرب مسائل كثيرة من فرع صلاة الخوف لا يجمل بي إيرادها لخروجنا بذلك عن تأليفنا ، وفيما ذكرنا من الأصول التي في معنى الحديث ما يستدل به على كثير من الفروع ، وللفروع كتب غير هذه وبالله العصمة ، والتوفيق .

أخبرنا أحمد بن محمد ، قال : حدثنا أحمد بن الفضل ، قال : حدثنا محمد بن جرير ، قال : حدثنا محمد بن عبد الرحمن الرقي ، قال : حدثنا عمرو بن أبي سلمة ، قال : حدثنا الأوزاعي ، قال : حدثني سابق البربري ، قال : كنت مع مكحول بدانق ، قال : فكتب إلى الحسن يسأله عن الرجل يطلب عدوه ، فلم يبرح حتى جاء كتابه فقرأت كتاب الحسن : إن كان هو [ ص: 286 ] الطالب نزل فصلى على الأرض ، وإن كان هو المطلوب صلى على ظهر ، قال الأوزاعي : فوجدنا الأمر على غير ذلك .

قال شرحبيل بن حسنة لأصحابه : لا تصلوا الصبح إلا على ظهر ، فنزل الأشتر ، فصلى على الأرض فمر به شرحبيل ، فقال : مخالف خالف الله به ، قال : فخرج الأشتر في الفتنة ، وكان الأوزاعي يأخذ بهذا الحديث في طلب العدو .

قال أبو عمر : أكثر العلماء على ما قال الحسن في صلاة الطالب والهارب ، وما أعلم أحدا قال بما جاء عن شرحبيل بن حسنة في هذا الحديث إلا الأوزاعي وحده - والله أعلم - .

والصحيح ما قاله الحسن ، وجماعة الفقهاء ، لأن الطلب تطوع ، والصلاة المكتوبة فرضها أن تصلى بالأرض حيثما أمكن ذلك ولا يصليها راكبا إلا خائف شديد خوفه وليس كذلك حال الطالب - والله أعلم - .




الخدمات العلمية