الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
الفصل الثالث

5435 - عن شقيق ، عن حذيفة - رضي الله عنهما - قال : كنا عند عمر فقال : أيكم يحفظ حديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في الفتنة ؟ فقلت : أنا أحفظ كما قال ، قال : هات ، إنك لجريء ، وكيف قال ؟ قلت : سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول : " فتنة الرجل في أهله وماله ونفسه وولده وجاره ; يكفرها الصيام والصلاة والصدقة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر " ، قال عمر ليس هذا أريد ، إنما أريد التي تموج كموج البحر . قال : قلت : ما لك ولها يا أمير المؤمنين ؟ إن بينك وبينها بابا مغلقا . قال : فيكسر الباب أو يفتح ؟ قال : قلت : لا ; بل يكسر . قال : ذاك أحرى أن لا يغلق أبدا . قال : فقلنا لحذيفة : هل كان عمر يعلم من الباب ؟ قال : نعم كما يعلم أن دون غد ليلة ، إني حدثته حديثا ليس بالأغاليط ، قال : فهبنا أن نسأل حذيفة من الباب ؟ فقلنا لمسروق : سله . فسأله فقال : عمر . متفق عليه .

التالي السابق


الفصل الثالث

5435 - ( عن شقيق ) : وهو ابن أبي سلمة ، أدرك زمن النبي - صلى الله عليه وسلم - ولم يره ولم يسمع منه ، وروى عن خلق من الصحابة ، منهم : عمر بن الخطاب ، وابن مسعود ، وكان خصيصا به من أكابر الصحابة ، وهو كثير الحديث ، ثقة حجة ، مات زمن الحجاج ( عن حذيفة ) أي : ابن اليمان . قال المؤلف : هو صاحب سر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وقد روى عنه عمر وأبو الدرداء وغيرهم من الصحابة والتابعين ، مات بالمدائن بعد قتل عثمان بأربعين ليلة ، وقبره بها ( قال : كنا عند عمر فقال : أيكم يحفظ حديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في الفتنة ؟ فقلت : أنا أحفظ كما قال ) : صفة مصدر محذوف أي : أنا أحفظ مقوله - صلى الله عليه وسلم - حفظا مماثلا لما قال ، ذكر الطيبي - رحمه الله - فأحفظ : متكلم لا تفضيل كما يتوهم ، ( قال : هات ) : بكسر التاء ، أي : أعطني ، على ما في القاموس ، ( إنك لجريء ) : فعيل من الجراءة وهي الإقدام على الشيء ، ومعناه : إنك غير هائب ، قد تجاسرت على ما لا أعرفه ، ولا يعرفه أصحابك ، واعيت أنك عرفت صريح القول ; ومن ثم قال : هات ( وكيف : قال ) أي : النبي - صلى الله عليه وسلم .

قال الطيبي - رحمه الله تعالى : هو عطف على هات ، أي : هات ما قال ، وبين كيفيته اهـ . وقد يقال : إن الظاهر بالنظر إلى حال حذيفة ، وما كان معلوما عندهم من أنه صاحب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فيما يقع من الفتن أن [ ص: 3426 ] يكون المعنى إنك لجراءتك وكثرة مساءلتك أخذت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ما لم نأخذ منه ، فهات وبين . ( قلت : سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول : " فتنة الرجل في أهله " ) أي : عياله ، من امرأته وجاريته أو أقاربه ، ( " وماله ونفسه وولده وجاره " ) أي : وأمثال ذلك ، والمعنى أن الرجل يبتلى ويمتحن في هذه الأشياء ، ويسأل عن حقوقها ، وقد يحصل له ذنوب من تقصيره فيها ، فينبغي أن يكفرها بالحسنات ; لقوله تعالى : إن الحسنات يذهبن السيئات وإليه أشار بقوله : ( " يكفرها الصلاة والصيام والصدقة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر " ، فقال عمر : ليس هذا أريد ) ، قال الطيبي - رحمه الله : وذلك أن عمر - رضي الله تعالى عنه - لما سأل : أيكم يحفظ حديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في الفتنة ؟ واحتمل أن يراد بالفتنة الاختبار والابتلاء ، كما في قوله تعالى : ولنبلونكم بشيء من الخوف والجوع ونقص من الأموال والأنفس والثمرات وبشر الصابرين ، وأن يراد بها وقعة القتال ، وكان سؤاله عن الثاني قال : ليس هذا أريد ( إنما أريد التي تموج كموج البحر ) أي : تضطرب اضطراب البحر عند هيجانه ، وكنى بذلك عن شدة المخاصمة ، وكثرة المنازعة ، وما ينشأ عن ذلك من المشاتمة والمقاتلة ، وإنما أنث عمر - رضي الله تعالى عنه - المشار إليه بعد ما ذكره باعتبار المذكور دلالة على فظاعة المشار إليه ، وإنها الداهية الدهياء .

( قال : قلت : ما لك ولها ) : استفهام إنكار أي : أي شيء لك من الحاجة إلى تلك الفتنة وإلى سؤالها ، وما يترتب عليها من المحنة ، وأي شيء لها من الوصول إليك والحصول لديك ; فإنه ليس لك ولها اقتران واجتماع في زمان ، ( يا أمير المؤمنين ؟ ) : يحتمل تعلقه بما قبله وما بعده ، ( إن بينك وبينها بابا مغلقا ) : استئناف تعليل ، ( قال : فيكسر الباب ) أي : من شدته وصعوبته ، والاستفهام مقدر ; ولذا قابله بقوله : ( أو يفتح ) أي : من خفته وسهولته ( قال : قلت : لا ) أي : لا يفتح ; فانصب النفي على الفعل القريب ، لكن لما كان موهما أن يتعلق بالفعلين جميعا استدركه وقال : ( بل يكسر ) وفائدته التأكيد والتأييد ، وقال الطيبي - رحمه الله : فإن قلت : كان يكفي في الجواب أن يقول : يكسر ، فلم أتى بلا وبل ؟ قلت : للتنبيه على أن هذا ليس من مقام الترديد في الكسر لظهوره ، فلا يسأل بأم المعادلة كما سبق مرارا اهـ .

ولا يخفى ما فيه من الاعتراض البارد على من هو من زبدة الفصحاء وعمدة البلغاء ، وكذا من دعوى الظهور الذي لا يتوهمه أحد من الأغبياء ، مع أن ( أم ) ليس موجودا في العبارة ، بل الترديد إنما وقع بلفظ أو فرق بينهما عند أرباب الإشارة ، بل الظاهر إنما هو الاعتراض على حذيفة في جوابه لما تقرر في محله من أن جواب ( أم ) المتصلة بالتعيين دون نعم أو لا ; لأنهما لا يفيدان التعيين بخلاف ( أو ) مع الهمزة كما إذا قلنا : جاءك زيد أو عمرو ، فإنه يصبح جوابه بلا ونعم ; لأن المقصود بالسؤال أحدهما لا على التعيين جاءك أو لا ، ولا شك هذا المعنى غير مراد هنا في جوابه ، بل المراد التعيين ، وهو المقصود في الحكم بالكسر ، غايته أنه نفى مقابله وهو الفتح أولا ، ثم أثبت الكسر لزيادة إفادة الحصر كما حقق في كلمة التوحيد ، فإنه لو قيل : الله موجود أو ثابت أو محقق ، لم يفد نفي ما سواه ، فلذا عدل عنه إلى قوله : لا إله إلا الله .

( قال ) أي : عمر - رضي الله عنه - ( ذاك ) : كذا بلا لام في النسخ المصححة ، أي : ذاك الباب الذي من وصفه أن يكسر ولا يفتح ( أحرى ) أي : حري وحقيق ( أن لا يغلق أبدا ) ; لأن الفتح قد يرجى إغلاقه بخلاف [ ص: 3427 ] الكسر ، فإنه يبعد من الرجاء ، ذكره الطيبي ، ومما يقوي هذا المعنى ما رواه الترمذي عن ثوبان : " إذا وضع السيف في أمتي لم يرفع عنها إلى يوم القيامة " . ( قال ) أي : الراوي وهو شقيق ( فقلنا لحذيفة : هل كان عمر يعلم من الباب ؟ ) ، كان الظاهر أن يقال : ما الباب ؟ فكأنهم تفرسوا أن المراد بالباب الشخص لا الباب الحقيقي ، كذا حققه الطيبي - رحمه الله - وفي الكسر شهادة على شهادة عمر - رضي الله عنه - فكأن ابن الخطاب كان باب الصواب ، ومفتاحا لعز الإسلام ، ومأمنا من الفتن بين الأنام ، فرضي الله تعالى عنه ، وأدخله دار السلام .

( قال ) أي : حذيفة ( نعم ) أي : كان يعلم من الباب ، ( كما يعلم ) أي : كعلمه ( أن دون غد ) أي : قدامه ( ليلة ) ، والمعنى : أن الغد لا يتصور إلا متأخرا عن حصول الليلة ، وكأنه جعل زمن الأمن في قوة اليوم الحاضر ، ووقت الفتن بمنزلة الغد الحاضر ، والحاجز بينهما في مرتبة ليل ساتر ، وما أحسن تعبير حذيفة - رضي الله عنه - عن ظهور يوم الفتنة بالغد الواقع بعد تحقق الظلمة المعبر عنها بالليلة ; لخفاء أمر الفتنة وشدة بلائها ، فإن الليل أدهى للويل ، وحاصله أن علمه بأنه هو الباب أمر ظاهر لا يشك فيه أحد من أولي الألباب ، ( إني حدثته ) : استئناف في معنى التعليل أي : ذكرت له حديثا ) أي : ظاهرا ( ليس بالأغاليط ) : وهي جمع الأغلوطة وهي المسألة التي يغلط بها .

قال الطيبي - رحمه الله : أراد أن ما ذكرت له لم يكن مبهما محتملا كالأغاليط ، بل صرحته تصريحا ، وفيه أنه قد آثر حذيفة الحرص على حفظ السر ، ولم يصرح لعمر بما سأل عنه ، وإنما كنى عنه كناية ، أي : لا يخرج من الفتن شيء في حياتك ، وكأنه مثل الفتن بدار مقابل لدار الأمن ، وحياته باب مغلق ، وموته بفتح ذلك الباب ، ثم أنه كنى بالكسر عن القتل ، وبالفتح عن الموت ، وحاصله : أنه لم يكن الكلام من باب الصريح ، بل من قبيل الرمز والتلويح ، لكن عمر ممن لا يخفى عليه الإشارة فضلا عن العبارة ، بل هو أيضا من أصحاب الأسرار وأرباب الأنوار ، وإنما أراد بالسؤال تحقيق الحال ، وأنه هل بقي أحد من الصحابة ممن يكون هذا العلم منه على الباب ; ولذا جزم حذيفة بقوله : نعم ، والله تعالى أعلم . ثم قول الطيبي - رحمه الله : ولعله لهذا السر قال له عمر : إنك لجريء ، وفيه نظر ظاهر ; لأن إظهار الحق المسموع من سيد الخلق لا يستبعد حتى يسمى جراءة على الرد ، فالصواب ما تقدم ، والله تعالى أعلم .

( قال ) أي : شقيق ( فهبنا ) : بكسر الطاء من الهيبة أي : فخشينا ( أن نسأل حذيفة من الباب ؟ ) أي : في ذلك المجلس ( فقلنا لمسروق ) : وهو تابعي جليل ( سله ) أي : سل حذيفة ( فسأله فقال ) أي : حذيفة ( عمر ) أي : هو الباب بمعنى السد للفتنة عن الأصحاب والأحباب ، أو لأنه باب النطق بالصواب . ( متفق عليه ) ، وفي الجامع : " فتنة الرجل في أهله وماله وولده ونفسه وجاره ، يكفرها الصيام والصدقة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر " . رواه الشيخان ، والترمذي ، وابن ماجه عن حذيفة .




الخدمات العلمية