الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
[ ص: 3652 ] 5716 - وعن أبي هريرة رضي الله عنه ، قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم : " ليلة أسري بي لقيت موسى - فنعته : فإذا رجل مضطرب ، رجل الشعر ، كأنه من رجال شنوءة ، ولقيت عيسى ربعة أحمر كأنما خرج من ديماس - يعني الحمام - ورأيت إبراهيم وأنا أشبه ولده به " قال : " فأتيت بإناءين : أحدهما لبن والآخر فيه خمر . فقيل لي : خذ أيهما شئت . فأخذت اللبن فشربته ، فقيل لي : هديت الفطرة ، أما إنك لو أخذت الخمر غوت أمتك " . متفق عليه .

التالي السابق


5716 - ( وعن أبي هريرة قال : قال رسول الله - صلى الله تعالى عليه وسلم : " ليلة أسري بي " ) : ظرف مقدم لقوله : ( لقيت موسى فنعته ) أي : فوصف موسى فقال في حقه ( فإذا ) أي : هو ( رجل مضطرب ) ، قال القاضي وغيره من الشراح : يريد به أنه كان مستقيم القد حادا ، فإذ الحاد يكون قلقا متحركا ، كان فيه اضطراب ، ولذلك يقال : رمح مضطرب إذا كان طويلا مستقيما ، وقيل : معناه أنه كان مضطربا من خشية الله تعالى ، وهذه صفة النبيين والصديقين ، كما روي أنه عليه الصلاة والسلام كان يصلي ولقلبه أزيز كأزيز المرجل . ( رجل الشعر ) ، بكسر الجيم ويسكن ويفتح ، في القاموس : شعر رجل وككتف وجبل بين السبوطة والجعودة . وفي النهاية أي : لم يكن شديد الجعودة ، ولا شديد السبوطة ، بل بينهما . قلت : الظاهر أن تكون جعودته غالبة على سبوطته ، لئلا ينافي ما سبق من كونه موسى عليه الصلاة والسلام جعدا ، ( " كأنه من رجال شنوءة " ) : سبق بيانه ( ولقيت عيسى ربعة ) : بتسكين الموحدة ويجوز فتحه على ما ذكره العسقلاني أي : مربوع الخلق . وفي النهاية أي : لا طويل ولا قصير ، والتأنيث على تأويل النفس ( أحمر ) أي : شديد الحمرة ( كأنه خرج من ديماس ) : بكسر الدال وتفتح على ما في القاموس : ( الكن والسرب والحمام . قال الجوهري : فإن فتحت الدال جمعت على دياميس ، مثل شيطان وشياطين ، وإن كسرتها جمعت على دماميس كقيراط وقراريط ، ثم لما كان الديماس له معان . قال الراوي : ( يعني ) ، أي يريد النبي - صلى الله تعالى عليه وسلم - ( الحمام ) ، قالالعسقلاني : هذا في تفسير عبد الرزاق ، والمراد وصفه بصفاء اللون ونضارة الجسم وكثرة ماء الوجه ، كأنه خرج من حمام وهو عرق . ( ورأيت إبراهيم وأنا أشبه ولده ) أي : أولاده من نسل ولد إسماعيل أو مطلقا ( وبه ) أي إبراهيم صورة ومعنى ، فالمشابهة الصورية عنوان للمناسبة المعنوية مع أن الولد سر أبيه في مبانيه ومعانيه .

( قال ) أي : النبي - صلى الله تعالى عليه وسلم - ( فأتيت بإناءين ) أي : أحضرت بهما ( أحدهما لبن ) : قال التوربشتي - رحمه الله : العالم القدسي يصاغ فيه الصور من العالم الحسي ليدرك بها المعاني ، فلما كان اللبن في عالم الحس من أول ما يحصل به التربية ، ويرشح به المولود صيغ عنه مثال للفطرة التي تتم بها القوة الروحانية ، وتنشأ عنها الخاصية الإنسانية ، وقال بعضهم : ولم يقل فيه لبن كأنه جعله لبنا كله تغليبا للبن على الإناء لكثرته ، وتكثيرا لما اختاره ، ولما كان الخمر منهيا عنه قليله فقال : ( والآخر فيه خمر ) أي : خمر قليل ( فقيل لي : خذ أيهما شئت ) . أي : أي الإناءين ، أو أي المشروبين أردته واشتهيته ( فأخذت اللبن فشربته ) ، أي لما يدل الأمر بالأخذ على جواز الشرب ، لأنه المقصود منه ، وإنما عرض عليه كلاهما إظهارا على الملائكة فضله باختياره الصواب ، ( فقيل لي هديت الفطرة ) ، بصيغة الخطاب مجهولا أي فقالت الملائكة : هداك الله إلى الفطرة ، وهو يحتمل الإخبار والدعاء ، والأول أظهر لما سيأتي في آخر الحديث ، والمعنى أنك هديت الفطرة الكاملة الشاملة لأتباعك العالمة العاملة .

قال القاضي - رحمه الله : المراد بها الفطرة الأصلية التي فطر الناس عليها ، فإن منها الإعراض عما فيه غائلة وفساد ، كالخمر المخل بالعقل الداعي إلى الخير الوازع عن الشر المؤدي إلى صلاح الدارين ، وخير المنزلين ، والميل إلى ما فيه نفع حال عن مضرة دنيوية ومعرة دينية ، كشرب اللبن ، فإنه من أصلح الأغذية ، وأول ما حصل به التربية . وقال ابن الملك : وفي هذا القول له عند أخذ اللبن لطف ومناسبة ، فإن اللبن لما كان في العالم الحسي ذا خلوص وبياض ، وأول ما يحصل به تربية المولود صيغ منه العالم القدسي مثال الهداية والفطرة التي يتم بها القوة الروحانية ، بخلاف الخمر فإنها لكونها ذات مفسدة صيغ منها مثال الغواية ، وما يفسد القوة الروحانية ولهذا قيل له أيضا : ( أما ) : بالتخفيف للتنبيه ( إنك لو أخذت الخمر ) أي : شربت أو ما شربت ، والمعنى لو ملت إليها أدق الميل ( غوت ) أي : ضلت ( أمتك ) . أي نوعا من الغواية المترتبة على شربها بناء على أنه لو شربها لأحل للأمة شربها ، فوقعوا في ضررها وشرها ، ولما كان هو معصوما لم يقل له : غويت على ما تقتضيه المقابلة ، وفيه إيماء إلى أن استقامة المقتدى من النبي والعالم والسلطان ، ونحوهم سبب لاستقامة أتباعهم ، لأنهم . بمنزلة القلب للأعضاء . ( متفق عليه ) .

[ ص: 3653 ]



الخدمات العلمية