الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
5889 - وعن أبي إسحاق رضي الله عنه ، قال : قال رجل للبراء : يا أبا عمارة ! فررتم يوم حنين ؟ قال : لا والله ما ولى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولكن خرج شبان أصحابه ليس عليهم كثير سلاح ، فلقوا قوما رماة لا يكاد يسقط لهم سهم ، فرشقوهم رشقا ما يكادون يخطئون ، فأقبلوا هناك إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - على بغلته البيضاء وأبو سفيان بن الحارث يقوده ، فنزل واستنصر ، وقال : ( أنا النبي لا كذب أنا ابن عبد المطلب ) ثم صفهم . رواه مسلم ، وللبخاري معناه .

التالي السابق


5889 - ( وعن أبي إسحاق ) : قال المؤلف : هو أبو إسحاق السبيعي الهمداني الكوفي ، رأى عليا وابن عباس وغيرهما ، وسمع البراء بن عازب ، وزيد بن الأرقم . روى عنه الأعمش ، وشعبة ، والثوري ، وهو تابعي مشهور كثير الرواية . ( قال : قال رجل ) : جاء في رواية أنه من قيس لكن لا يعرف اسمه ( للبراء : يا أبا عمارة ) بضم فتخفيف ( فررتم ) أي : أفررتم كما في الشمائل ، وفي رواية : أفررتم كلكم ( يوم حنين ؟ قال : لا والله ما ولى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ) أي : لا حقيقة ولا صورة ، وفي العدول عن تغيير فر إلى ولى حسن عبارة ( ولكن خرج ) أي : إلى العدو ( شبان أصحابه ) : بضم الشين وفتح الموحدة أي : جماعة من الشباب ممن ليس لهم وقار ورأي عليه مدار ، ولهذا عبر عنه في رواية الشمائل بقوله : ولكن ولى سرعان من الناس أي : الذين يتسارعون إلى الشيء من غير روية ومعرفة كاملة كما يدل عليه قوله : ( ليس عليهم كثير سلاح ، فلقوا قوما رماة ) أي : تلقتهم هوازن بالنبل على ما في الشمائل ( لا يكاد يسقط لهم سهم على الأرض ، فرشقوهم ) أي : فرموهم رشقا ( ما كانوا يخطئون ) ، قال النووي : هذا

[ ص: 3792 ] الجواب الذي أجابه البراء من بديع الأدب لأن تقدير الكلام فررتم كلكم ، فيقتضي أن النبي - صلى الله عليه وسلم - وافقهم في ذلك ، فقال البراء : لا والله ما فر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولكن جماعة من أصحابه جرى لهم كذا وكذا ، ( فأقبلوا ) أي : الشبان ( هناك ) أي : ذلك الزمان أو المكان ( إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ) ، أي : متحيزين إليه ، والمعنى أنه مع هذا لا يصدق عليهم الفرار لقوله تعالى : ومن يولهم يومئذ دبره إلا متحرفا لقتال أو متحيزا إلى فئة قد قال - صلى الله عليه وسلم - : ( أنا فئتكم ) .

فإن قلت : ذكر في الحديث السابق ولى المسلمون مدبرين ، وفي هذا الحديث : فأقبلوا ، فكيف الجمع ؟ قلت : المراد له أن جمعا من المسلمين وقع لهم صورة الإدبار ، ثم بعد توجهه - صلى الله عليه وسلم - إليهم ومناداتهم بصياح العباس حصل لهم سعادة الإقبال ، ودولة الاتصال والانتقال من صورة الفرار إلى سيرة القرار . ( ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - على بغلته البيضاء ) : قال العسقلاني : وقع عند البخاري على بغلته البيضاء ، وعند مسلم من حديث العباس أن البغلة التي كانت تحته يوم حنين أهداها له فروة بن نفاثة ، وهذا هو الصحيح . وذكر أبو الحسن بن عبدوس أن البغلة التي ركبها يوم حنين هي : ( دلدل ) وكانت شهباء أهداها له المقوقس ، يعني : صاحب الإسكندرية ، وأما التي أهداها له فروة يقال لها : فضة ، ذكر ذلك ابن سعد ، وذكر عكسه ، والصحيح ما في مسلم . ( وأبو سفيان بن الحارث يقوده ) أي : يمشي قدامه ، أو يقود بغلته على حذف مضاف ، أو بتأويل المركوب ، وهذا بظاهره يعارض ما تقدم من أن العباس كان آخذا باللجام ، وأن أبا سفيان كان آخذا بالركاب ، لكن يمكن حمله على سبيل التناوب ، أو على تلك أن الحال لشدتها احتاج إلى اثنين . ( فنزل ) أي : النبي - صلى الله عليه وسلم - ( واستنصر ) أي : طلب النصر والفتح لأمته كما يأتي تتمة قصته ( وقال ) : وفي نسخة فقال : ( أنا النبي لا كذب أنا ابن عبد المطلب ) : بسكون الباء فيهما على جري العادة في السجع والنظم ، وإنما صدر هذا من مشكاة صدر النبوة مستقيما على وزن الشعر بمقتضى طبعه الموزون من غير تعمد منه ، فلا يعد ذلك شعرا .

قال القاضي عياض : قد غفل بعض الناس وقال : الرواية أنا النبي لا كذب بفتح الباء ، وعبد المطلب بالخفض حرصا على تغيير الرواية ليستغني عن الاعتذار ، وإنما الرواية بإسكان الباء ، وقال الخطابي : اختلف الناس في هذا ، وما أشبهه من الرجز الذي جرى على لسان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في بعض أسفاره وأوقاته ، وفي تأويل ذلك مع شهادة الله تعالى بأنه لم يعلم الشعر وما ينبغي له ، فذهب بعضهم إلى أن هذا وما أشبهه وإن استوى على وزن الشعر ، فإنه إذا لم يقصد به الشعر ، إذ لم يكن صدوره عن نية له وروية فيه ، وإنما هو اتفاق كلام أحيانا فيخرج منه الشيء بعد الشيء على بعض أعاريض الشعر ، وقد وجد في كتاب الله العزيز من هذا القبيل ، وهذا مما لا يشك فيه أنه ليس بشعر .

قال النووي ، فإن قيل : كيف نسب نفسه إلى جده دون أبيه ، وافتخر بذلك مع أن الافتخار من عمل الجاهلية ; فالجواب : أنه - صلى الله عليه وسلم - كانت شهرته بجده أكثر ، لأن أباه قد توفي شابا قبل اشتهاره ، وكان جده مشهورا شهرة ظاهرة شائعة ، وكان سيد أهل مكة ، وكان مشتهرا عندهم أن عبد المطلب بشر بالنبي - صلى الله عليه وسلم - وأنه سيظهر ، ويكون شأنه عظيما ، وكان أخبره بذلك سيف بن ذي يزن ، يعني : وجماعة من الكهان ، وقيل : إن عبد المطلب رأى رؤيا تدل على ظهور النبي - صلى الله عليه وسلم - وكان ذلك مشهورا عندهم ، فأراد النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يذكرهم بذلك ، وينبههم بأنه - صلى الله عليه وسلم - لا بد له من ظهوره على الأعداء ، وأن العاقبة له لتقوى نفوسهم ، وأعلمهم أيضا أنه ثابت يلازم الحرب لم يول مع من ولى ، وعرفهم موضعه ليرجع إليه الراجعون ، وأما قوله : أنا النبي لا كذب ، فمعناه أنا النبي حقا ، فلا أفر ، ولا أزول ، وفيه دليل على جواز قول الإنسان في الحرب : أنا فلان ، أو أنا ابن فلان ، يعني : أنه يجري على مقتضى العادة إظهاره للشجاعة ، فلا يعد من باب الرياء والسمعة . ( ثم ) أي : بعدما اجتمع المسلمون ، ورجع الشبان المسرعون ( صفهم ) أي : جعلهم صافين كأنهم بنيان مرصوص ( رواه مسلم ) .

( وللبخاري معناه ) أي : فالحديث متفق عليه في مؤداه .

[ ص: 3793 ]



الخدمات العلمية