الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
الفصل الثاني

583 - عن ابن عباس رضي الله عنهما ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " أمني جبريل عند البيت مرتين ، فصلى بي الظهر حين زالت الشمس ، وكانت قدر الشراك ، وصلى بي العصر حين صار ظل كل شيء مثله ، وصلى بي المغرب حين أفطر الصائم ، وصلى بي العشاء حين غاب الشفق ، وصلى بي الفجر حين حرم الطعام والشراب على الصائم ، فلما كان الغد ; صلى بي الظهر حين كان ظله مثله ، وصلى بي العصر حين كان ظله مثليه ، وصلى بي المغرب حين أفطر الصائم ، وصلى بي العشاء إلى ثلث الليل وصلى بي الفجر فأسفر " ثم التفت إلي فقال : يا محمد ، هذا وقت الأنبياء من قبلك ، والوقت ما بين هذين الوقتين " رواه أبو داود ، والترمذي .

التالي السابق


الفصل الثاني

583 - ( عن ابن عباس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " أمني " ) : بتشديد الميم ( جبريل ) : بكسر الجيم وفتحها مع الياء ، وجبرئيل بالهمزة وزيادة الباء أي : صار إماما لي ( عند البيت ) : أي : الكعبة . وفي رواية في الأم للشافعي : عند باب الكعبة ، وفي أخرى في مشكل الآثار للطحاوي عند باب البيت ( مرتين ) : أي : في يومين ليعرفني كيفية الصلاة وأوقاتها . ( فصلى بي ) : الباء للمصاحبة والمعية أي : صلى معي ( الظهر ) : قيل ابتدأ بها مع أن فرض الصلاة كان ليلا ، وقياسه أن أول صلاة وجبت الصبح ; لأن أول وقت الصبح فيه خفاء ، فلو وقع فيه البيان لم يكن فيه من الظهور ما في وقوعه وقت الظهر ، مع الإيماء إلى أن دينه سيظهر على الأديان كلها ، كما أن الظهر ظاهرة على جميع الصلوات ، لكن أداء الوجوب متوقف على علم الكيفية ، وهو لم يقع إلا في الظهر فهي التي أول صلاة وجبت ( حين زالت الشمس وكانت ) : الضمير للشمس ، والمراد منها الفيء ; لأنه بسببها ، ففيه تجوز بينته رواية ، وكان الفيء قدر الشراك ، والفيء هو الظل ، ولا يقال : إلا للراجع منه ، وذلك بعد الزوال . قال ابن السكيت : الظل ما تنسخه الشمس ، والفيء ما ينسخ الشمس ، وقال النووي نقلا عن ابن قتيبة ، وقال : إنه كلام نفيس ، الظل غير الفيء إذ الظل يشمل ما في الغدوة والعشي ، وأصله الستر ، ومنه : فلان في ظلك والفيء يختص بما بعد الزوال ; لأنه من فاء من جانب إلى جانب أي : رجع ، والفيء : الرجوع ، وعلم من أن الظل الستر أنه ليس بعدمي ، بل هو أمر وجودي له نفع بإذن الله تعالى في الأبدان وغيرها ، فما ألفه الناس من أنه شيء تنسخه الشمس ، وربما وقع في أذهانهم أنه عدم غير صحيح ، ألا ترى أن في الجنة ظلا كما في القرآن والسنة ، مع أنه لا شمس فيها أي كان فيؤها ( قدر الشراك ) : وفي المصابيح وكان الفيء أي : الظل الراجع من النقصان إلى [ ص: 520 ] الزيادة ، وهو بعد الزوال مثل الشراك أي : مثل شراك النعل ، وهو أحد سيور النعل الذي على وجهها ، وهذا على وجه التقرير ; لأن زوال الشمس لا يتبين إلا بأقل مما يرى من الظل في جانب المشرق ، وكان حينئذ بمكة هذا القدر ، والظل يختلف باختلاف الأزمنة والأمكنة ، فكل بلد هو أقرب إلى خط الاستواء ومعدل النهار كان الظل فيه أقصر ، وكل بلد كان أبعد عنهما إلى جانب الشمال كان فيه أطول ، كذا ذكره ابن الملك . وقال الطيبي : إنما يتبين ذلك في مثل مكة من البلاد التي يقل فيها الظل ، فإذا كان أطول النهار واستوت الشمس فوق الكعبة لم ير لشيء من جوانبها الظل . اهـ .

والمراد منه أن وقت الظهر حين يأخذ الظل في الزيادة بعد الزوال ( وصلى بي العصر حين صار ظل كل شيء مثله ) : أي : بعد ظل الزوال قاله الطيبي ، وقال ابن الملك : معناه زاد ظل كل شيء عن مثله أدنى زيادة وفيه بحث ، والأظهر أن المراد بالظل الحادث ( وصلى المغرب حين أفطر الصائم ) : أي : دخل وقت إفطاره بأن غابت الشمس ودخل الليل ; لقوله تعالى : ثم أتموا الصيام إلى الليل وفي رواية : " حين وجبت الشمس وأفطر الصائم " وهو عطف تفسير ، إذ بوجوبها يعني سقوطها وغيبوبتها يدخل وقت إفطار الصائم مع الإيماء بأن ( إفطار الصائم ينبغي أن يقع قبل صلاة المغرب ( وصلى بي العشاء حين غاب الشفق ) : أي : الأحمر على الأشهر ( وصلى بي الفجر حين حرم الطعام والشراب على الصائم ) : يعني : أول طلوع الفجر الثاني ؛ لقوله تعالى وكلوا واشربوا حتى يتبين لكم الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر ( فلما كان الغد ) : أي : في اليوم الثاني ( صلى بي الظهر حين كان ظله ) : أي : ظل كل شيء ( مثله ) : أي : قريبا منه أي : من غير الفيء . قال الطيبي : ليس المراد بعد ظل الزوال ، فلا يلزم كون الظهر والعصر في وقت واحد ، ووافق هذا قول المظهر على سبيل توارد الخاطر ، وهذا التأويل أولى مما ذكره القاضي من تأويله في الحديث الأول من الباب . اهـ .

وفي رواية : حين كان ظل كل شيء مثله ، كوقت العصر بالأمس . أي : فرغ من الظهر حينئذ كما شرع في العصر في اليوم الأول ، حينئذ قال الشافعي : وبه يندفع اشتراكهما في وقت واحد على ما زعمه جماعة ، ويدل له خبر مسلم السابق : وقت الظهر ما لم يحضر العصر على أنه لو فرض عدم إمكان الجمع بينهما وجب تقديم خبر مسلم ; لأنه أصح مع كونه متأخرا ( وصلى بي العصر حين كان ظله ) : أي ظل الشيء ( مثليه ) : أي : غير ظل الاستواء ( وصلى بي المغرب حين أفطر الصائم ، وصلى بي العشاء إلى ثلث الليل ) : أي : مائلا أو منتهيا إليه . وقال ابن حجر : ينبغي أن يكون إلى بمعنى " مع " ويؤيده الرواية الأخرى ، ثم صلى العشاء الأخيرة حين ذهب ثلث الليل اهـ . أو إلى بمعنى " في " نحو قوله تعالى : ليجمعنكم إلى يوم القيامة ( وصلى بي الفجر فأسفر ) : أي : أضاء به ، أو دخل في وقت الإسفار ( ثم التفت ) : أي : نظر جبريل عليه الصلاة والسلام ( إلي فقال : يا محمد ، هذا ) أي : ما ذكر من الأوقات الخمسة ، أو الإشارة إلى الإسفار فقط ( وقت الأنبياء من قبلك ) : إذ المحافظة عليه شاقة على النفس لا يقدر عليها إلا المراعون للظلال ، المنتظرون للصلوات قاله ابن الملك . وقال ابن حجر : هذا وقت الأنبياء باعتبار التوزيع بالنسبة لغير العشاء ، إذ مجموع هذه الخمس من خصوصياتنا ، وأما بالنسبة إليهم فكان ما عدا العشاء مفرقا فيهم .

[ ص: 521 ] أخرج أبو داود في سننه ، وابن أبي شيبة في مصنفه ، والبيهقي في سننه ، عن معاذ بن جبل قال : أخر رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاة العتمة ليلة ، حتى ظن الظان أنه قد صلى ، ثم خرج فقال : " اعتموا بهذه الصلاة فإنكم فضلتم بها على سائر الأمم ولم تصلها أمة قبلكم " .

وأخرج الطحاوي ، عن عبيد الله بن محمد ، عن عائشة : أن آدم لما تيب عليه عند الفجر صلى ركعتين فصارت الصبح ، وفدي إسحاق عند الظهر ، فصلى أربع ركعات فصارت الظهر ، وبعث عزير فقيل له : كم لبثت ؟ قال : يوما فرأى الشمس فقال : أو بعض يوم ، فصلى أربع ركعات فصارت العصر ، وغفر لداود عند المغرب فقام فصلى أربع ركعات ، فجهد في الثالثة أي : تعب فيها عن الإتيان بالرابعة لشدة ما حصل له من البكاء على ما اقترفه ، مما هو خلاف الأولى به ، فصارت المغرب ثلاثا ، وأول من صلى العشاء الآخر نبينا صلى الله عليه وسلم . قال ابن حجر : وبهذا وما قررته في ( هذا وقت الأنبياء من قبلك ) ، يندفع قول البيضاوي توفيقا بين هذا وبين خبر أبي داود وغيره المذكور في العشاء : أن العشاء كانت الرسل تصليها نافلة لهم ، ولم تكتب على أممهم كالتهجد ، فإنه وجب على نبينا ولم يجب علينا ، أو يجعل هذا إشارة إلى وقت الإسفار ، فإنه قد اشترك فيه جميع الأنبياء الماضية والأمم الدارجة اهـ .

والحق أن الحق مع القاضي ، فإن الحديث الأول لا دلالة على نفيه للأنبياء ، وإنما وقع نفيه عن الأمم ، والحديث الثاني دال على أن نبينا صلى الله عليه وسلم أول من صلى العشاء مع أمته ، فلا ينافيه أن الأنبياء صلوها ، وغايته أنه ما ذكر فيه أول من شرع ، والظاهر أن كل نبي شرع صلاة تبعه غيره من الأنبياء ، فلا دلالة فيه على التوزيع الذي توهمه مع أن رواية الطحاوي لا تقاوم رواية أبي داود وغيره المصرح في المقصود ( والوقت ) : أي : السمح الذي لا حرج فيه ( ما بين ) : وفي رواية : فيما بين ( هذين الوقتين ) : فيجوز الصلاة في أوله ووسطه وآخره ، وقال ميرك : معنى زوال الشمس هو أن يكون ظل كل شيء من أول النهار إلى المغرب أي : جهته كثيرا ، ثم يأخذ في النقصان قليلا قليلا إلى أن وقف لمحة ، فإذا زال الظل بعده إلى المشرق فهو أول وقت الظهر ، فإذا صار ظل كل شيء مثله بعد ظل الزوال يدخل وقت العصر ، فقوله : أولا صلى العصر حين صار ظل كل شيء مثله يراد منه بعد ظل الزوال ، وقوله ثانيا صلى بي الظهر حين كان ظله مثله ليس المراد منه بعد ظل الزوال ، فلا يكونان في وقت واحد ، والتعريف في قوله : الوقت ما بين هذين الوقتين للعهد أي : أول وقت صليت وآخر وقت ، وما بينهما هو الوقت كما مر في الحديث السابق اهـ .

وقوله : وقف لمحة ليس بصحيح لما سيأتي أنه ليس لها وقفة ، والله أعلم ( رواه أبو داود ، والترمذي ) : وقال : حسن ، ذكره ميرك ، وصححه غيره ، ورواه النسائي أيضا وزاد : إن النبي صلى الله عليه وسلم كان خلف جبريل والناس أي : المسلمون حينئذ خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم في كل الأوقات ، يعني : أنه صلى الله عليه وسلم كان متقدما عليهم ليبلغهم أفعال جبريل ، فهم في الحقيقة مقتدون بجبريل لا بالنبي صلى الله عليه وسلم ، لكن في رواية ابن إسحاق : فصلى به جبريل ، وصلى النبي صلى الله عليه وسلم بأصحابه ، وظاهره صحة الاقتداء بالمقتدي ; لأن الصحابة لم يشاهدوا جبريل وإلا لنقل ذلك ، والأظهر دفعه بأن إمامة جبريل لم تكن على حقيقته ، بل على النسبة المجازية من دلالته بالإيماء والإشارة إلى كيفية أداء الأركان وكميتها كما يقع لبعض المعلمين ، حيث لم يكونوا في الصلاة ويعلمون غيرهم بالإشارة القولية .

[ ص: 522 ]



الخدمات العلمية