الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
6010 - وعن عمران بن حصين - رضي الله عنهما - قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ( خير أمتي قرني ، ثم الذين يلونهم ، ثم الذين يلونهم ، ثم إن بعدهم قوما يشهدون ولا يستشهدون ، ويخونون ولا يؤتمنون ، وينذرون ، ولا يوفون ويظهر فيهم السمن ) . وفي رواية ( ويحلفون ولا يستحلفون ) . متفق عليه .

التالي السابق


6010 - ( وعن عمران بن حصين قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : ( خير أمتي قرني ) ، أي الذين أدركوني وآمنوا بي وهم أصحابي ، ( ثم الذين يلونهم ) ، أي يقربونهم في الرتبة أو يتبعونهم في الإيمان والإيقان وهم التابعون ( ثم الذين يلونهم ) ، وهم أتباع التابعين ، والمعنى أن الصحابة والتابعين وتبعهم هؤلاء القرون الثلاثة المرتبة في الفضيلة ، ففي النهاية : القرن أهل كل زمان وهو مقدار التوسط في أعمار أهل كل زمان ، مأخوذ من الاقتران ، فكأنه المقدار الذي يقترن فيه أهل ذلك الزمان في أعمارهم وأحوالهم . وقيل : القرن أربعون سنة ، وقيل : ثمانون ، وقيل : مائة ، وقيل : هو مطلق من الزمان ، وهو مصدر قرن يقرن . قال السيوطي : والأصح أنه لا ينضبط بمدة فقرنه - صلى الله عليه وسلم - هم الصحابة ، وكانت مدتهم من المبعث إلى آخر من مات من الصحابة مائة وعشرين سنة ، وقرن التابعين من مائة سنة إلى نحو سبعين ، وقرن أتباع التابعين من ثم إلى نحو العشرين ومائتين ، وفي هذا الوقت ظهرت البدع ظهورا فاشيا ، وأطلقت المعتزلة ألسنتها ، ورفعت الفلاسفة رءوسها ، وامتحن أهل العلم ليقولوا بخلق القرآن ، وتغيرت الأحوال تغيرا شديدا ، ولم يزل الأمر في نقص إلى الآن وظهر مصداق قوله - صلى الله عليه وسلم - : ( ثم يفشو الكذب ) .

قال الطيبي : وثم فيه بمنزلة الفاء في قوله الأفضل ، فالأفضل على أنه بيان لتراخي الرتبة في النزول والخير المذكور أولا ، أطلق على ما اقتضاه معنى التفضيل من الاشتراك حتى انتهى إلى حد يرتفع فيه الاشتراك ، فيختص بالموصوف ، فلا يدخل ما بعده من قوله : ( ثم إن بعدهم قوما يشهدون ) : فهو حينئذ كما في قوله تعالى : أصحاب الجنة يومئذ خير مستقرا وقولك : الصيف أحر من الشتاء . قال شارح ، في أكثر نسخ المصابيح : ثم إن بعدكم وليس بسديد والصواب ، ثم إن بعدهم قوما يشهدون . ( ولا يستشهدون ) ، بصيغة المجهول أي ، والحال أنه لا يطلب منهم الشهادة ، ولا يبعد أن تكون الواو عاطفة كبقية ما يأتي ، والحاصل أنهم يشهدون قبل أن يطلب منهم الشهادة فهو ذم على الشهادة قبل الاستشهاد .

قال النووي : وهذا مخالف في الظاهر للحديث الآخر : خير الشهود من يأتي بالشهادة قبل أن يسأل قالوا : والجمع بينهما أن الذم في ذلك لمن بادر بالشهادة في حق من هو عالم بها قبل أن يسألها له صاحبه ، وأما المدح فهو لمن كانت عنده شهادة لأحد لا يعلم بها ، فيخبره بها ليستشهده عند القاضي ، ويلحق به من كانت عنده شهادة في حدود أي المصلحة في الستر ، هذا ما عليه الجمهور انتهى .

وقيل : المدح في حقوق الله والذم في حقوق الناس ( ويخونون ولا يؤتمنون ) ، جمع بينهم تأكيدا أو يخونون الناس عند ائتمانهم إياهم ، ولا يجعلون أمناء عند بعضهم لظهور خيانتهم . وقال النووي : ومعنى الجمع في قوله : يخونون ولا يؤتمنون أنهم يخونون خيانة ظاهرة بحيث لا يبقى معها ثقة ، بخلاف من خان حقيرا مرة ، فإنه لا يخرج به عن أن يكون مؤتمنا في بعض المواطن ( وينذرون ) ، بضم الذال ويكسر على ما في ( القاموس ) ، أي : يوجبون على أنفسهم أشياء ، ( ولا يوفون ) ، من الوفاء أي : ولا يقومون بالخروج عن عهدتها ، ولا يبالون بتركها بخلاف الأبرار على ما قال سبحانه في حقهم : يوفون بالنذر ويخافون يوما كان شره مستطيرا وقد قال تعالى : يا أيها الذين آمنوا أوفوا بالعقود أي بالأيمان والنذور والعهود ( ويظهر فيهم السمن ) . بكسر السين وفتح الميم مصدر سمن بالكسر والضم سمانته بالفتح وسمنا كعنب فهو سامن وسمين . قال صاحب النهاية : في الحديث يكون في آخر الزمان قوم يتسمنون أي يتكبرون بما ليس فيهم ، ويدعون ما ليس لهم من الشرف ، وقيل : أراد جمعهم الأموال ، وقيل : يحبون التوسع في المآكل والمشارب ، وهي أسباب السمن . وقال التوربشتي : كنى به عن الغفلة وقلة الاهتمام بأمر الدين ، فإن الغالب على ذوي السمانة أن لا يهتموا بارتياض النفوس ، بل معظم همتهم تناول الحظوظ والتفرغ للدعة والنوم ، وفي ( شرح مسلم ) قالوا : والمذموم من السمن ما يستكسب ، وأما ما هو خلقه فلا يدخل في هذا انتهى . وبه يظهر معنى ما ورد من أن الله يبغض الحبر السمين . ( وفي رواية : ( ويحلفون ولا يستحلفون ) . أي : يحلفون من غير ضرورة داعية إليه ومن غير حاجة باعثة عليه . ( متفق عليه ) .

[ ص: 3879 ]



الخدمات العلمية