الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
6045 - وعن ابن عباس - رضي الله عنهما - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : ( اللهم أعز الإسلام بأبي جهل بن هشام ، أو بعمر بن الخطاب ) فأصبح عمر ، فغدا على النبي - صلى الله عليه وسلم - فأسلم ، ثم صلى في المسجد ظاهرا . رواه أحمد ، والترمذي .

التالي السابق


6045 - ( وعن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم ) : الظاهر أنه من المراسيل ( قال : ( اللهم أعز الإسلام ) ، أي : قوه وانصره ( بأبي جهل بن هشام ، أو بعمر بن الخطاب ) ، أو للتنويع لا للشك ، ولا يبعد أن تكون بل للإضراب ( فأصبح عمر ) أي : دخل في الصباح بعد دعائه - عليه السلام - قبله ، ( فغدا ) أي : أقبل غاديا أي ذاهبا في أول نهاره ( على النبي صلى الله عليه وسلم ) ، قال الطيبي : هو إما خبر أي غدا مقبلا على النبي أو ضمن غدا معنى أقبل ، ونحوه قوله تعالى : وغدوا على حرد قادرين اهـ . فعلى الأول غدا من الأفعال الناقصة وعلى الثاني يتعلق على بغدا ( فأسلم ثم صلى ) أي : النبي - صلى الله عليه وسلم - وفي نسخة بصيغة المجهول أي : صلى المؤمنون ( في المسجد ظاهرا ) . أي عيانا غير خفي ، أو غالبا غير مخوف .

روى الحاكم أبو عبد الله في ( دلائل النبوة ) عن ابن عباس أن أبا جهل قال : من قتل محمدا فله علي مائة ناقة وألف أوقية من فضة ، فقال عمر : الضمان صحيح ؟ فقال : نعم عاجلا غير آجل ، فخرج عمر فلقيه رجل فقال : أين تريد ؟ قال : أريد محمدا لأقتله . قال : فكيف تأمن من بني هاشم ؟ قال : إني لأظنك قد صبوت . قال : ألا أخبرك بأعجب من هذا إن أختك وختنك قد صبوا مع محمد ، فتوجه عمر إلى منزل أخته ، وكانت تقرأ سورة طه ، فوقف يستمع ثم قرع الباب فأخفوها فقال عمر : ما هذه الهينمة ؟ فأظهرت الإسلام فبقي عمر حزينا كئيبا ، فباتوا كذلك [ ص: 3900 ] إلى أن قامت الأخت وزوجها يقرآن : طه ما أنزلنا فلما سمع قال : ناولني الكتاب حتى أنظر فيه ، فلما قرأه إلى قوله : الله لا إله إلا هو له الأسماء الحسنى ، قال : اللهم إن هذا أهل أن لا يعبد سواه ، أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله ، فبات ساهر العين ينادي في كل ساعة : واشوقاه إلى محمد حتى أصبح فدخل عليه خباب بن الأرت فقال : يا عمر إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بات الليلة ساهرا يناجي الله - عز وجل - أن يعز الإسلام بك أو بأبي جهل ، وأنا أرجو أن تكون دعوته قد سبقت فيك ، فخرج مقلدا سيفه ، فلما وصل إلى منزل فيه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خرج إليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وقال : ( يا عمر أسلم أو لينزلن الله بك ما أنزل بوليد بن المغيرة ) فارتعدت فرائص عمر ووقع السيف من يده فقال : أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله ، فقال : اللات والعزى تعبد على رءوس الجبال وفي بطون الأودية ، والله يعبد سرا ، والله لا يعبد الله سرا بعد يومنا هذا . ( رواه أحمد ، والترمذي ) . وانتهت روايته إلى قوله : فأسلم ولم يذكر ثم صلى إلخ وقال : غريب من هذا الوجه ، وفي سنده أبو عمرو بن النضر تكلم فيه بعضهم وقال : يروي المناكير من قبل حفظه اهـ . وزيادة ثم صلى إلخ رواها محيي السنة في ( شرح السنة ) : من جملة الحديث في هذا السند ذكره ميرك . وقال ابن الربيع في ( مختصر المقاصد الحسنة ) للسخاوي : حديث : ( اللهم أيد الإسلام بأحب هذين الرجلين إليك بأبي جهل أو بعمر بن الخطاب ) . رواه الإمام أحمد والترمذي في ( جامعه ) وغيرهما عن ابن عمر به مرفوعا . وقال الترمذي : حسن صحيح غريب ، وصححه ابن حبان والحاكم في ( مستدركه ) عن ابن عباس : ( اللهم أيد الدين بعمر بن الخطاب ) وفي لفظ : أعز الإسلام بعمر ، وقال : إنه صحيح الإسناد ، وفيه عن عائشة : اللهم أعز الإسلام بعمر بن الخطاب خاصة . وقال : إنه صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه . قلت : وأما ما يدور على الألسنة من قولهم : اللهم أيد الإسلام بأحد العمرين فلا أعلم له أصلا . اهـ كلامه .

قال الزركشي ، حديث : ( اللهم أعز الإسلام ) إلخ رواه الترمذي ، وروى الحاكم عن عائشة : ( اللهم أعز الإسلام بعمر بن الخطاب خاصة ) . وقال : صحيح على شرط الشيخين . وذكر أبو بكر النارنجي ، عن عكرمة أنه سئل عن حديث : اللهم أيد الإسلام ؟ فقال : معاذ الله دين الإسلام أعز من ذلك ، ولكنه قال : اللهم أعز عمر بالدين أو أبا جهل . أقول : ليس فيما ورد من الحديث محذور ، بل هو من قبيل قوله تعالى : فعززنا بثالث أي قوينا الرسولين وما أتيا من الدين به ، أو من باب قوله - صلى الله عليه وسلم - : ( زينوا القرآن بأصواتكم ) على أنه يمكن أن يكون من نوع القلب في الكلام كما في : عرضت الناقة على الحوض . ولذا ورد أيضا : زينوا أصواتكم بالقرآن . والحاصل أنه إن صحت الرواية وطابقت الدراية ، فلا وجه للتخطئة ، ثم لا شك في حصول إعزاز الدين به - رضي الله عنه - أولا : من إخفائه إلى إعلانه ، كما في قوله تعالى : يا أيها النبي حسبك الله ومن اتبعك من المؤمنين وهو كمال الأربعين إيماء إلى ذلك . وآخرا من فتوحات البلاد وكثرة إيمان العباد وفيما بينهما من غلظته على المنافقين والمشركين كما في قوله تعالى : أشداء على الكفار إشعارا إليه ، بل وما تم أمر خلافة الصديق وجهاده مع المرتدين إلا بمعونته ، وما فتح باب النزاع والمخالفة الباعثة على المقاتلة فيما بين المسلمين إلا بعد موته وبعد غيبته ، ولعله - صلى الله عليه وسلم - أشار بذلك في قوله : ( لو كان بعدي نبي لكان عمر بن الخطاب ) . وقال داود بن الحصين والزهري : لما أسلم عمر نزل جبريل فقال : يا محمد استبشر أهل السماء بإسلام عمر ، وهو مروي عن ابن عباس على ما رواه أبو حاتم والدارقطني .

وقال المؤلف : هو عدوي قرشي يكنى أبا حفص ، أسلم سنة ست من النبوة ، وقبل سنة خمس بعد أربعين رجلا وإحدى عشرة امرأة ، ويقال : به تمت الأربعون . قال ابن عباس : سألت عمر بن الخطاب لأي شيء سميت الفاروق ؟ فقال : أسلم حمزة قبلي بثلاثة أيام ، ثم شرح الله صدري للإسلام فقلت : الله لا إله إلا هو له الأسماء الحسنى ، فما في الأرض نسمة أحب إلي من نسمة رسول الله - صلى الله عليه وسلم . فقلت أين : رسول الله - صلى الله عليه وسلم ؟ قالت أختي : هو في دار الأرقم عند بني الأرقم عند الصفا ، فأتيت الدار فإذا حمزة في أصحابه جلوس في الدار ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - في البيت فضربت الباب فاستجمع القوم فقال لهم حمزة : ما لكم ؟ قالوا : عمر بن الخطاب . قال : فخرج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأخذ بمجامع ثيابي ثم نثرني نثرة فما ملكت أن وقعت على ركبتي ، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : ( ما أنت بمنته يا عمر ) فقلت : أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، وأشهد أن

[ ص: 3901 ] محمدا عبده ورسوله ، فكبر أهل الدار تكبيرة سمعها أهل المسجد ، فقلت : يا رسول الله ألسنا على الحق إن متنا وإن حيينا ؟ قال : ( بلى ، والذي نفسي بيده إنكم على الحق إن متم وإن حييتم ) . فقلت : ففيم الاختفاء ؟ والذي بعثك بالحق لتخرجن ، فأخرجناه - صلى الله عليه وسلم - في صفين ، حمزة في أحدهما وأنا في الآخر ولي كديد ككديد الطحين ، حتى دخلنا المسجد ، فنظرت إلي قريش وإلى حمزة فأصابهم كآبة لم تصبهم مثلها ، فسماني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يومئذ الفاروق ، فرق الله بي بين الحق والباطل اهـ .

وذكر أهل التفسير عن ابن عباس أيضا أن منافقا خاصم يهوديا ، ودعاه اليهودي إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - ودعاه المنافق إلى كعب بن الأشرف ، ثم إنهما احتكما إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فحكم لليهودي فلم يرض المنافق وقال : نتحاكم إلى عمر ، فقال اليهودي لعمر : قضى لي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فحكم فلم يرض بقضائه وخاصم إليك ، فقال عمر للمنافق أكذلك ؟ قال : نعم ، فقال : مكانكما حتى أخرج إليكما ، فدخل فأخذ سيفه ثم خرج ، فضرب به عنق المنافق حتى برد وقال : هكذا أقضي لمن لم يرض بقضاء الله ورسوله ، فنزلت : ألم تر إلى الذين يزعمون أنهم آمنوا بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك يريدون أن يتحاكموا إلى الطاغوت قيل : فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : ( ما كنت أظن أن يجترئ عمر على قتل مؤمن ) فأنزل الله تلك الآية ، فهدر دم ذلك الرجل وبرئ عمر عن قتله ظلما ، فقال جبريل - عليه السلام - : إن عمر فرق بين الحق والباطل فسمي الفاروق وقد قال السيوطي : ورد أيضا بلفظ ابن عمر من حديث عمر نفسه أخرجه البيهقي في ( الدلائل ) ، ومن حديث أنس أخرجه البيهقي ، ومن حديث ابن مسعود أخرجه الحاكم ، ومن حديث ربيعة السعدي أخرجه البغوي في ( معجمه ) ، ومن حديث ابن عباس وخباب أخرجهما ابن عساكر في تاريخه ، ومن حديث عثمان بن الأرقم ومرسل سعيد بن المسيب ومراسيل الزهري ، أخرجهما ابن سعد في ( الطبقات ) ، وورد بلفظ عائشة من حديث ابن عباس رواه الحاكم ، ومن حديث ابن عمر أخرجه ابن سعد ، ومن حديث أبي بكر الصديق أخرجه الطبراني في ( الأوسط ) ، ومن حديث ابن مسعود أخرجه ابن عساكر ، ومن حديث ثوبان أخرجه الطبراني ، ومن مرسل الحسن أخرجه ابن سعد . وقال ابن عساكر في الجمع بين اللفظين : إنه دعا بالأول أولا ، فلما أوحي إليه أن أبا جهل لن يسلم خص عمر بدعائه ، فأجيب فيه ، وقد اشتهر هذا الحديث على الألسنة بلفظ : بأحب العمرين ، ولا أصل له من طرق الحديث بعد الفحص البالغ اهـ كلام السيوطي رحمه الله .




الخدمات العلمية