الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
6048 - وعن بريدة - رضي الله عنه - قال : خرج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في بعض مغازيه فلما انصرف جاءت جارية سوداء . فقالت : يا رسول الله ! إني كنت نذرت إن ردك الله صالحا أن أضرب بين يديك بالدف وأتغنى فقال لها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : ( إن كنت نذرت فاضربي ، وإلا فلا ) فجعلت تضرب ، فدخل أبو بكر وهي تضرب ، ثم دخل علي وهي تضرب ، ثم دخل عثمان وهي تضرب ، ثم دخل عمر فألقت الدف تحت استها ثم قعدت عليها ، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : ( إن الشيطان ليخاف منك يا عمر ! إني كنت جالسا وهي تضرب ، فدخل أبو بكر وهي تضرب ، ثم دخل علي وهي تضرب ، ثم دخل عثمان وهي تضرب ، فلما دخلت أنت يا عمر ألقت الدف ) . رواه الترمذي ، وقال : هذا حديث حسن صحيح غريب .

التالي السابق


6048 - ( وعن بريدة ) : بالتصغير ( قال : خرج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في بعض مغازيه ) أي : أزمنة غزواته ( فلما انصرف جاءته ) أي : النبي - صلى الله عليه وسلم - وفي نسخة جاءت ( جارية سوداء فقالت : يا رسول الله إني كنت نذرت إن ردك الله صالحا ) أي : منصورا وفي رواية : سالما ( أن أضرب بين يديك ) أي : قدامك وفي حضورك ( بالدف ) : بضم الدال وتشديد الفاء وهو أفصح وأشهر ، وروي الفتح أيضا هو ما يطبل به ، والمراد به الدف الذي كان في زمن المتقدمين ، وأما ما فيه الجلاجل ، فينبغي أن يكون مكروها اتفاقا ، وفيه دليل على أن الوفاء بالنذر الذي فيه قربة واجب والسرور بمقدمه - صلى الله عليه وسلم - قربة ، سيما من الغزو الذي فيه تهلك الأنفس ، وعلى أن الضرب بالدف مباح وفي قوله : ( وأتغنى ) : دليل على أن سماع صوت المرأة بالغناء مباح إذا خلا عن الفتنة . ( فقال لها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : ( إن كنت نذرت فاضربي وإلا فلا ) . فيه دلالة ظاهرة على أن ضرب الدف لا يجوز إلا بالنذر ونحوه مما ورد فيه الإذن من الشارع كضربه في إعلان النكاح ، فما استعمله بعض مشايخ اليمن من ضرب الدف حال الذكر ، فمن أقبح القبيح ، والله ولي دينه وناصر نبيه . ( فجعلت تضرب ، فدخل أبو بكر وهي تضرب ) ، جملة حالية ( ثم دخل علي وهي تضرب ، ثم دخل عثمان وهي تضرب ، ثم دخل عمر فألقت الدف تحت استها ) : بهمز وصل مكسور وسكون سين أي أليتها بأن رفعتها ووضعته تحتها . ( ثم قعدت عليها ) ، أي على استها لتستره عن عمر هيبة ، وفي رواية : ثم قعدت عليه أي على الدف ( فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : ( إن الشيطان ليخاف منك يا عمر ) يريد به تلك المرأة السوداء لأنها شيطان الإنس وتفعل فعل الشيطان ، أو المراد شيطانها الذي يحملها على فعلها المكروه ، وهو زيادة الضرب التي هي من جنس اللهو على ما حصل به إظهار الفرح ، ( إني كنت جالسا ) : استئناف تعليل ( وهي تضرب ) : حال ( فدخل أبو بكر وهي تضرب ، ثم دخل علي وهي تضرب ، ثم دخل عثمان وهي تضرب ، فلما دخلت أنت يا عمر ألقت الدف ) . أي تحت استها ، ثم قعدت عليها . قال التوربشتي : وإنما مكنها - صلى الله عليه وسلم - من ضرب الدف بين يديه لأنها نذرت فدل نذرها على أنها عدت انصرافه على حال السلامة نعمة من نعم الله عليها ، فانقلب الأمر فيه من صنعة اللهو إلى صنعة الحق ، ومن المكروه إلى المستحب ، ثم إنه لم يكره من ذلك ما يقع به الوفاء بالنذر ، وقد حصل ذلك بأدنى ضرب ، ثم عاد الأمر في الزيادة إلى حد المكروه ، ولم ير أن يمنعها لأنه لو منعها - صلى الله عليه وسلم - كان يرجع إلى حد التحريم ، فلذا سكت عنها وحمد انتهاءها عما كانت فيه بمجيء عمر اهـ . وفيه أنه كان يمكن أن يمنعها منعا لا يرجع إلى حد التحريم .

[ ص: 3903 ] قال الطيبي : فإن قلت : كيف قرر إمساكها عن ضرب الدف هاهنا بمجيء عمر ، ووصفه بقوله : إن الشيطان ليخاف منك يا عمر ، ولم يقرر انتهاء أبي بكر - رضي الله عنه - الجاريتين اللتين كانتا تدففان أيام منى ؟ قلت : منع أبا بكر بقوله : دعهما ، وعلله بقوله : فإنها أيام عيد ، وقرر ذلك هنا فدل ذلك على أن الحالات والمقامات متفاوتة ، فمن حالة تقتضي الاستمرار ، ومن حالة لا تقتضيه . أقول : ويمكن أن يقال : منع الصديق لهما عن فعلهما بحضور الحضرة النبوية لا يخلو أنه من قصور آداب البشرية ، فلذا ما قرر له ذلك وبين له سبب استمرار فعلهما هنالك ، وأما هنا فلو دخل عمر ورآها على حالها بحضرة سماع النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه لم يكن يمنعها كما هو مقتضى حسن آدابه ، لكن لما جعل الله مأتاه سببا لانتهائها عن فعلها المكروه بحسب أصله ، ولو صار مندوبا بموجب نذرها ، واستحسنه - صلى الله عليه وسلم - وقرر امتناعها وقرر منعه بالقوة الإلهية الغالبة على الإرادة الشيطانية ، وقيل : إنه - صلى الله عليه وسلم - علم انتهاءها عما كانت فيه بمجيء عمر ، فسكت ليظهر بذلك فضل عمر ويقول ما قال اهـ . ولا يخفى أن هذه العلة مدخولة ، فإن الزيادة تبقى معلولة . نعم لا يبعد أن يكون انتهاء مدة ضرب الدف على طريق العرف بابتداء مأتى عمر في مجلس الحضرة النبوية ، وأظن أن هذا أظهر وأولى مما تقدم والله أعلم .

ثم ظهر لي وجه ، وهو أن يقال : إن عمر - رضي الله عنه - ما كان يحب ما صورته تشبه باطلا ، وإن كان هو من وجه حق ، ويؤيد ما روي عن الأسود بن سريع قال : أتيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقلت : يا رسول الله إني قد حمدت الله بمحامده فقال - عليه السلام - : ( إن ربك تعالى يحب المدح ، هات ما امتدحت به ربك ) قال : فجعلت أنشده فجاء رجل يستأذن قال : فاستنصتني له رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ووصف لنا أبو سلمة كيف استنصته قال : كما يصنع بالهر ، فدخل الرجل فتكلم ساعة ثم خرج ، ثم أخذت أنشده أيضا ثم رجع بعد فاستنصتني فقلت : يا رسول الله من ذا الذي تستنصتني له ؟ فقال : ( هذا رجل لا يحب الباطل ، هذا عمر بن الخطاب ) أخرجه أحمد ، وأطلق على هذا باطلا وهو متضمن حقا لأنه حمد ومدح لله إلا أنه من جنس الباطل إذ الشعر كله جنس واحد ، ومن هذا القبيل ما روي عن عائشة أنها قالت : أتيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بحريرة طبختها له ، فقلت لسودة والنبي - صلى الله عليه وسلم - بيني وبينها : كلي ، فأبت . فقلت : لتأكلن أو لألطخن وجهك . فأبت ، فوضعت يدي في الحريرة وطليت بها وجهها ، فضحك النبي - صلى الله عليه وسلم - فوضع فخذه لها وقال لسودة : ( الطخي وجهها ) فلطخت وجهي ، فضحك النبي - صلى الله عليه وسلم - أيضا ، فمر عمر فنادى : يا عبد الله يا عبد الله ! فظن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه سيدخل فقال : ( قوما فاغسلا وجوهكما ) قالت عائشة : فما زلت أهاب عمر لهيبة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إياه . رواه ابن غيلان من حديث الهاشمي ، وخرجه الملا في سيرته . ( رواه الترمذي ، وقال : هذا حديث حسن غريب ) .




الخدمات العلمية