الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
6075 - وعن ثمامة بن حزن القشيري - رضي الله عنه - قال : شهدت الدار حين أشرف عليهم عثمان فقال : أنشدكم الله والإسلام هل تعلمون أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قدم المدينة وليس بها ماء يستعذب غير بئر رومة ؟ فقال : ( من يشتري بئر رومة يجعل دلوه مع دلاء المسلمين بخير له منها في الجنة ؟ ) فاشتريتها من صلب مالي ، وأنتم اليوم تمنعونني أن أشرب منها حتى أشرب من ماء البحر ؟ ، فقالوا : اللهم نعم . فقال أنشدكم الله والإسلام ، هل تعلمون أن المسجد ضاق بأهله فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : ( من يشتري بقعة آل فلان فيزيدها في المسجد بخير له منها في الجنة ؟ ) فاشتريتها من صلب مالي ، فأنتم اليوم تمنعونني أن أصلي فيها ركعتين ؟ ، قالوا اللهم نعم . قال : أنشدكم الله والإسلام ، هل تعلمون أني جهزت جيش العسرة من مالي ؟ قالوا : اللهم نعم . قال : أنشدكم الله والإسلام ، هل تعلمون أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان على ثبير مكة ومعه أبو بكر وعمر وأنا ، فتحرك الجبل حتى تساقطت حجارته بالحضيض ، فركضه برجله قال : ( اسكن ثبير ، فإنما عليك نبي وصديق وشهيدان ) ; قالوا : اللهم نعم . قال : الله أكبر ، شهدوا ورب الكعبة أني شهيد ، ثلاثا . رواه الترمذي ، والنسائي ، والدارقطني .

التالي السابق


6075 - ( وعن ثمامة ) : بضم المثلثة ( ابن حزن ) : بفتح حاء مهملة وسكون زاي فنون ( القشيري ) : بالتصغير يعد في الطبقة الثانية من التابعين ، رأى عمر وابنه عبد الله ، وأبا الدرداء ، وسمع عائشة ، وروى عنه الأسود بن شيبان البصري . ( قال : شهدت الدار ) ، أي : حضرت دار عثمان التي حاصروه فيها ، وتفصيل قضيتها مذكور في " الرياض " وغيره . ( حين أشرف عليهم عثمان ) ، أي : اطلع على الذين قصدوا قتله ( فقال : أنشدكم الله والإسلام ) : بضم الشين ونصب الاسمين أي : أسألكم بالله والإسلام أي : بحقهما ( هل تعلمون أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قدم المدينة وليس

[ ص: 3922 ] بها ماء يستعذب ) ، أي : يعد عذبا أي : حلوا ( غير بئر رومة ) ؟ برفع " غير " وجوز نصبه والبئر مهموز ويبدل ، ورومة بضم الراء وسكون الواو فميم ، اسم بئر في العقيق الأصفر اشتراها عثمان - رضي الله عنه - بمائة ألف درهم ، وفي المدينة عقيقان سميا بذلك لأنهما عقا عن حرة المدينة أي : قطعا ( فقال ) ، أي : النبي - صلى الله عليه وسلم - ( من يشتري بئر رومة يجعل دلوه مع دلاء المسلمين ) : بكسر الدال جمع دلو وهو كناية عن الوقف العام ، وفيه دليل على جواز وقف السقايات ، وعلى خروج الموقوف عن ملك الواقف حيث جعله مع غيره سواء ، ذكره ابن الملك ، وجملة يجعل مفعول له أو حال أي : إرادة أن يجعل أو قاصدا أن يجعل دلوه مساويا أو مصاحبا مع دلائهم في الاستقاء ، ولا يخصها من بينهم بالملكية فقوله : مع دلاء المسلمين هو المفعول الثاني لجعل أي : يجعل دلوه . روي عن عثمان - رضي الله عنه - أنه قال : إن المهاجرين قدموا المدينة واستنكروا ماءها ، وكان لرجل من بني غفار عين يقال لها رومة ، وكان يبيع القربة منها بمد ، فقال - صلى الله عليه وسلم - : ( هل تبيعها بعين في الجنة ) قال : يا رسول الله ليس لي ولا لعيالي سواها فلا أستطيع ذلك ، فقال : ( من يشتري بئر رومة يجعل دلوه مع دلاء المسلمين ) ( بخير ) : متعلق بيشتري والباء للبدل . قال الطيبي : وليست مثلها في قولهم اشتريت هذا بدرهم ولا في قوله تعالى : أولئك الذين اشتروا الضلالة بالهدى فالمعنى من يشتريها بثمن معلوم ثم يبدلها بخير منها أي : بأفضل وأكمل أو بخير حاصل ( له ) ، أي : لأجله ( منها ) ، أي : من تلك البئر أو من جهتها ( في الجنة ) فاشتريتها من صلب مالي ) ، بضم الصاد أي : من أصله أو خالصه . في " الرياض " ، قال : فبلغ ذلك عثمان فاشتراها بخمسة وثلاثين ألف درهم ، ثم أتى النبي - صلى الله عليه وسلم - وقال : اجعل لي مثل الذي جعلته له عينا في الجنة . قال : نعم . قال : قد اشتريتها وجعلتها للمسلمين ، أخرجه الفضائلي . ( وأنتم اليوم تمنعونني أن أشرب منها حتى أشرب من ماء البحر ) ؟ أي : مما فيه ملوحة كماء البحر ، والإضافة فيه للبيان أي : ما يشبه البحر ( فقالوا : اللهم نعم ) . قال المطرزي : قد يؤتى باللهم ما قبل إلا إذا كان المستثنى عزيزا نادرا وكان قصدهم بذلك الاستظهار بمشيئة الله تعالى في إثبات كونه ووجوده إيماء إلى أنه بلغ من الندور . حد الشذوذ وقيل كلمتي الجحد والتصديق في جواب المستفهم كقوله : اللهم لا ونعم ( فقال : أنشدكم الله والإسلام ، هل تعلمون أن المسجد ) ، أي : مسجد النبي - صلى الله عليه وسلم - في المدينة ( ضاق بأهله فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : ( من يشتري بقعة آل فلان فيزيدها ) : بالرفع وفي نسخة بالنصب أي : فتزيد تلك البقعة ( في المسجد بخير له منها في الجنة ) . فاشتريتها من صلب مالي ) ، أي : بعشرين ألفا أو خمسة وعشرين ألفا على ما رواه الدارقطني . وروى البخاري عن ابن عمر : أن المسجد كان على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مبنيا باللبن وسقفه بالجريد وعمده خشب النخل ، فلم يزد فيه أبو بكر شيئا ، وزاد فيه عمر ، وبناه على بنائه على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - باللبن والجريد وأعاد عمده خشبا ، ثم عمره عثمان فزاد فيه زيادة كثيرة وبنى جداره بالحجارة المنقوشة ، وجعل عمده من حجارة منقوشة وسقفه بالساج . وأخرج أبو الخير القزويني الحاكمي ، عن سالم بن عبد الله بن عمر ، أنه كان من شأن عثمان أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال لرجل من أهل مكة : ( يا فلان ألا تبيعني دارك أزيدها في مسجد الكعبة ببيت أضمنه في الجنة ) فقال الرجل : يا رسول الله ما لي بيت غيره فإن أنا بعتك داري لا يؤويني وولدي بمكة شيء قال : ( ألا بل بعني دارك أزيدها في مسجد الكعبة ببيت أضمنه لك في الجنة ) . فقال الرجل والله ما لي إلى ذلك حاجة ، فبلغ ذلك عثمان ، وكان الرجل صديقا له في الجاهلية ، فأتاه فلم يزل به عثمان حتى اشترى منه داره بعشرة آلاف دينار فقال : يا رسول الله بلغني أنك أردت من فلان داره لتزيدها في مسجدالكعبة ببيت تضمنه له في الجنة ، وإنما هي داري فهل أنت آخذها ببيت تضمنه لي في الجنة ؟ فأخذها منه وضمن له بيتا في الجنة ، وأشهد له على ذلك المؤمنين كذا في الرياض .

[ ص: 3923 ] ( فأنتم ) : بالفاء هنا خلافا ، لما تقدم ( اليوم تمنعونني أن أصلي فيها ) . أي : في تلك البقعة فضلا عن سائر المسجد . ( فقالوا : اللهم نعم . قال ) : بلا فاء هنا وفيما بعده خلافا لما قبل ( أنشدكم الله والإسلام ، هل تعلمون أني جهزت جيش العسرة من مالي ) ؟ أي : وقال لي ما قال مما يدل على حسن حالي ومآلي ( قالوا : اللهم نعم . قال : أنشدكم الله والإسلام ، هل تعلمون أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان على ثبير مكة ) : بفتح مثلثة وكسر موحدة وتحتية ساكنة فراء جبل بمكة . وفي " المصباح " : جبل بين مكة ومنى ، وهو يرى من منى وهو على يمين الذاهب منها إلى مكة .

وقال الطيبي : ثبير جبل بالمزدلفة على يسار الذاهب إلى منى ، وهو جبل كبير مشرف على كل جبل بمنى ، وبمكة جبال كل منها اسمه ثبير اهـ . والمشهور أنه جبل مشرف على منى من جمرة العقبة إلى تلقاء مسجد الخيف وأمامه قليلا على يسار الذاهب إلى عرفات ، كذا حكاه عز الدين بن جماعة . وقال عياض في المشارق : إنه على يسار الذاهب إلى منى . وقال ابن جماعة ، وقيل : وهو جبل عظيم بالمزدلفة على يمين الذاهب إلى عرفة . قال الطبري ، وقيل : هو أعظم جبل بمكة عرف برجل من هذيل كان اسمه ثبيرا دفن فيه . وقال الجوهري والسهيلي والمطرزي في المغرب : هو جبل من جبال مكة أي بقرب مكة ، وقيل : هو جبل مقابل لجبل حراء اهـ .

وفي رواية قال : حراء مكان ثبير ( ومعه أبو بكر وعمر وأنا ، فتحرك الجبل ) أي : اهتز ثبير ( حتى تساقطت حجارته ) أي : بعضها ( بالحضيض ) ، أي أسفل الجبل وقرار الأرض ( فركضه ) أي : ضربه ( برجله . قال ) : استئناف ( اسكن ثبير ) ، أي يا ثبير ( فإنما عليك نبي وصديق وشهيدان ) ، أي حقيقيان حيث قتلا عقب الطعن وماتا قريبا من أثر الضرب ، وهما عمر وعثمان ، ولا ينافيه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - والصديق شهيدان حكميان حيث كان أثر موتهما من السم القديم لهما ( قالوا : اللهم نعم . قال : الله أكبر ) كلمة يقولها المتعجب عند إلزام الخصم وتبكيته ، ولذلك قال ( شهدوا ورب الكعبة أني شهيد ) ، بفتح الهمزة مفعول شهدوا أي شهد الناس أني شهيد ( ثلاثا ) أي : قال الله أكبر إلى آخره ثلاث مرات لزيادة المبالغة في إثبات الحجة على الخصم ، وذلك لأنه لما أراد أن يظهر لهم أنه على الحق ، وأن خصماءه على الباطل على طريق يلجئهم إلى الإقرار بذلك ، أورد حديث ثبير مكة ، وأنه من أحد الشهيدين مستفهما عنه فأقروا بذلك وأكدوا إقرارهم بقولهم : اللهم نعم فقال : الله أكبر تعجبا وتعجيبا وتجهيلا لهم واستهجانا لفعلهم ، ونظيره قوله تعالى : هل يستويان مثلا الحمد لله بل أكثرهم لا يعلمون فإنه تعالى لما ضرب مثل عابد الأصنام وعابد الله تعالى برجلين أحدهما له شركاء بينهم اختلاف ، وتنازع كل واحد منهم يدعي أنه عبده فهم يتجاذبونه ، وهو متحير في أمره لا يدري أيهم يرضى بخدمته ، والآخر قد سلم لمالك واحد وخلص له ، فهو يلتزم خدمته ، فهمه واحد وقلبه مجتمع ، واستفهم منهم بقوله : هل يستويان مثلا فلا بد لهم أن يذعنوا ويقولوا : لا ، فقال : الحمد لله بل أكثرهم لا يعلمون كذا حققه الطيبي ( رواه الترمذي ، والنسائي ، والدارقطني ) . وفي بعض الروايات زاد : وأنشدكم بالله من شهد بيعة الرضوان إذ بعثني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى المشركين أهل مكة فقال : هذه يدي وهذه يد عثمان ، فبايع لي فانتشد له رجال . زاد الدارقطني في بعض طرقه : وأنشدكم بالله هل تعلمون أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - زوجني إحدى ابنتيه بعد الأخرى رضا لي ورضا عني ؟ قالوا : اللهم نعم .

[ ص: 3924 ]



الخدمات العلمية