الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
1742 - وعن عبد الله بن أبي مليكة قال : توفيت بنت لعثمان بن عفان بمكة ، فجئنا لنشهدها ، وحضرها ابن عمر ، وابن عباس ، فإني لجالس بينهما ، فقال عبد الله بن عمر لعمر بن عثمان وهو مواجهه ، ألا تنهى عن البكاء ; فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " إن الميت ليعذب ببكاء أهله عليه ، فقال ابن عباس : قد كان عمر يقول بعض ذلك ثم حدث ، فقال : صدرت مع عمر من مكة حتى إذا كنا بالبيداء ، فإذا هو بركب تحت ظل سمرة ، فقال : اذهب فانظر من هؤلاء الركب ؟ فنظرت فإذا هو صهيب . قال : فأخبرته ، فقال : ادعه ، فرجعت إلى صهيب فقلت : ارتحل فالحق أمير المؤمنين ، فلما أن أصيب عمر دخل صهيب يبكي ، يقول : وا أخاه ، وا صاحباه ، فقال عمر : يا صهيب أتبكي علي وقد قال رسول الله : " إن الميت ليعذب ببعض بكاء أهله عليه ؟ ! " فقال ابن عباس : فلما مات عمر ذكرت ذلك لعائشة قالت : يرحم الله عمر ، لا والله ما حدث رسول الله صلى الله عليه وسلم : إن الميت ليعذب ببكاء أهله عليه ، ولكن إن الله يزيد الكافر عذابا ببكاء أهله ، وقالت عائشة : حسبكم القرآن " ولا تزر وازرة وزر أخرى " .

قال ابن عباس عند ذلك : والله أضحك وأبكى قال ابن مليكة : فما قال ابن عمر شيئا . متفق عليه .

التالي السابق


1742 - ( وعن عبد الله بن أبي مليكة ) بالتصغير . ( قال : توفيت بنت لعثمان بن عفان ) قيل : إنه من منصرف . ( بمكة فجئنا لنشهدها ) أي : لنحضر صلاتها ودفنها . ( وحضرها ابن عمر وابن عباس ) أي : وقد حضراها أيضا . ( فإني لجالس بينهما ) . قال الطيبي : الظاهر أن يقال : وإني لجالس ليكون حالا ، والعامل حضر ، والفاء تستدعي الاتصال بقوله : فجئنا لنشهدها ، نقله السيد جمال الدين ، وقال ميرك : وقع في البخاري بالواو اهـ . وقال ابن حجر تبعا لظاهر كلام الطيبـي : قوله فإنى جالس عطف على فجئنا اهـ . ولا يخفى عدم ظهور اتصاله بقوله : فجئنا [ ص: 1243 ] لنشهدها أيضا ، وإلا لكان الأمر سهلا بأن يقال : جملة وحضرها اعتراضية بينهما ، فالأظهر أن الفاء دخلت على مقدر تقديره : فبعد حضورها إني لجالس بينهما إشعارا بكمال الاطلاع على ما نقل عنهما . ( فقال عبد الله بن عمر لعمرو بن عثمان وهو ) أي : ابن عمر . ( مواجهه ) أي : مقابل ابن عثمان . ( ألا تنهى ) أي : أهلك . ( عن البكاء ) أي : بالصياح والنياح . ( فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " إن الميت ليعذب ببكاء أهله عليه ، فقال ابن عباس ) أي : معترضا على ابن عمر بأن عائشة خالفته كأبيه ، وأن البكاء قد يكون ضروريا وهو لا يكلف به ذكره ابن حجر ، وفيه أن الثاني خارج عن المبحث إجماعا ، وخلاف عائشة غير مذكور هنا ، وأبوه موافق له إما في الكل أو في البعض لقوله : ( قد كان عمر رضي الله عنه يقول بعض ذلك ) أي : العموم ، وهو أن يكون لصوت أو ندبة عند المشرف على الموت ، أو يروي أي : بعض ذلك الكلام ; لأن في روايته ببعض بكاء أهله كما سيأتي . ( ثم حدث ) أي : روى ابن عباس ما سمعه من عمر رضي الله عنه . ( فقال : صدرت ) أي : رجعت مع عمر من مكة سائرا . ( حتى إذا كنا بالبيداء ) بفتح الموحدة وسكون التحتية موضع قريب من ذي الحليفة . ( فإذا هو ) أي : عمر . ( بركب ) أي : جماعة من الركبان . ( تحت ظل سمرة ) بفتح السين وضم الميم : نوع شجر . ( فقال ) أي : عمر لي . ( اذهب فانظر ) أي : تحقق . ( من هؤلاء الركب ؟ ) أي : كبيرهم أو أميرهم . ( فنظرت فإذا هو صهيب ) أي : ومن معه . ( قال ) أي : ابن عباس . ( فأخبرته ) أي : عمر به أو بالخبر . ( فقال : ادعه ) بضم الهاء ويجوز إسكانها أي : اطلب صهيبا . ( فرجعت إلى صهيب فقلت ) : أي : لصهيب . ( ارتحل ) أي : من مكانك . ( فالحق ) بفتح الحاء أي : اتبع . ( أمير المؤمنين ) أي : أمره أو الاجتماع به ، وهذا توطئة للمصاحبة الخصوصية الخاصة ، والمؤاخاة السالفة بين عمر وصهيب ; فإنه من أكابر الصحابة ، ولهذا قال : ( فلما أن ) زائدة . ( أصيب عمر ) أي : جرح في المحراب ، ونقل إلى بيته مع الأصحاب بعد دخولهم المدينة بقليل بضرب ذلك المجوسي له بخنجره ، ضربات متعددة ، وهو يصلي بالناس الصبح ، فسقط وحمل إلى بيته ، وضرب به كثيرين وهو يشق الصفوف حتى ألقي عليه برنس خشية من خنجره المسلول بيده ، لكل من والاه ، فلما أحس اللعين بذلك قتل نفسه ، وكمل عبد الرحمن بن عوف الصلاة للناس ودخل الناس على عمر يتعرفون الخبر . ( دخل ) أي : عليه . ( صهيب يبكي ) حال . ( يقول ) بدل اشتمال من يبكي . ( وا أخاه وا صاحباه ) ليس في هذا نوح نظير ما صدر عن فاطمة رضي الله عنها من قولها وا أبتاه جنة الفردوس مأواه ، يا أبتاه إلى جبريل ننعاه لما تقرر من أن شرط النوح أن يقترن برفع صوت . ( فقال عمر : يا صهيب ، أتبكي علي ) أي : بالصوت والندبة . ( وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : إن الميت ) أي : مطلقا أو المشرف على الموت ( ليعذب ببعض بكاء أهله عليه ) أقول : هذا أحسن ما ورد في الحديث من أنواع رواياته ; لأنه قابل لجميع ما ذكر من تأويلاته ، وإن كان ظاهر إيراد عمر أنه أراد بالبعض ما كان على وجه الندبة ، وطريقة النوحة على الميت حكما أو حقيقة ، فإنه قابل أن يكون المراد بالبعض ما يكون عن وصيته ، أو من نحو يهودية ، فإن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب ، وقالابن حجر : أي : وهم الذين أوصاهم دون ما لم يوصيهم ، وهذا لا ينافي رواية ابن عمر ببكاء أهله ; لأنه محمول على ما إذا أوصاهم كلهم ، فمآل الروايتين إلى شيء واحد ، وحينئذ فلا اعتراض على ابن عمر ; لأن كلا منه ومن أبيه مقال اللفظ الذي سمعه من النبي صلى الله عليه وسلم اهـ . وفيه أن الحمل المفهوم مخالف لما فهم عمر رضي الله عنه من العموم ، ثم المراد بأهل الميت أعم من أقاربه وأصحابه ، كما يدل على فهم عمر رضي الله عنه فالأظهر أن يراد بالميت المحتضر ، وبالعذاب تشويش خاطره ممن حوله بغير ذكر الله ، من الأمور العادية ، فإنه حينئذ في مراقبة [ ص: 1244 ] الأحوال الأخروية ، ولذا قال الصديق الأكبر : ليتني كنت أخرس إلا عن ذكر الله ، إذ المناسب حينئذ الدعاء والذكر تهوينا أو تلقينا ، والله أعلم . ( فقال ابن عباس : فلما مات عمر رضي الله عنه ذكرت ذلك ) أي : الكلام أو الحديث ( لعائشة ) رضي الله عنها . ( فقالت : يرحم الله عمر ) فيه إشارة إلى أنه وقع منه سهو يحتاج إلى عفو ، وفيه من الآداب الحسنة على منوال قوله تعالى . ( عفا الله عنك ) قال الطيبي : استغربت من عمر ذلك القول ، فجعلت قولها : يرحم الله عمر تمهيدا ودفعا لما يوجب من نسبته إلى الخطأ . ( لا ) أي : ليس كذلك . ( والله ، ما حدث رسول الله صلى الله عليه وسلم : إن الميت ) بكسر الهمزة وتفتح . ( ليعذب ببكاء أهله عليه ) أي : مطلقا ، ولا مقيدا بالبعض ، وهذا النفي المؤكد بالقسم منها بناء على ظنها أو زعمها ، أو مقيد بسماعها ، وإلا فمن حفظ حجة على من لم يحفظ ، والمثبت مقدم على النافي ، وكيف والحديث روي من طرق صحيحة بألفاظ صريحة ؟ ! مع أنه بعمومه لا ينافي ما قالت بخصوصه . ( ولكن ) أي : الذي حدث به جملة " إن الله . . . " إلخ ، وفي نسخة : ولكن قال : ( إن الله يزيد الكافر عذابا ببكاء أهله عليه ) فيه أن النفي منها رضي الله عنها هنا مناقض لما قالت تأكيدا لقولها أولا . ( حسبكم القرآن ) بسكون السين المهملة أي : كافيكم القرآن في تأييد ما ذهبت من الخبر : ولا تزر وازرة وزر أخرى الجملة بدل كل أو بعض من القرآن أو خبر مبتدأ محذوف هو هو . قال الطيبي : الوزر والوقر أخوان ، وزر الشيء إذا حمله ، والوازرة صفة النفس ، والمعنى أن كل نفس يوم القيامة لا تحمل إلا وزرها ، لا تؤخذ نفس بذنب نفس كما تأخذ جبارة الدنيا الولي بالولي ، والجار بالجر اهـ .

ولا يخفى أن الآية بظاهرها ينافي ما ذكرت من : أن الكافر يعذب ببكاء أهله عليه . ( قال ابن عباس عند ذلك ) أي : عند قول عائشة ، أو عند نقله عنها مؤيدا لها ، ومصداقا لكلامها . ( والله ) بالرفع مع الواو ، وهو حاصل معنى الآية بلفظ وأنه هو أضحك وأبكى قال ميرك : أي : أن العبرة لا يملكها ابن آدم ، ولا تسبب له فيها ، فكيف يعاقب عليها ؟ ! فضلا عن الميت اهـ . وتبعه ابن حجر وحاصله جواز عموم البكاء وهو خلاف الإجماع ، مع مناقضته لما ثبت عن ابن عباس أنه قال في قوله : لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها من أن الصغيرة التبسم ، والكبيرة القهقهة ، على ما نقل عنه البغوي في المعالم ، ثم قال ميرك : قدر الداودي معناه : أن الله أذن في الجميل من البكاء ، فلا يعذب بما أذن فيه اهـ . وهو خارج عن البحث كما لا يخفى ، ثم قال : وقال الطيبي : غرضه تقرير لنفي ما ذهب إليه ابن عمر : من أن الميت يعذب ببكاء الأهل ، وذلك أن بكاء الإنسان وضحكه ، وحزنه وسروره من الله يظهرها فيه ، فلا أثر لها في ذلك اهـ .

وفيه أن الكل من عند الله خلقا ، ومن العبد كسبا كما هو مقرر ، والشرع قد اعتبر ما يترتب عليه من الأثر كسائر أفعال البشر ، ألا ترى أن الضحك والتبسم في وجه المؤمن من الحسنات ، وعلى المؤمن على وجه السخرية من السيئات ، وكذلك الحزن والسرور تارة يكونان من الأحوال السنية يثاب الشخص بهما ، وتارة من الأفعال الدنية يعاقب عليهما ، كما هو مقرر في علم الأخلاق والتصوف ، وزبدته في الإحياء ، ثم قال الطيبي : فإن قلت : كيف لم يؤثر ذلك قي حق المؤمن وقد أثر في حق الكافر ؟ ! قلت : لأن المؤمن الكامل لا يرضى بالمعصية مطلقا ، سواء صدرت منه أو من غيره بخلاف الكافر ، ومن ثم قالت الصديقة رضي الله عنها : حسبكم القرآن ، أي : كافيكم أيها المؤمنون من القرآن هذا الآية : ولا تزر وازرة وزر أخرى إنها في شأنكم ، وما ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم : أن الله يزيد الكافر عذابا ببكاء أهله عليه في شأن الكفار ، أقول : لا دلالة لقولها على هذا المدعي ، مع أن العبرة بعموم ألفاظ الآيات والأحاديث في المعنى لا لخصوص الأسباب في المبنى ، وأغرب ابن حجر : وجعل الخلاف بين عائشة وبين غيرها من الصحابة رضي الله عنهم لفظيا ، مع أن لهم أقوالا مختلفة المباني ولا يمكن حينئذ جمعها في واحد من المعاني ، ثم قال : واعتذر بأن الفاروق رضي الله عنه كان الغالب عليه الخوف ، فقال ذلك لسوء ظنه بنفسه ، والصديقة رضي الله عنها كانت في مقام الرجاء ، وحسن الظن بالله في حق المؤمنين ، فقالت ذلك ، ولكل وجه هو موليها اهـ .

وهذا بإشارات الصوفية أشبه ، وإنما الكلام فيما صدر عن مشكاة صدر النبوة ، وما يتعلق به من أحكام الشريعة ، والله أعلم . ( قال ابن أبي مليكة : فما قال ابن عمر شيئا ) أي : شيء من [ ص: 1245 ] القول أو شيئا آخر . قال الطيبي : أي : فعند ذلك سكت ابن عمر وأذعن ، قلت : لا دلالة في السكوت على الإذعان بل ترك المجادلة كما هو شأن أرباب العرفان . ( متفق عليه ) قال ابن حجر : وفيه أن المجتهد أسير الدليل وأن له لأجل ذلك أن يخطئ غيره ، وأن يحلف على خطئه وإن كان أجل منه وأوسع علما ، إذ عمر كذلك مع عائشة رضي الله عنها اهـ . وفيه دليل صريح ونقل صحيح يصلح للرد على بعض المنتسبين إلى فقه الشافعي من أهل زماننا المعترضين علينا ممن لم يخرج عن حضيض التقليد ، ولم يتخلص من قيد التقييد ، ولم يبرز في ميدان التحقيق ، والتأييد عند اعتراضنا على ابن حجر : إذا وقع له كلام غير سديد ; لأن مثلك لا يجوز له الاعتراض على شيخ الإسلام ، مفتي الأنام ابن حجر : الذي هو جبل من جبال العلم عند الأئمة الأعلام .




الخدمات العلمية