الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
1959 - وعنه قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " كل عمل ابن آدم يضاعف الحسنة بعشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف " قال الله - تعالى - " إلا الصوم فإنه لي وأنا أجزي به ، يدع شهوته وطعامه من أجلي ، للصائم فرحتان ، فرحة عند فطره ، وفرحة عند لقاء ربه ، ولخلوف فم الصائم أطيب عند الله من ريح المسك ، والصيام جنة ، وإذا كان يوم صوم أحدكم فلا يرفث ولا يصخب ، فإن سابه أحد أو قاتله فليقل : إني امرؤ صائم " متفق عليه .

التالي السابق


1959 - ( وعنه ) أي أبي هريرة ( قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " كل عمل ابن آدم " ) أي كل عمل صالح لابن آدم " يضاعف " أي ثوابه فضلا منه - تعالى - " الحسنة " مبتدأ وخبر أي جنس الحسنات الشامل لأنواع الطاعات مضاعف ومقابل " بعشر أمثالها " لقوله - تعالى - : من جاء بالحسنة فله عشر أمثالها وهذا أقل المضاعفة ، وإلا فقد يزداد " إلى سبعمائة ضعف " بكسر الضاد أي مثل ، بل إلى أضعاف كثيرة ، كما في التأويل من ذا الذي يقرض الله قرضا حسنا فيضاعفه له أضعافا كثيرة وقوله والله يضاعف لمن يشاء وقال بعضهم : التقدير حسنته ، واللام عوض عن العائد إلى المبتدأ وهو كل ، أو العائد محذوف أي الحسنة منه ، وقال القاضي : أراد بـ " كل عمل " الحسنات من الأعمال ، فلذلك وضع الحسنة موضع الضمير الراجع إلى المبتدأ في الخبر ، أي الحسنات يضاعف أجرها من عشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف " قال الله - تعالى - : إلا الصوم " فإن ثوابه لا يقادر قدره ، ولا يحصي حصره إلا الله لاشتماله على خصوصيات لا توجد في غيره ، ولذلك يتولى جزاءه بنفسه ، ولا يكله إلى ملائكة قدسه ، قال الطيبي : هو مستثنى عن كلام غير محكي ، دل عليه ما قبله ، يحتمل أن يكون أول الكلام حكاية إلا أنه لم يصرح بذلك في صدره ، بل في وسطه اهـ . وهو أظهر مما قبله ، ويحتمل أنه - صلى الله عليه وسلم - لما أفاد الجملة المتقدمة أتاه الوحي أو الإلهام من الله - تعالى - بالاستثناء فحكاه بألفاظه المنزلة ، قال الطيبي - رحمه الله - : واختص بهذه الفضيلة لوجهين : الأول أنه سر لا يطلع عليه العباد بخلاف سائر العبادات ، فيكون خالصا لوجه الله - تعالى ، وإليه أشير بقوله - تعالى - " فإنه لي " لأن الصوم لا صورة له في الوجود ، بخلاف سائر العبادات ، إذ كثيرا ما يوجد الإمساك المجرد عن الصوم ، فلا مقوم له إلا النية التي لا يطلع عليها غيره - تعالى ، ولو أظهر بقوله : أنا صائم ، فإنه لا يدل على حقيقته وتصحيح نيته " وأنا أجزي به " أي وأنا العالم بجزائه ، وإلي أمره ، ولا أكله إلى غيري ، والثاني أنه يتضمن كسر النفس وتعريض البدن للنقصان ، مع ما فيه من الصبر على الجوع ، والعطش ، وسائر العبادات راجعة إلى صرف المال واشتغال البدن بما فيه رضاه ، فبينه [ ص: 1363 ] وبينها أمد بعيد ، وإليه يشير بقوله - تعالى - " يدع شهوته " أي يترك ما اشتهته نفسه من محظورات الصوم " وطعامه " تخصيص بعد تعميم ، أو الشهوة كناية عن الجماع ، والطعام عبارة عن سائر المفطرات ، وقدم الجماع اهتماما بشأنه فإنه أقبح مفسداته ( من أجلي ) أي من جهة أمري وقصد رضائي ، وأجري ، وفيه إيماء إلى اعتبار النية والإخلاص في الصوم ، وإشعار بأن الصوم لا رياء فيه أصلا ; لأن غاية ما يقوله المرائي : أنا صائم ، وهو لا يوجب رياء في أصل الصوم ، إنما الذي وقع به الرياء الإخبار عن الصوم لا غير ، وقال ابن الملك : قوله " فإنه لي " أي لم يشاركني فيه أحد ، ولا عبد به غيري ، وهذا لأن جميع العبادات التي يتقرب بها إلى الله - تعالى - قد عبد بها المشركون آلهتهم ، ولم يسمع أن طائفة منهم عبدت آلهتها بالصوم ، ولا تقربت به إليها في عصر من الأعصار اهـ وصوم المستخدمين لنحو الجن أو النجوم ليس لذواتهم بل ليتخلوا عن الكدورات الجسمانية حتى يقدروا على ملاقاة الصور الروحانية " للصائم فرحتان " أي مرتان من الفرح عظيمتان : إحداهما في الدنيا والأخرى في الآخرة " فرحة عند فطره " أي إفطاره بالخروج عن عهدة المأمور ، أو بوجدان التوفيق لإتمام الصوم ، أو بالأكل والشرب بعد الجوع والعطش ، أو بما يرجوه من حصول الثواب ، وقد ورد : " ذهب الظمأ وثبت الأجر " ، أو بما جاء في الحديث من أن للصائم عند إفطاره دعوة مستجابة " وفرحة عند لقاء ربه " أي بنيل الجزاء أو حصول الثناء أو الفوز باللقاء " ولخلوف فم الصائم " بفتح لام الابتداء تأكيدا ، وبضم الخاء المعجمة من خلف فمه إذا تغير رائحة فمه ، خلوفا بالضم لا غير ، قال الزركشي : ومنهم من فتح الخاء ، قال الخطابي : وهو خطأ ، أي ما يخلف بعد الطعام في فم الصائم من رائحة كريهة بخلاف المعتاد " أطيب " أي أفضل وأرضى وأحب " عند الله من ريح المسك " عندكم لأن رائحة فم الصائم من أثر الصيام وهو عبادة يجزي بها الله - تعالى - بنفسه صاحبها ، كذا قاله ابن الملك ، وقال بعض علمائنا : فضل ما ينكر من الصيام على أطيب ما يستلذ به من جنسه ليقاس عليه ما فوقه من آثار الصوم ونتائجه اهـ وفيه إشارة إلى أنه لا يلزم من هذه العبارة عدم إزالة الخلوف بالسواك وغيره ، كما استدل الشافعي بهذا الحديث على أن السواك بعد الزوال مكروه ، لأن نظيره قول الوالدة : لبول ولدي أطيب من ماء الورد عندي ، وهو لا يستلزم عدم غسل البول ، فكذا هذا ، وسيأتي بسط هذه المسألة إن شاء الله - تعالى - في أثناء باب تنزيه الصوم " والصيام جنة " بضم الجيم أي وقاية كالقوس ، والمراد أنه حجاب وحصن للصائم من المعاصي في الدنيا ومن النار في العقبى " وإذا " وفي نسخة صحيحة : فإذا أي إذا عرفت ما في الصوم من الفضائل الكاملة والفوائد الشاملة " كان يوم صوم أحدكم " برفع يوم على أن كان تامة ، وقيل بالنصب ، فالتقدير إذا كان الوقت يوم صوم أحدكم " فلا يرفث " بضم الفاء ويكسر ، قال الزركشي : بتثليث الفاء وهو كذلك في القاموس " ولا يصخب " بفتح الخاء المعجمة أي لا يرفع صوته بالهذيان ، وإنما نهى عنهما ليكون صومه كاملا ، فالمعنى ليكن الصائم صائما عن جميع المناهي والملاهي ، وفي رواية للبخاري : ولا يجهل ، قال الزركشي : وهو العمل بخلاف ما يقتضيه العلم اهـ فهو تعميم بعد تخصيص " فإن سابه أحد " أي ابتدأه بسب أو شتم " أو قاتله " أي أراد قتله بحرب أو ضرب أو مخاصمة ومجادلة " فليقل : إني امرؤ صائم " وهو إما باللسان لينزجر خصمه فكأنه قال له : إذا كنت صائما لا يجوز لي أن أخاصمك بالشتم والهذيان ، فلا يليق بك أن تعارضني في هذا الوقت ، لأنه على خلاف المروءة عادة ، فيندفع خصمه ، أو معناه : فلا ينبغي منك التطاول علي بلسانك ، أو بيدك لأني في ذمة الله - تعالى ، ومن يخفر الله في ذمته يهلكه ، ولا مني بأن أغضب وأجازيك ، أو يقول في نفسه ليعلم أنه لا يجوز له الفحش والغضب اهـ وفي رواية للبخاري : فليقل إني صائم مرتين ، قال الزركشي : أي بقلبه ولسانه ، لتكون فائدة ذكره بقلبه كف نفسه عن مقاتلته خصمه ، وذكره بلسانه كفا لخصمه عن الزيادة ، وهو من أسرار الشريعة ( متفق عليه ) .

[ ص: 1364 ]



الخدمات العلمية