الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
2264 - وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - " يقول الله تعالى : أنا عند ظن عبدي بي ، وأنا معه إذا ذكرني ، فإن ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي وإن ذكرني في ملأ ، ذكرته في ملأ خير منهم . " ( متفق عليه ) .

التالي السابق


2264 - ( وعن أبي هريرة قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " يقول الله تعالى : أنا عند ظن عبدي " : أي : المؤمن ( بي ) : وزاد في رواية : إن ظن خيرا ، وإن ظن شرا ، وفي رواية : فليظن بي ما شاء ، وفي رواية : فلا يظن بي إلا خيرا ، والمعنى أني عند يقينه لي في الاعتماد على فضلي ، والاستيثاق بوعدي ، والرهبة من وعيدي ، والرغبة فيما عندي . أعطيه إذا سألني ، وأستجيب له إذا دعاني . وقال الطيبي : الظن لما كان واسطة بين اليقين والشك ، استعمل تارة بمعنى اليقين ، وذلك إن ظهرت أماراته ، وبمعنى الشك إذا ضعفت علاماته ، وعلى المعنى الأول قوله تعالى : الذين يظنون أنهم ملاقوا ربهم أي : يوقنون وعلى المعنى الثاني قوله تعالى : وظنوا أنهم إلينا لا يرجعون [ ص: 1542 ] أي : توهموا . والظن في الحديث يجوز إجراؤه على ظاهره ، ويكون المعنى أنا أعامله على حسب ظنه بي ، وأفعل به ما يتوقعه مني من ضر أو شر ، والمراد الحث على تغليب الرجاء على الخوف وحسن الظن بالله ، كقوله - عليه الصلاة والسلام - : " لا يموتن أحدكم إلا وهو يحسن الظن بالله " ويجوز أن يراد بالظن اليقين ، والمعنى ، أنا عند يقينه بي ، وعلمه بأن مصيره إلي وحسابه علي ، وأن ما قضيت به له أو عليه من خير أو شر لا مرد له ، ولا معطي لما منعت ، ولا مانع لما أعطيت . أي : إذا رسخ العبد في مقام التوحيد ، وتمكن في الإيمان والوثوق بالله قرب منه ورفع له الحجاب بحيث إذا دعاه أجاب ، وإذا سأله استجاب ، كما في حديث أبي هريرة أنه - عليه الصلاة والسلام - قال عن الله تعالى : " إذا علم عبدي أن له ربا يغفر الذنب ويأخذ به غفرت له " .

وقال أبو طالب المكي : وكان ابن مسعود يحلف بالله تعالى ما أحسن عبد ظنه بالله تعالى إلا أعطاه ذلك ، لأن الخير كله بيده ، فإذا أعطاه حسن الظن به ، فقد أعطاه ما يظنه لأن الذي حسن ظنه به هو الذي أراد أن يحققه له . وقال ابن عطاء : إن لم تحسن ظنك به لأجل حسن وصفه ، حسن ظنك به لأجل معاملته معك ، فهل عودك إلا حسنا ؟ وهل أسدى إليك إلا مننا ؟ .

قال شارح الحكم بن عباد : حسن الظن يطلب من العبد في أمر دنياه ، وفي أمر آخرته ، أما أمر دنياه : فأن يكون واثقا بالله تعالى في إيصال المنافع والمرافق إليه من غير كد ولا سعي ، أو بسعي خفيف مأذون فيه ومأجور عليه ، وبحيث لا يفوته ذلك شيئا من فرض ولا نفل ، فيوجب له ذلك سكونا وراحة في قلبه وبدنه ، فلا يستفزه طلب ولا يزعجه سبب ، وأما أمر آخرته : فأن يكون قوي الرجاء في قبول أعماله الصالحة ، وتوفية أجوره عليها في دار الثواب والجزاء ، فيوجب له ذلك المبادرة لامتثال الأمر والتكثير من أعمال البر بوجدان حلاوة واغتباط ، ولذاذة ونشاط ، ومن مواطن حسن الظن بالله تعالى التي لا ينبغي للعبد أن يفارقه فيها : أوقات الشدائد والمحن ، وحلول المصائب في الأهل والمال والبدن ، لئلا يقع بسبب عدم ذلك في الجزع والسخط ، وقد قال ابن عطاء : من ظن انفكاك لطفه عن قدره ، فذاك لقصور نظره .

وإنما بسطت الكلام ؛ لأن أكثر الأنام لا يفرقون بين الغرور وحسن الظن . ( وأنا معه ) : أي : بالتوفيق والحفظ والمعونة أو أسمع ما يقوله ، أو عالم بحاله لا يخفى علي شيء من مقاله ( إذا ذكرني ) : أي : بلسانه وقلبه ( فإن ذكرني ) : تفريع يفيد أنه تعالى مع الذاكر ، سواء ذكره في نفسه أو مع غيره ( في نفسه ) : أي : سرا وخفية أو تثبيتا وإخلاصا ( ذكرته في نفسي ) : أي : أسر بثوابه على منوال عمله ، وأتولى بنفسي إثابته لا أكله إلى غيري ( وإن ذكرني في ملأ ) : أي : مع جماعة من المؤمنين ، أو في حضرتهم ( ذكرته ) : أي : بالثناء الجميل وإعطاء الأجر الجزيل وحسن القبول وتوفيق الوصول ، وقيل : المراد مجازاة العبد بأحسن مما فعله وأفضل مما جاء به ( في ملأ خير منهم ) : أي : من ملأ الذاكرين من حيث عصمتهم عن المعصية ، وشدة قوتهم على الطاعة ، وكمال إطلاعهم على أسرار الألوهية ، ومشاهدتهم أنواع أنوار الملكوتية ، ولفظ الحصن : خير منه بصيغة الإفراد نظرا إلى لفظ الملأ .

قال ميرك في حاشية الحصن : كذا وقع في أصل السماع وجميع النسخ الحاضرة منه بصيغة الواحد ، والذي في الأصول من البخاري ، ومسلم ، والترمذي ، وابن ماجه منهم بضمير الجمع . قال الطيبي : أي من الملائكة المقربين وأرواح المرسلين ، فلا دلالة على كون الملائكة أفضل من البشر . وقال ابن الملك : اختلف هل البشر خير من الملائكة أم لا ؟ رجح كلا مرجحون ، قيل : والمختار أن خواص البشر كالأنبياء خير من خواص الملائكة كجبريل ، وأما عوام البشر فليسوا بخير من الملائكة أصلا ، فقوله : " في ملأ خير منهم " أي : خير منهم حالا : فإن حال الملائكة خير من حال الإنس في الجد والطاعة . قال الله تعالى : لا يعصون الله ما أمرهم وأحوال المؤمنين مختلفة بين طاعة ، ومعصية ، وجد ، وفترة اهـ .

[ ص: 1543 ] ومراد الطيبي أن جنس البشر أفضل من جنس الملائكة ، ولا ينافيه التفصيل المشهور ، وأما قول ابن حجر : فالملأ الموصوف بأنه خير منهم هم المقربون الذين تقرر أنهم أفضل من عوامنا ، وحينئذ فالحديث لا يدل على خلاف من التفصيل الذي هو الأصح عند أهل السنة ، وبهذا يعلم رد قول الشارح فمردود ، لأن ملأ الذاكر قد يكون فيه نبي من الأنبياء ، فلا بد من تأويل الطيبي ، أو من حمل الخيرية على الأمر الإضافي أو الاستغراقي أو الغالبي ( متفق عليه ) : ورواه الترمذي ، والنسائي ، وابن ماجه . وروى البزار من حديث ابن عباس مرفوعا قال : " قال الله تبارك وتعالى : يا ابن آدم إذا ذكرتني خاليا ذكرتك خاليا وإذا ذكرتني في ملأ ذكرتك في ملأ خير من الذين تذكرني فيهم " وإسناده صحيح .




الخدمات العلمية