الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
2408 - وعن أبي هريرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه كان يقول إذا أوى إلى فراشه : ( اللهم رب السماوات ورب الأرض ورب كل شيء فالق الحب والنوى منزل التوراة والإنجيل والقرآن وأعوذ بك من شر كل ذي شر أنت آخذ بناصيته ، أنت الأول فليس قبلك شيء ، وأنت الآخر فليس بعدك شيء ، وأنت الظاهر فليس فوقك شيء ، وأنت الباطن فليس دونك شيء ، اقض عني الدين واغنني من الفقر ) . رواه أبو داود والترمذي وابن ماجه ورواه مسلم مع اختلاف يسير .

التالي السابق


2408 - ( وعن أبي هريرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه كان يقول إذا أوى إلى فراشه ) وفي الحصن يقول وهو مضطجع ( اللهم رب السماوات ) زيد في بعض روايات مسلم لفظة السبع ( ورب الأرض ) أي : خالقهما ، ومربي أهلهما ، وزيد في الحصن ورب العرش العظيم بالجر والنصب ( ورب كل شيء ) تعميم بعد تخصيص ( فالق الحب ) الفلق بمعنى الشق ( والنوى ) جمع النواة وهي عظم النخل وفي معناه عظم غيرها ، والتخصص لفضلها أو لكثرة وجودها في ديار العرب ، يعني : يا من شقها فأخرج منهما الزرع والنخيل ( ومنزل التوراة ) من الإنزال ، وقيل من التنزيل ( والإنجيل والقرآن ) وفي الحصن الفرقان بدل القرآن لأنه يفرق به بين الحق والباطل ، ولعل ترك الزبور لأنه مندرج في التوراة ، أو لكونه مواعظ ليس فيه أحكام ، قال الطيبي : فإن قلت ما وجه النظم بين هذه القرائن ؟ قلت : وجهه أنه - صلى الله عليه وسلم - لما ذكر أنه تعالى رب السماوات والأرض أي : مالكهما ومدبر أهلهما عقبه بقوله فالق الحب والنوى لينتظم معنى الخالقية والمالكية لأن قوله تعالى يخرج الحي من الميت ويخرج الميت من الحي تفسير لفالق الحب والنوى ، ومعناه يخرج الحيوان النامي من النطفة ، والحب من النوى ، ويخرج الميت من الحي أي : يخرج هذه الأشياء من الحيوان والنامي ، ثم عقب ذلك بقوله منزل التوراة ليؤذن بأنه لم يكن إخراج الأشياء من كتم العدم إلى فضاء الوجود إلا ليعلم ويعبد ، ولا يحصل ذلك إلا بكتاب ينزله ورسول يبعثه كأنه قيل : يا مالك يا مدبر يا هادي أعوذ بك ، وهذا كلام طيب ينبغي أن يكتب بماء الذهب ، وتعقبه ابن حجر بما [ ص: 1671 ] يليق أن يغسل بماء زمزم حتى يذهب ( أعوذ ) ثم في نسخة وأعوذ بواو العاطفة ولا يخفى ما فيها من عدم الملاطفة ، والمعنى أعتصم وأعوذ ( بك من شر كل ذي شر ) وفي الحصن : من شر كل شيء ( أنت آخذ بناصيته ) وفي رواية مسلم : من شر كل دآبة أنت آخذ بناصيتها ( أنت الأول ) وفي الحصن : اللهم أنت الأول أي : القديم بلا ابتداء ( فليس قبلك شيء ) قيل : هذا تقرير للمعنى السابق ، وذلك أن قوله : أنت الأول مفيد للحصر بقرينة الخبر باللام فكأنه قيل : أنت مختص بالأولية فليس قبلك شيء ، وعلى هذا ما بعده ( وأنت الآخر ) أي : الباقي بلا انتهاء ( فليس بعدك شيء ) أي : بعد آخريتك المعبر بها عن البقاء شيء يكون له بقاء لذاته ، ويمكن أن يكون بعدك بمعنى غيرك ، والمعنى أن غيرك فإن في حد ذاته ولو كان له بقاء ما في حال حياته كما يدل عليه قوله تعالى : كل شيء هالك إلا وجهه و كل من عليها فان بصيغة الفاعل الدال على أنه موصوف به الآن ، ومنه قول لبيد المستحسن على لسان النبي - صلى الله عليه وسلم - :

ألا كل شيء ما خلا الله باطل

، قال الباقلاني : تمسكت المعتزلة بقوله : " ليس بعدك شيء " على أن الأجسام تفنى بعد الموت وتذهب بالكلية ، ومذهب أهل السنة بخلافه ، والمراد : أن الفاني هو الصفات ، والأجزاء المتلاشية باقية اهـ . ويؤيده ما ورد في الأحاديث الصحيحة من بقاء عجب الذنب ، وما صح من الأخبار أن الله تعالى حرم على الأرض أن تأكل أجساد الأنبياء ( وأنت الظاهر ) أي : الأفعال والصفات ، أو الكامل في الظهور ( فليس فوقك ) أي : فوق ظهورك ( شيء ) يعني : ليس شيء أظهر منك لدلالة الآيات الباهرة عليك ، وقيل : ليس فوقك شيء في الظهور ، أو أنت الغالب فليس فوقك غالب ( وأنت الباطن ) أي : باعتبار الذات ( فليس دونك شيء ) أي : ليس شيء أبطن منك ، ودون يجيء بمعنى غير ، والمعنى ليس - غيرك - في البطون شيء أبطن منك ، وقد يجيء بمعنى قريب ، فالمعنى : ليس شيء في البطون قريبا منك ، وقيل : معنى الظهور والبطون تجليه لبصائر المتفكرين واحتجابه عن أبصار الناظرين ، ولذا قال بعض الصوفية : ظاهر في عين الباطن وباطن في عين الظاهر ( اقض عني ) وفي رواية عنا ( الدين ) يجوز أن يراد به حقوق الله ، وحقوق العباد جميعا ، ولما قالت عائشة - رضي الله عنها - : يا رسول الله ما رأيتك تستعيذ من شيء أكثر مما تستعيذ من الدين ، بين لها - صلى الله عليه وسلم - أن الدين يترتب عليه مفاسد كخلف الوعد وتعمد الكذب ، ولذا جاء في حديث الدين " هم بالليل مذلة بالنهار " ( واغنني ) وفي رواية واغننا ( من الفقر ) أي : الاحتياج إلى المخلوق ، أو من الفقر القلبي ، لما ورد : " كاد الفقر أن يكون كفرا " ( رواه أبو داود والترمذي وابن ماجه ) وكذا النسائي . وابن أبي شيبه ( ورواه مسلم مع اختلاف يسير ) كما أشرنا إليه .




الخدمات العلمية