الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
2877 - وعن عائشة قالت : جاءت بريرة فقالت : إني كاتبت على تسع أواق في كل عام وقية فأعينيني . فقالت عائشة : إن أحب أهلك أن أعدها لهم عدة واحدة وأعتقك فعلت ويكون ولاؤك لي . فذهبت إلى أهلها فأبوا إلا أن يكون الولاء لهم . فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - " خذيها وأعتقيها " ثم قام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في الناس فحمد الله وأثنى عليه ثم قال " أما بعد فما بال رجال " يشترطون شروطا ليست في كتاب الله ما كان من شرط ليس في كتاب الله ، فهو باطل وإن كان مائة شرط فقضاء الله أحق وشرط الله أوثق ، وإنما الولاء لمن أعتق " . متفق عليه .

التالي السابق


2877 - ( وعن عائشة قالت : جاءت بريرة ) وهي جارية حبشية أو أمة صحابية ( فقالت إني كاتبت ) أي اشتريت نفسي وقبلت الكتابة ( على تسع أواق في كل عام وقية فأعينيني ) أي في أداء الكتابة ( فقالت عائشة : إن أحب أهلك ) أي رضوا ( أن أعدها ) بفتح الهمزة وضم العين أي أعطيها والضمير للتسع الأواق ( لهم عدة واحدة ) أي جملة حاضرة ( وأعتقك ) بضم الهمزة ( فعلت ويكون ) بالرفع وفي نسخة بالنصب ( ولاؤك ) بفتح الواو ( لي فذهبت إلى أهلها فأبوا ) أي عن جميع الصور ( إلا أن يكون الولاء لهم ) قال الطيبي : الاستثناء مفرغ لأن في أبى معنى النفي . الكشاف في قوله - تعالى - ويأبى الله إلا أن يتم نوره قد أجري أبى مجرى لم يرد ، ألا [ ص: 1943 ] ترى كيف قوبل يريدون ليطفئوا نور الله بقوله ويأبى الله وأوقعه موقع لم يرد ( فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خذيها ) أي اشتريها ( وأعتقيها ) ظاهره جواز بيع رقبة المكاتب وبه قال مالك وأحمد ، وجوابه : أن بريرة بيعت برضاها وذلك فسخ الكتابة ، ذكره ابن مالك أو أنها عجزت نفسها عن أداء الكتابة فوقع العقد على الرقبة دون المكاتب ، ويؤيده قولها : فأعينيني . قال القاضي : ظاهر مقدمة هذا الحديث يدل على جواز بيع رقبة المكاتب وإليه ذهب النخعي ومالك وأحمد وقالوا : يصح بيعه ولكن لا تنفسخ كتابته حتى لو أدى النجوم إلى المشتري عتق وولاؤه للبائع الذي كاتبه . وأول الشافعي الحديث بأنه جرى برضاها وكان ذلك فسخا للكتابة منها ، ويحتمل أن يقال : إنها كانت عاجزة عن الأداء فلعل السادة عجزوها وباعوها ، واختلف في جوازه مع نجوم الكتابة فمنعه أبو حنيفة والشافعي وجوزه مالك ، وأول قوم حديث بريرة عليه بقول عائشة - رضي الله عنها - أعدها لهم ، والضمير لتسع أواق التي وقعت عليها الكتابة وبما جاء في بعض الروايات " فإن أحبوا أن أقضي عنك كتابك " ويرده عتق عائشة - رضي الله عنها - إياها وما روى ابن شهاب عن عروة عن عائشة أنه - صلى الله عليه وسلم - قال : " ابتاعي وأعتقي " وفي رواية أخرى أنه قال اشتريها وأعتقيها وأما ما احتجوا به فدليل عليهم لأن مشتري النجوم لا يعدها ولا يؤديها وإنما يعطي بدلها وأما مشتري الرقبة إذا اشتراها بمثل ما انعقدت به الكتابة فإنه يعده ، وفحوى الحديث يدل على جواز بيع الرقبة بشرط العتق لأنه يدل على أنهم شرطوا الولاء لأنفسهم وشرط الولاء لا يتصور إلا بشرط العتق وإن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أذن لعائشة - رضي الله عنها في إجابتهم بالشراء بهذا الشرط ، ولو كان العقد فاسدا لم يأذن فيه ولم يقرر العقد وإليه ذهب النخعي والشافعي وابن أبي ليلى رحمهم الله وأبو ثور ، وذهب أصحاب أبي حنيفة إلى فساده ، والقائلون بصحة العقد اختلفوا في الشرط ، فمنهم من صححه وبه قال الشافعي في الجديد لأنه - صلى الله عليه وسلم - أذن فيه ، ولأنه لو فسد لانفسد العقد لأنه شرط يتعلق به غرض ولم يثبت فيفسد العقد للنص والمعنى المذكورين قيل منهم من ألغاه كابن أبي ليلى وأبي ثور ويدل أيضا على صحة البيع بشرط الولاء وفساد الشرط أنه - صلى الله عليه وسلم - قرر العقد وأنفذه وحكم ببطلان الشرط وقال " إنما الولاء لمن اعتق " وبه قال ابن أبي ليلى وأبو ثور والشافعي في القديم والأكثرون على فساد العقد لما سبق من النص والمعنى وقالوا : ما جرى الشرط في بيع بريرة ولكن القوم ذكروا ذلك طمعا في ولاتها جاهلين بأن الولاء لا يكون إلا للمعتق وما روى هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة - رضي الله عنها أنه قال " خذيها واشترطيها " زيادة تفرد بها ، والتاركون لها كابن شهاب عن عروة : عن عائشة والقاسم بن محمد عنهما أكثر عددا أو أشد اعتبارا فلا تسمع لأن السهو على واحد أجوز منه على جماعة قال الشافعي كيف يجوز في صفة الرسول ومكانه من الله أن ينكر على الناس شرطا باطلا ويأمر أهله بإجابتهم إلى الباطل ، وهو على أهله في الله أشد وأغلظ . قال الطيبي : وعلي هذا التقدير والاحتمال ينهدم ما ذكرنا من الاستدلال ولا يكون فيه ما يدل على جواز شرط العتق في العقد وصحته . ( ثم قام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في الناس ) أي خطيبا ( فحمد الله ) أي على نعمه ( وأثنى عليه ) أي في كرمه ( ثم قال أما بعد ) فصلا للخطاب وقصدا للعتاب ( فما بال رجال ) كذا في النسخ المصححة والأصول المعتمدة من المشكاة بالفاء . وقال الطيبي - رحمه الله : كذا في البخاري بلا فاء . قال المالكي أما حرف قائم مقام أداة الشرط والفعل الذي عليها فلذلك يقدرها النحويون مهما يكن من شيء وحق المتصل بالمتصل بها أن تصحبه الفاء نحو قوله - تعالى - فأما عاد فاستكبروا في الأرض ولا تحذف هذه الفاء غالبا إلا في شعر أو مع يشترطون قول أغنى عنه مقولة نحو فأما الذين اسودت وجوههم أكفرتم أي فيقال لهم أكفرتم وقوله - صلى الله عليه وسلم - أما موسى كأني أنظر إليه وقول [ ص: 1944 ] عائشة : وأما الذين جمعوا بين الحج والعمرة طافوا طوافا واحدا ، فقد خولفت القاعدة في هذا الحديث فيعلم بالتحقيق عدم التضييق وأن من خصه بالشعر أو بالصورة المعينة من النثر مقصر في فتواه وعاجز عن نصرة دعواه . ( يشترطون شروطا ليست ) أي تلك الشروط ( في كتاب الله ) أي على وفق حكم كتابه وموجب قضائه أو المراد بكتاب الله حكم الله ، وليس المراد به القرآن ; لأن الولاء لمن أعتق ليس في القرآن أو المراد بالكتاب المكتوب أي في اللوح المحفوظ وقيل المراد بالكتاب القرآن ونظيره ما قاله ابن مسعود في الواشمة : مالي لا ألعن من لعن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو في كتاب الله ثم استدل على كونه في كتاب الله عز وجل بقوله وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا ( ما كان من شرط ليس في كتاب الله ) ما شرطية ومن زائدة لأن الكلام غير موجب والجزاء قوله ( فهو باطل وإن كان مائة شرط ) إن وصلية للمبالغة ولا مفهوم للعدد . قال الطيبي معناه أنه ولو شرط مائة مرة وهو من الشرط الذي يتبع به الكلام السابق بلا جزاء مبالغة وتقريرا ( فقضاء الله ) أي حكمه ( أحق ) أي بالاتباع . قال الطيبي - رحمه الله : الفاء فيه جواب شرط محذوف ولفظ القضاء يؤذن بأن المراد من كتاب الله في قوله " ليست في كتاب الله " قضاؤه وحكمه ( وشرط الله أوثق ) أي بالعمل به يريد به صلى الله عليه وسلم ما أظهره وبينه بقوله ( وإنما الولاء لمن أعتق ) واللام للعهد لا للجنس ، فاندفع ما قال الشافعي من بطلان ولاء الموالاة بإرداة اللام للجنس .

قال النووي : وفي هذا الشرط إشكال لأنه يفيد البيع وكيف وهو متضمن للخداع والتغرير أم كيف أذن لأهله ما لا يصح ؟ ولهذا الأشكال أنكر بعض العلماء هذا الحديث بجملته وما في معناه في الرواية الأخرى من قوله " واشترطي لهم الولاء لأن الولاء لمن أعتق " وقال الجمهور هذه اللفظة صحيحة ، واختلفوا في تأويلها فقيل " لهم " بمعنى " عليهم " كما قال تعالي لهم اللعنة أي عليهم وإن أسأتم فلها أي فعليها وهو ضعيف لأنه صلى الله عليه وسلم أنكر عليهم الاشتراط ، ولو كان كما قال القائل لم ينكره وقد يجاب عنه بأنه - صلى الله عليه وسلم - إنما أنكر ما أرادوا اشتراطه في أول الأمر والأصح في تأويله ما قاله أصحابنا في كتب الفقه : أن هذا الشرط خاص في قضية عائشة - رضي الله عنها - واحتمل هذا الأذن وإبطاله هذه القضية الخاصة وهي قضية عين لا عموم لها . قالوا : والحكمة في إذنه ثم إبطاله المبالغة في قطع عادتهم في ذلك وزجرهم على مثله كما أذن لهم صلى الله عليه وسلم في الإحرام بالحج ثم أمرهم بنسخه وجعله عمرة ليكون أبلغ في زجرهم وقطعهم عما اعتادوه من منع العمرة في أشهر الحج ، وقد تحتمل المفسدة اليسيرة لتحصيل مصلحة عامة . قال العلماء : الشرط في البيع ونحوه أقسام منها شرط يقتضيه إطلاق العقد بأن شرط تسليمه إلى المشتري أو تبقية الثمرة على الشجر إلى أوان الجذاذ ، ومنها شرط فيه مصلحة وتدعو إليه الحاجة كاشتراط التضمين والخيار ونحو ذلك ، فهذان شرطان جائزان ولا يؤثران في صحة العقد بلا خوف ، ومنها اشتراط العتق في العبد والأمة ترغيبا في العتق لقوته وسرايته . ( متفق عليه ) .




الخدمات العلمية