الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
3249 - وعن جابر قال دخل أبو بكر يستأذن على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فوجد الناس جلوسا ببابه لم يؤذن لأحد منهم ، قال : فأذن لأبي بكر فدخل ، ثم أقبل عمر فاستأذن فأذن له ، فوجد النبي - صلى الله عليه وسلم - جالسا حوله نساؤه واجما ساكتا ، قال : فقلت : لأقولن شيئا أضحك النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : يا رسول الله لو رأيت بنت خارجة سألتني النفقة فقمت إليها فوجأت عنقها ، فضحك رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وقال : هن حولي كما ترى يسألنني النفقة فقام أبو بكر عن عائشة يجأ عنقها ، وقام عمر إلى حفصة يجأ عنقها كلاهما يقول تسألين رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ما ليس عنده ثم اعتزلهن شهرا أو تسعا وعشرين ثم نزلت هذه الآية ( ياأيها النبي قل لأزواجك ) حتى بلغ ( للمحسنات منكن أجرا عظيما ) قال فبدأ بعائشة قال : يا عائشة إني أريد أن أعرض أمرا أحب أن لا تعجلي فيه حتى تستشيري أبويك ، قالت : وما هو يا رسول الله ؟ فتلا عليها الآية قالت : أفيك يا رسول الله أستشير أبوي بل أختار الله ورسوله والدار الآخرة وأسألك أن لا تخبر امرأة من نسائك بالذي قلت ، قال : لا تسألني امرأة منهن إلا أخبرتها إن الله لم يبعثني معنتا ولا متعنتا ولكن بعثني معلما ميسرا " . رواه مسلم .

التالي السابق


3249 - ( وعن جابر قال : دخل أبو بكر ) : أي : أراد الدخول ( يستأذن على رسول الله صلى الله عليه وسلم ) : حال أو استئناف بيان ( فوجد ) : أي : أبو بكر ( الناس ) : أي : عمومهم ( جلوسا ) : أي : جالسين أو ذوي جلوس ( ببابه لم يؤذن لأحد منهم ، قال ) : أي : جابر ( فأذن ) : بضم الهمزة ويفتح ( لأبي بكر فدخل ثم أقبل عمر فاستأذن فأذن له فوجد ) : أي : عمر ( النبي - صلى الله عليه وسلم - جالسا حوله نساؤه ) : لعل هذا قبل نزول الحجاب ( واجما ) : أي : حزينا مهتما ( ساكتا ) : في النهاية : الواجم من أسكته الهم وعلته الكآبة . ( فقال ) : أي : عمر في نفسه وفي نسخة ( قلت لأقولن شيئا أضحك النبي - صلى الله عليه وسلم - ) بضم الهمزة وكسر الحاء وفي رواية يضحك النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو يحتمل أن يكون من الإضحاك ، والنسبة مجازية وأن يكون من الضحك ، فالتقدير يضحك به النبي - صلى الله عليه وسلم - ، والمراد حصول السرور والانشراح ، ورفع الكدورة بالمزاح ، قال النووي في شرح مسلم : قوله " يضحك " في نسخة " أضحك " فيه ندب مثل هذا ، وأن الإنسان إذا رأى صاحبه حزينا أن يحدثه حتى يضحك أو يشغله ويطيب نفسه . اهـ . وفي آداب المريدين للسهروردي - رحمه الله - ، عن علي - رضي الله عنه - أنه قال كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يسر الرجل من أصحابه إذا رآه مغموما بالمداعبة . ( فقال ) : أي : عمر ( يا رسول الله لو رأيت ) : أي : لو علمت ( بنت خارجة ) : يعني بها زوجته ولو للتمني ( سألتني النفقة ) : أي : الزيادة على العادة أو فوق الحاجة ( فقمت إليها فوجأت ) : بالهمز أي ضربت ( عنقها ) : بكفي ، في المغرب : الوجأ الضرب باليد يقال وجأ في عنقه من باب منع ، وقال الطيبي - رحمه الله - : الوجأ الضرب ، والعرب تحترز عن لفظ الضرب ؛ فلذلك عدل إلى الوجأ ، وفي القاموس : وجأه باليد والسكين كوضعه ضربه ، اهـ . وجاء الوجأ بمعنى الدق على ما في النهاية والله تعالى أعلم ( فضحك رسول الله - صلى الله [ ص: 2123 ] عليه وسلم وقال : هن ) : أي : نسائي ( حولي كما ترى يسألنني النفقة ) : أي : زيادتها عن عادتها ( فقام أبو بكر إلى عائشة - رضي الله عنها يجأ ) : أي : يدق ( عنقها وقام عمر إلى حفصة يجأ عنقها كلاهما يقول ) : خطابا لبنته ( تسألين رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ما ليس عنده فقلن ) : أي : عندهن أو ما عندي أن التثنية أقل الجمع ( والله لا نسأل رسول الله - صلى الله عليه وسلم ) : أي : بعد هذا ( شيئا ) : أي : من الأشياء ( أبدا ) : تأكيد " ألا نسأل " ( ليس عنده ) : أي : ذلك الشيء ( ثم اعتزلهن شهرا أو تسعا وعشرين ) : بناء على يمينه السابق ، والصحيح الثاني ولعله لم يبلغه فتردد فيه ثم نزلت هذه الآية ( ياأيها النبي قل لأزواجك ) حتى بلغ ( للمحسنات منكن أجرا عظيما ) : وهو ( إن كنتن تردن الحياة الدنيا وزينتها فتعالين أمتعكن وأسرحكن سراحا جميلا وإن كنتن تردن الله ورسوله والدار الآخرة فإن الله أعد ) إلخ ( قال ) : أي : جابر ( فبدأ ) : أي : في التخيير ( بعائشة - رضي الله عنها ) : فإنها أعقلهن وأفضلهن ( فقال : يا عائشة إني أريد أن أعرض عليك أمرا أحب أن لا تعجلي فيه ) : أي : في جوابه من تلقاء نفسك ( حتى تستشيري أبويك ) : خوفا عليها من صغر سنها المقتضي إرادة زينة الدنيا أن لا تختار الآخرة ، وفي رواية عنها " وقد علم أن أبوي لم يكونا ليأمراني بفراقه " قال النووي - رحمه الله - : إنما قال " لا تعجلي " شفقة عليها وعلى أبويها ، ونصيحة لهم في بقائها عنده ، فإنه خاف أن يحملها صغر سنها وقلة تجاربها على اختيار الفراق ، فتتضرر هي وأبواها وباقي النسوة بالاقتداء بها . ( قالت : وما هو ) : أي : ذلك الأمر ( يا رسول الله ، فتلا عليها الآية ) : أي : المذكورة ( قالت : أفيك ) : أي : في فراقك أو في وصالك أو في حقك ( يا رسول الله استشير أبوي ) : لأن الاستشارة فرع التردد في القضية المختارة ( بل ) : أي : لا أستشير أحدا ( أختار الله ورسوله والدار الآخرة ) : وفي الكلام إيماء إلى أن إرادة زينة الحياة الدنيا وطلب الدار الآخرة لا يجتمعان على وجه الكمال ، ولذا قال - صلى الله عليه وسلم : " من أحب دنياه أضر بآخرته ومن أحب آخرته أضر بدنياه فآثروا ما يبقى على ما يفنى " . ( وأسألك أن لا تخبر امرأة من نسائك بالذي قلت ) : أما أنها أرادت اختيارهن الدنيا ليخلص لها الوصال في الدنيا والكمال في العقبى ( قال لا تسألني امرأة منهن إلا أخبرتها ) : لأعينها به على اختيار المختار تقليدا أو تحقيقا ( إن الله لم يبعثني معنتا ) : بالتشديد أي موقعا أحدا في أمر شديد والعنة المشقة والإثم أيضا ( ولا متعنتا ) : أي : طالبا لزلة أحد ( ولكن بعثني معلما ) : أي : للخير ( ميسرا ) : أي : مسهلا للأمر وفي نسخة مبشرا أي لمن آمن بالجنة والنعيم ولمن اختار الله ورسوله والدار الآخرة بالأجر العام ، قال : قتادة فلما اخترن الله ورسوله شكرهن على ذلك وقصره عليهن فقال : لا يحل لك النساء من بعد كذا ذكره البغوي ( رواه مسلم ) : قال النووي : فيه جواز احتجاب الإمام والقاضي ونحوهما في بعض الأوقات لحاجاتهم المهمة والغالب من عادة النبي - صلى الله عليه وسلم - أن لا يتخذ حاجبا ، فاتخاذه في ذلك اليوم ضرورة ، وفيه وجوب الاستئذان على الإنسان في منزله ، وفيه أنه لا فرق بين الخليل وغيره في احتياج الاستئذان ، وفيه تأديب الرجل ولده وإن كبر فاستقل ، وفيه ما كان عليه - صلى الله عليه وسلم - من التقلل من الدنيا والزهادة فيها ، وفيه جواز سكن الغرفة لذات الزوج ، واتخاذ الخزانة ، وفيه ما كانوا عليه من حرصهم على طلب العلم ، وفيه أن للزوج تخيير زوجته واعتزاله عنها في بيت آخر ، وفيه دلالة لمذهب مالك والشافعي وأبي حنيفة وأحمد وجماهير العلماء أن من خير زوجته واختارته لم يكن ذلك طلاقا ولا يقع به فرقة ، وروى عن علي وزيد بن ثابت والحسن والليث أنه يقع الطلاق بنفس التخير طلقة بائنة سواء اختارت زوجها أم لا ، ولعل القائلين به لم يبلغهم هذا الحديث اهـ . وسيأتي بهذه المسألة زيادة بيان وبرهان والله المستعان .

[ ص: 2124 ]



الخدمات العلمية