الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
3298 - وعن سليمان بن يسار قال : أدركت بضعة عشر من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كلهم يقول : يوقف المؤلي . رواه في ( شرح السنة ) .

التالي السابق


3298 - ( وعن سليمان بن يسار ) : هو من كبار التابعين أحد الفقهاء السبعة ( قال : أدركت بضعة عشر ) : أي : رجلا أو شخصا ( من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كلهم يقول ) : أفرد الضمير للفظ الكل ( يوقف المؤلي ) : بهمز ويبدل : اسم فاعل من الإيلاء في شرح السنة : الإيلاء : هو أن يحلف الرجل أن لا يقرب امرأته أكثر من أربعة أشهر ، فلا يتعرض له قبل مضي أربعة أشهر ، فإذا مضت فاختلفوا فيه : فذهب أكثر الصحابة إلى أنه لا يقع الطلاق بمضيها ، بل يوقف فيما أن يفيء ويكفر عن يمينه [ أو يطلق ] ، وهو قول مالك والشافعي وأحمد وإسحاق . وقال الشافعي : فإن طلقها وإلا طلق عليه السلطان واحدة . وقال بعض أهل العلم : إذا مضت أربعة أشهر وقعت طلقة بائنة ، وهو قول الثوري وأصحاب أبي حنيفة ، وأما على قول من قال بالوقف فلا يكون موليا ; لأن الوقف يكون في حال بقاء اليمين ، وقد ارتفعت هاهنا بمضي أربعة أشهر ، أما إذا حلف على أقل من أربعة أشهر ، فلا يثبت حكم الإيلاء بل هو حالف .

قال التوربشتي : ذهب بعض الصحابة وبعض من بعدهم من أهل العلم أن المولي عن امرأته إذا مضى عليه مدة الإيلاء - وهي عند بعضهم أكثر من أربعة أشهر - وقف ، فإما أن يفيء ، وإما أن يطلق ، وإن أبى طلق عليه الحاكم ، وذلك شيء استنبطوه من الآية رأيا واجتهادا ، وخالفهم آخرون فقالوا : الإيلاء أربعة أشهر ، فإذا انقضت بانت منه بتطليقة ، وهو مذهب أبي حنيفة - رحمه الله - وهو الذي تقتضيه الآية . قال الله - تعالى - جل جلاله ( للذين يؤلون من نسائهم تربص أربعة أشهر فإن فاءوا فإن الله غفور رحيم ) فإن فاءوا يعني في الأشهر ، وفي حرف مسعود : ( فإن فاءوا فيهن ) ، والتربص : الانتظار أي ينتظر بهم إلى مضي الأشهر تلك ( وإن عزموا الطلاق فإن الله سميع عليم ) أي : عزموا الطلاق بتربصهم إلى مضي تلك المدة وتركهم الفيئة ، وتأويله عند من يرى أنه يوقف : فإن فاءوا وإن عزموا الطلاق بعد مضي المدة اهـ .

وتعقبه الطيبي بأن الفاء في ( فإن فاءوا ) للتعقيب ، وأجاب عنه قبله صاحب الكشاف بأنه للتفصيل ، وهذا مجمل ما فيهما من التطويل ، وسيأتي لهذا تذييل للتكميل . ( رواه في شرح السنة ) . ورواه الشافعي عن سفيان بن عيينة عن يحيى بن سعيد عن سليمان بن يسار ، والدارقطني عن أبي بكر النيسابوري عن ابن عيينة ، كذا نقله ميرك عن التصحيح .

قال ابن الهمام : واحتج الشافعي أيضا بما روى مالك في الموطأ ، عن جعفر بن محمد ، عن أبيه ، عن علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - أنه كان يقول : إذا آلى الرجل من امرأته لم يقع عليه الطلاق ، فإذا مضت الأربعة أشهر يوقف حتى يطلق أو يفيء ، وما روى البخاري عن ابن عمر بسنده أنه كان يقول في الإيلاء الذي سمى الله - تعالى - لا يحل بعد ذلك الأجل إلا أن يمسك بالمعروف ، أو يعزم الطلاق ، كما أمر الله ، تعالى ، وقال - أي البخاري - : قال لي إسماعيل بن أوس حدثني مالك عن نافع عن ابن عمر - رضي الله عنهما - قال : إذا مضت أربعة أشهر يوقف حتى يطلق ، ولا يقع عليه الطلاق حتى يطلق اهـ .

قلنا الآثار معارضة بما روى عبد الرزاق ، حدثنا معمر ، عن عطاء الخراساني ، عن أبي سلمة بن عبد الرحمن أن عثمان بن عفان وزيد بن ثابت كانا يقولان في الإيلاء : إذا انقضت أربعة أشهر فهي تطليقة واحدة ، وهي أحق بنفسها وتعتد عدة المطلقة . وبما أخرج عبد الرزاق ، أخبرنا معمر عن قتادة أن عليا وابن مسعود وابن عباس قالوا : إذا مضت أربعة أشهر فهي تطليقة ، فهي أحق بنفسها وتعتد عدة المطلقة . وبما أخرجه ابن أبي شيبة ، حدثنا أبو معاوية عن الأعمش ، عن حبيب ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس وابن عمر قالا : إذا آلى ولم يفئ حتى مضت أربعة أشهر فهي تطليقة بائنة . ولم يبق إلا قول من قال : بأن أصح الحديث ما روي في كتاب البخاري ومسلم ، ثم كان على شرطهما إلى آخر ما عرف ، وقدمنا في كتاب الصلاة أنه تحكم محض ، وقول البخاري : [ ص: 2152 ] أصح الأسانيد مالك عن نافع عن ابن عمر لم يوافق عليه ، وأما رواية الشافعي فحاصلها أن قول جماعة من الصحابة كذلك ، فيجوز كون بعضهم ممن تعارضت عليه الروايات مع اختلاف طبقاتهم في علو الحال والفقه ، كما أسمعناك عمن ذكر ، وكون من ذهب إلى خلاف المروي عنه أفقه وأعلى منصبا ، ونحن قد أخرجنا ما قلناه عن الأكابر مثل عثمان وعلي ، بناء على ترجيح ما عارضنا به ، وكذا عن زيد ابن ثابت ، وهو من أكابرهم ممن أخذ ابن عباس بركابه حين ركب وقال : هكذا أمرنا أن نفعل بعلمائنا ، وكذا عن ابن عباس فيما قدمناه ، وكذا عن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - أخرج الدارقطني عن أبي إسحاق ، حدثني محمد بن مسلم بن شهاب ، عن سعيد بن المسيب ، وأبو بكر بن عبد الرحمن أن عمر بن الخطاب كان يقول : إذا مضت أربعة أشهر فهي تطليقة . وهو أملك بردها ما دامت في عدتها . وأخرج عبد الرزاق حدثنا معمر وابن عيينة عن أيوب عن أبي قلابة قال : آلى النعمان من امرأته ، وكان جالسا عند ابن مسعود فضرب فخذه وقال : إذا مضت أربعة أشهر فاعترف بتطليقة . وأخرج نحو مذهبنا عن عطاء وجابر بن زيد وعكرمة وسعيد بن المسيب وأبي بكر بن عبد الرحمن ومكحول . وأخرج الدارقطني نحوه عن ابن الحنفية والشعبي والنخعي ومسروق والحسن وابن سيرين وقبيصة والحاكم وأبي سلمة - رضوان الله تعالى عليهم أجمعين - وهذا ترجيح عام ، وهو أن كل من قال من الصحابة - رضي الله عنهم - بالوقوع بمجرد المضي يترجح على قول مخالفه ; لأنه لم يكن بد من كونه محمولا على السماع ; لأنه خلاف ظاهر الآية ، فلولا أنه مسموع ، ولم يقولوا به على خلافه اهـ .

والآية هي قوله تعالى جل شأنه ( للذين يؤلون من نسائهم ) أي : يحلفون على أن لا يجامعوهن أربعة أشهر فصاعدا ، ولو حلف على الأقل منها لا يكون إيلاء ، وقول البيضاوي : ( قال أبو حنيفة : في أربعة أشهر فما دونها ) خطأ ، ثم قوله : ( تربص أربعة أشهر ) مبتدأ ما قبله خبره ، والتربص : الانتظار ، وأضيف إلى الظرف على الاتساع أي : استقر للمولين ترقب أربعة أشهر ، ( فإن فاءوا ) أي في الأشهر لقراءة عبد الله : ( فإن فاءوا فيهن ) أي : رجعوا إلى الوطء عن الإضرار بتركه ( فإن الله غفور رحيم ) حيث شرح الكفارة ، وإن ( عزموا الطلاق ) أي : بترك الفيء فتربصوا إلى مضي المدة ( فإن الله سميع ) لإيلائه ( عليم ) بنيته ، وهو وعيد على إضرارهم وتركهم الفيئة . وعند الشافعي - رحمه الله - معناه فإن فاءوا وإن عزموا بعد مضى المدة ; لأن الفاء للتعقيب ، وقلنا قوله : فإن فاءوا وإن عزموا تفصيل لقوله : ( للذين يؤلون من نسائهم ) والتفصيل يعقب المفصل ، كذا ذكره صاحب المدارك . قال السيد معين الدين في تفسيره : عند كثير من السلف أنه يقع تطليقة بمجرد مضي أربعة أشهر إما بائنة أو رجعية ، وفي الآية دلالة على أنه يقف فيطالب إما بهذا أو بهذا وعليه كثير من السلف اهـ .

وفي موطأ محمد بن الحسن بلغنا عن عمر بن الخطاب وعثمان بن عفان وعبد الله بن مسعود وزيد بن ثابت أنهم قالوا : إذا آلى الرجل من امرأته فمضت أربعة أشهر قبل أن يفيء فقد بانت بتطليقة . قال ابن عباس في تفسير هذه الآية : الفيء : الجماع الأربعة أشهر ، وعزيمة الطلاق انقضاء الأربعة أشهر ، فإذا مضت بانت بتطليقه ، ولا يوقف بعدها ، وكان ابن عباس أعلم بتفسير القرآن .




الخدمات العلمية