الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
الفصل الثاني

3393 - عن الحسن ، عن سمرة - رضي الله عنهما - عن رسول الله - عليه الصلاة والسلام - قال : ( من ملك ذا رحم فهو حر ) رواه الترمذي ، وأبو داود ، وابن ماجه .

التالي السابق


الفصل الثاني

3393 - ( عن الحسن ) : أي البصري ( عن سمرة ) : أي ابن جندب ( عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : ( من ملك ) : أي بنحو شراء أو هبة أو إرث ( ذا رحم ) : أي قرابة ( محرم ) : احتراز عن غيره ، وهو بالجر ، وكان القياس أن يكون بالنصب لأنه صفة ذا رحم لا نعت رحم ، ولعله من باب جر الجوار كقوله : بيت ضب خرب ، وماء شن بارد ، ولو روي مرفوعا لكان له وجه ، ( فهو ) : أي ذو الرحم المحرم ذكرا كان أو أنثى ( حر ) : أي عتق عليه بسبب ملكه ، وهو أصرح وأعم من حديث أبي هريرة السابق ، وبه أخذ أبو حنيفة وأحمد .

وفي النهاية : وإليه ذهب أكثر أهل العلم من الصحابة والتابعين رضوان الله تعالى عليهم أجمعين . قال النووي : اختلفوا في عتق الأقارب إذا ملكوا فقال أهل الظاهر : لا يعتق أحد منهم بمجرد الملك سواء الولد والوالد وغيرهما ، بل لا بد من إنشاء عتق ، واحتجوا بحديث أبي هريرة - رضي الله عنه - وقال الجمهور رحمهم الله : يحصل العتق في الأصول وإن علوا ، وفي الفروع وإن سفلوا بمجرد الملك سواء المسلم والكافر ، وتحريره أنه يعتق عمود النسب بكل حال ، واختلفوا فيما ورائهما ، فقال الشافعي وأصحابه : لا يعتق غيرهما بالملك ، وقال مالك : يعتق الأخوة أيضا ، وعنه رواية أنه يعتق جميع ذوي الأرحام المحرمة ، ورواية ثالثة كمذهب الشافعي ، وقال أبو حنيفة رحمه الله : يعتق جميع ذوي الأرحام المحرمة . ( رواه الترمذي ، وأبو داود ، وابن ماجه ) : ورواه أحمد بسند صحيح والحاكم في مستدركه مرفوعا . قال القاضي : قال [ ص: 2226 ] أبو داود في كتابه : لم يحدث هذا الحديث مسندا إلا حماد بن سلمة ، وقد شك فيه ، ولهذا لم يقل به الشافعي ، واقتصر على عتق الأصول والفروع ، وفي شرح السنة : حديث سمرة لا يعرف مسندا إلا من حديث حماد بن سلمة ، ورواه بعضهم عن قتادة عن الحسن عن عمرو ، ورواه بعضهم عن الحسن مرسلا . قلت : إذا كان مسندا فلا إشكال ، والشك في أحد طرفيه غير مضر ، والموقوف عن عمر في حكم المرفوع إذ لا مدخل للرأي فيه ، والمرسل حجة عندنا وعند الجمهور ، وإذا اعتضد فعند الكل ، وأغرب الطيبي حيث قال : يشم من سياق الحديث معنى الاستحباب ، إذ جعل الجزاء من باب الإخبار والتنبيه على تحري الأولى ، إذ لم يقل : من ملك ذا رحم محرم فيعتقه أو فيحرره ، بل قيل : فهو حر ، والجملة الاسمية التي تقتضي الدوام والثبوت في الأزمنة الماضية والآتية تنبئ عن هذا لأنه ما كان في الزمان الماضي حرا وكذا في الآتي اهـ .

وفيه أن من شم رائحة من فهم الكلام علم أن الحكمة بالجملة الاسمية الدالة على الثبات والدوام أبلغ في تحصيل الحكم والمرام من الجملة الفعلية في هذا المقام ، فإنها تفيد بظاهرها أنه لا بد من إنشاء الإعتاق والتحرير ، ولذا تأول أهل الظاهر حديث أبي هريرة على ما سبق به التقرير ، فالجملة الفعلية هي الأولى بالدلالة على الاستحباب ، والله تعالى أعلم بالصواب . هذا وقد قال ابن الهمام : روى النسائي ، عن حمزة بن ربيعة ، عن سفيان الثوري ، عن عبد الله بن دينار ، عن عبد الله بن عمر قال : قال رسول الله - عليه الصلاة والسلام - : ( من ملك ذا رحم محرم عتق عليه ) . وضعفه البيهقي والنسائي بسبب أن ضمرة انفرد به عن سفيان ، وصححه عبد الحق وقال : ضمرة ثقة ، وإذا أسند الحديث ثقة فلا يضر انفراده به ، ولا إرسال من أرسله ، ولا وقف من وقفه ، وصوب ابن القطان كلامه ، وممن وثق ضمرة ابن معين وغيره ، وإن لم يحتج به في الصحيحين ، وأخرج أصحاب السنن الأربعة عن حماد بن سلمة ، عن قتادة ، عن الحسن ، عن سمرة ، عن النبي - عليه الصلاة والسلام - : ( من ملك ذا رحم محرم منه فهو حر ) قال أبو داود وغيره : انفرد به عن الحسن عن سمرة عن حماد ، وقد شك فيه ، فإن موسى بن إسماعيل قال في موضع آخر : عن سمرة فيما يحسب حماد ، وقد رواه شعبة عن الحسن ، عن النبي - عليه الصلاة والسلام - وشعبة أحفظ من حماد اهـ .

وفيه مثل ما تقدم من كلام عبد الحق وابن القطان وهو : أن رفع الثقة لا يضره إرسال غيره ، ورواه الطحاوي من حديث الأسود ، عن عمر موقوفا ، وروي من حديث ابن عمر موقوفا ، ومن حديث علي بأسانيد ضعيفة ، وروى الطحاوي بإسناده إلى الثوري عن سلمة بن كهيل عن المستورد ، أن رجلا زوج ابن أخيه مملوكته ، فولدت أولادا فأراد أن يسترق أولادها ، فأتى ابن أخيه عبد الله بن مسعود فقال : إن عمي زوجني وليدته ، وإنها ولدت لي أولادا ، فأراد أن يسترق ولدي ، فقال ابن مسعود : كذب ليس له ذلك . وفي المبسوط : أن ابن عباس قال : جاء رجل إلى النبي - عليه الصلاة والسلام - وقال : يا رسول الله ! إني دخلت السوق ، فوجدت أخي يباع فاشتريته ، وإني أريد أن أعتقه فقال - عليه الصلاة والسلام - : ( إن الله أعتقه ) .

قال : وذكر الخطابي في معالم السنن أنه قول أكثر العلماء ، وقال : روي ذلك عن ابن عمر ، وابن مسعود ، ولا يعرف لهما مخالف من الصحابة ، وبه قال الحسن البصري ، وجابر بن زيد ، وعطاء ، والشعبي ، والزهري ، وحماد ، والحاكم ، والثوري ، وابن أبي شيبة ، وأبو سلمة ، والليث ، وعبد الله بن وهب ، وإسحاق . وفي المبسوط قال داود الظاهري : إذا ملك قريبه لا يعتق بدون الإعتاق الظاهر لقوله - عليه الصلاة والسلام - : ( لن يجزي ولد والده إلا أن يجده مملوكا فيشتريه فيعتقه ) . إذ لو عتق بنفس الشراء لم يبق لقوله فيعتقه فائدة ; لأن القرابة لا تمنع ابتداء الملك فلا يمتنع بقاؤه ، ولأن قوله تعالى جل شأنه : وما ينبغي للرحمن أن يتخذ ولدا إن كل من في السماوات والأرض إلا آتي الرحمن عبدا [ ص: 2227 ] أثبت به أن الابنية تنافي العبدية ، فإذا ثبتت الابنية انتفت العبدية ، والمراد بالنص : ( فيعتقه ) بالشراء ، كما تقول : أطعمه فأشبعه ، وسقاه فأرواه ، والتعقيب حاصل إذ العتق يعقب الشراء ، وإنما أثبتنا له الملك ابتداء ; لأن العتق لا يحصل قبله بخلاف ملك النكاح لم يثبت ابتداء ، لأنه لا فائدة في إثباته لاستعقاب البينونة .

قال : وقولهم إن الحديث لم يثبت غير صحيح لثقة الرواة وليس فيه سمي الانفراد بالرفع ، وهو غير قادح ; لأن الراوي قد يصل ، وكثيرا ما يرسل ، ومعلوم أنه إذا أرسل فلا بد أن يكون عن واسطة ، وغاية الأمر أنه عين الواسطة مرة وترك أخرى ، ولو كان مرسلا لكان من المرسل المقبول ، إما على قول الجمهور وهو قولنا وقول مالك وأحمد ، فيقبل بلا شرط بعد صحة السند وقد علمت صحته ، وإما على قول الشافعي فيقبل إذا عملت الصحابة على وفقه ، وأنت علمت أن الثابت قول بعض الصحابة ، ولم يثبت من غيرهم خلافهم فيثبت مشاركة هذه القرابة للولاد في هذا الحكم اهـ . كلام المحقق والله تعالى الموفق .




الخدمات العلمية