الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
3461 - وعن أبي جحيفة رضي الله عنه قال : سألت عليا رضي الله عنه : هل عندكم شيء ليس في القرآن ؟ فقال : والذي فلق الحبة ، وبرأ النسمة ، ما عندنا إلا ما في القرآن ، إلا فهما يعطى رجل في كتابه وما في الصحيفة . قلت : وما في الصحيفة ؟ قال : العقل وفكاك الأسير ، وأن لا يقتل مسلم بكافر . رواه البخاري . وذكر حديث ابن مسعود : " لا تقتل نفس ظلما " . في " كتاب العلم " .

التالي السابق


3461 - ( وعن أبي جحيفة ) : بضم جيم وفتح مهملة وسكون تحتية بعدها فاء . قال المؤلف : اسمه وهب بن عبد الله العامري ، نزل الكوفة وكان من صغار الصحابة ، ذكر أن النبي صلى الله عليه وسلم توفي ولم يبلغ الحلم ، ولكنه سمع منه ، وروى عنه مات بالكوفة سنة أربع وسبعين ، روى عنه ابنه عوز وجماعة من التابعين . ( قال : سألت عليا رضي الله عنه : هل عندكم ) : الجمع للتعظيم أو أراد جميع أهل البيت وهو رئيسهم ، ففيه تغليب ( شيء ) : وفي رواية : شيء من الوحي ( فقال : في القرآن ) : وإنما سأله لزعم الشيعة أن عليا خص ببعض أسرار الوحي ، ( قال : والذي فلق الحبة ) : أي : شقها فأخرج منها النبات والغصن ( وبرأ النسمة ) : بفتحتين أي : خلقها ، والنسمة النفس وكل دابة فيها روح فهي نسمة يشير بذلك إلى أن المحلوف به سبحانه هو الذي فطر الرزق وخلق المرزوق ، وكذلك كان يحلف إذا اجتهد في يمينه ( ما عندنا ) : جواب القسم أي : ليس عندنا أهل البيت ، وفي رواية فقال : لا والذي فلق الحبة وبرأ النسمة ( إلا ما في القرآن ) : أي : في المصحف ( إلا فهما يعطى رجل في كتابه ) : وفي رواية : إلا فهما يعطيه الله رجلا في القرآن استثناء منقطع أو استثناء مما بقي من استثناء الأول ، وخلاصة أنه ليس عندنا غير القرآن إلا فهما إلخ . قال المظهر : يعني ما يفهم من فحوى كلامه ، ويستدرك من باطن معانيه التي هي غير الظاهر من نصه والمتلقى من لفظه ، ويدخل في ذلك جميع وجوه القياس والاستنباط التي يتوصل إليها من طريق الفهم والتفهم ، ولذلك قال ابن عباس : جميع العلم في القرآن لكن تقاصر عنه أفهام الرجال ( وما في الصحيفة ) : عطف على فهما . وفي رواية : وما في هذه الصحيفة . قال القاضي رحمه الله : إنما سأله ذلك ; لأن الشيعة كانوا يزعمون أنه صلى الله تعالى عليه وسلم خص أهل بيته لا سيما عليا رضي الله عنه بأسرار من علم الوحي لم يذكرها لغيره ، أو لأنه كان يرى منه علما وتحقيقا لا يجده في زمانه عند غيره فحلف أنه ليس شيء من ذلك سوى القرآن ، وأنه عليه الصلاة والسلام لم يخص بالتبليغ والإرشاد قوما دون قوم ، وإنما وقع التفاوت من قبل الفهم واستعداد الاستنباط ، فمن رزق فهما وإدراكا وفق للتأمل في آياته والتدبر في معانيه فتح عليه أبواب العلوم ، واستثنى ما في الصحيفة احتياطا لاحتمال أن يكون فيها ما لا يكون عند غيره ، فيكون منفردا بالعلم ، والظاهر أن ما في الصحيفة عطف على ما في القرآن ، وإلا فهما استثناء منقطع وقع استدراكا عن مقتضى الحصر المفهوم من قوله : ما عندنا إلا ما في القرآن ، فإنه إذا لم يكن عنده إلا ما في القرآن ، والقرآن كما هو عنده فهو عند غيره ، فيكون ما عنده من العلوم يكون عند غيره لكن التفاوت واقع غير منكر ولا مدافع ، فبين أنه جاء من قبل الفهم والقدرة على الاستنباط واستخراج المعاني وإدراك اللطائف والرموز . ( قلت : وما في الصحيفة ؟ ) : وفي رواية : في هذه الصحيفة ( قال : العقل ) : أي : الدية وأحكامها يعني فيها ذكر ما يجب لدية النفس والأعضاء من الإبل ، وذكر أسنان تؤدى فيها وعددها على ما سيأتي في حديث عمرو بن شعيب . ( وفكاك الأسير ) : قال العسقلاني : بفتح الفاء ويجوز كسرها أي : فيها حكم تخليصه والترغيب فيه ، وأنه من أنواع البر الذي ينبغي أن يهتم به ، ( وأن لا يقتل مسلم بكافر ) : أي : غير ذمي عند من يرى قتل المسلم بالذمي كأصحاب أبي حنيفة . قال القاضي قوله : ولا يقتل مسلم بكافر عام يدل على أن المؤمن لا يقتل بكافر قصاصا ، سواء الحربي والذمي ، وهو قول عمر وعثمان وعلي وزيد بن ثابت ، وبه قال عطاء وعكرمة والحسن وعمر بن عبد العزيز ، وإليه ذهب الثوري وابن شبرمة والأوزاعي ومالك والشافعي وأحمد وإسحاق ، وقيل : يقتل بالذمي ، والحديث مخصوص بغيره ، وهو قول النخعي والشعبي ، وإليه ذهب أصحاب أبي حنيفة لما روى عبد الرحمن بن السلماني أن رجلا من المسلمين قتل رجلا من أهل الذمة ، فرفع ذلك إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال : " أنا أحق من أوفى بذمته " . ثم أمر به فقتل . وأجيب عنه : بأنه منقطع لا احتجاج به ، ثم إنه أخطأ إذ قيل : إن القاتل كان عمرو بن أمية الضمري ، وقد عاش بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم سنتين ومتروك بالإجماع ; لأنه روي أن الكافر كان رسولا ، فيكون مستأمنا والمستأمن لا يقتل به المسلم وفاقا ، وإن صح فهو منسوخ ، لأنه روي عنه أنه كان قبل الفتح ، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الفتح في خطبة خطبها على درج البيت : " ولا يقتل مؤمن بكافر ولا ذو عهد في عهده " .

[ ص: 2267 ] قال بعض علمائنا من الشراح : ومن جملة ما في الصحيفة : لعن الله من غير منار الأرض ، لعن الله من تولى غير مواليه ، ولعله لم يذكر جملة ما فيها إذ التفصيل لم يكن مقصودا أو ذكر ولم يحفظه الراوي . قلت : وفي رواية عن أبي الطفيل ذكرها الجزري قال : سئل علي رضي الله عنه : هل خصكم رسول الله صلى الله عليه وسلم بشيء ؟ فقال : ما خصنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بشيء لم يعم به الناس كافة إلا ما في قراب سيفي هذا . قال : فأخرج صحيفة مكتوب فيها : لعن الله من ذبح لغير الله ، ولعن الله من سرق منار الأرض ، ولعن الله من لعن والديه ، ولعن الله من آوى محدثا . قال الأشرف : فيه إرشاد إلى أن للعالم الفهم أن يستخرج من القرآن بفهمه ، ويستنبط بفكره وتدبره ما لم يكن منقولا عن المفسرين ، لكن بشرط موافقته للأصول الشرعية ، ففيه فتح الباب على ذوي الألباب . قال الطيبي رحمه الله : قول القاضي : والظاهر أن ما في الصحيفة عطف على ما في القرآن لعله تعريض بتوجيه الشيخ التوربشتي حيث قال : حلف حلفة أن ليس عنده من ذلك شيء سوى القرآن ، ثم استثنى استثناء أراد به استدراك معنى اشتبه عليهم معرفته فقال : إلا فهما يعطى رجل في كتابه ، والمعنى أن التفاوت في العلوم لم يوجد من قبل البلاغ ، وإنما وقع من قبل الفهم ، ثم قرن بذلك ما في الصحيفة احتياطا في يمينه وحذرا من أن يكون ما في الصحيفة عند غيره فحسب أنه عطف على قوله : إلا فهما ، ولو ذهب إلى إجراء المتصل مجرى المنقطع على عكس قول الشاعر


وبلدة ليس بها أنيس إلا اليعافير وإلا العيس



فيؤول قوله : إلا فهما يعطى بقوله ما يستنبط من كلام الله تعالى بفهم رزقه الله لم يستبعد ، فيكون المعنى ليس عندنا شيء قط إلا ما في القرآن ، وما في الفهم من الاستنباط منه ، وما في الصحيفة ، وقد علم وحقق أن الاستنباط من القرآن منه ، وأن ما في الصحيفة لا يخلو من أن يكون منصوصا في القرآن أو مستنبطا منه ، فيلزم أن لا شيء خارج عنه كما قال تعالى : ولا رطب ولا يابس إلا في كتاب مبين وهذا فن غريب وأسلوب عجيب ، فحينئذ يحسن من زعم أن النبي صلى الله عليه وسلم خص أهل بيته من علم الوحي لما لم يخص به غيرهم ، ومن زعم أنه صلى الله عليه وسلم جعله خليفة بعده قال أبو الحسن الصنعاني في الدر الملتقط : ومن الموضوع قولهم قال النبي صلى الله عليه وسلم في المرض الذي توفي فيه : " يا علي ادع بصحيفة ودواة " . فأملى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وكتب علي وشهد جبريل ثم طويت الصحيفة . قال الراوي : فمن حدثكم أنه يعلم ما في الصحيفة إلا الذي أملاها وكتبها وشهدها فلا تصدقوه ، وقولهم : وصيي وموضع سري وخليفتي في أهلي وخير من أخلف بعدي علي بن أبي طالب . ( رواه البخاري ) .

قال الجزري في أسنى المناقب : وكذا أخرجه الترمذي والنسائي وابن ماجه ، واتفق البخاري ومسلم وأبو داود والترمذي على إخراجه من طريق يزيد بن شريك التيمي ، وهو والد إبراهيم التيمي ولفظه : ما عندنا شيء يقرأ إلا كتاب الله وهذه الصحيفة : المدينة حرام . ورواه الإمام أحمد في مسنده من طريق قيس بن عباد ، ومن طريق عامر الشعبي كلاهما عن علي رضي الله عنه ، وذكر الجزري بإسناده عن أبي الطفيل قال : قلنا لعلي رضي الله تعالى عنه : أخبرنا بشيء أسره إليك رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ فقال : ما أسر إلي شيئا كتمه الله الناس ، ولكني سمعته يقول : " لعن الله من ذبح لغير الله ، ولعن الله من آوى محدثا ، ولعن الله من لعن والديه ، ولعن الله من غير تخوم الأرض " . يعني المنار أي : العلامة . قال : هذا الحديث متفق على صحته من طريقه عن علي رضي الله عنه ، فأخرجه مسلم من هذه الطريق ولفظه : كنت عند علي فجاءه رجل فقال : ما كان النبي صلى الله عليه وسلم يسر إليك ؟ فغضب ، فقال : ما كان يسر إلي شيئا يكتمه عن الناس غير أنه حدثني بكلمات قال : " لعن الله من لعن والديه " . الحديث . وكذا أخرجه النسائي ، وروى أحمد والنسائي وابن ماجه عن ابن عمر مرفوعا : " لا يقتل مسلم بكافر " .

( وذكر حديث ابن مسعود : " لا تقتل نفس ظلما " . آخره إلا كان على ابن آدم الأول كفل من دمها ; لأنه أول من سن القتل . ( " في كتاب العلم " ) : فأسقطه المصنف عن تكرير ، ولا يخفى أنه لو أسقط الأول لكان أوفق بالباب ، والله تعالى أعلم بالصواب .




الخدمات العلمية