الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
4030 - وعن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه ، قال : أعطى رسول الله صلى الله عليه وسلم رهطا وأنا جالس ، فترك رسول الله صلى الله عليه وسلم فيهم رجلا وهو أعجبهم إلي ، فقمت ، فقلت : ما لك عن فلان ؟ والله إني لأراه مؤمنا ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " ، أو مسلما " ذكر ذلك سعد ثلاثا وأجابه بمثل ذلك ، ثم قال : " إني لأعطي الرجل وغيره أحب إلي منه خشية أن يكب في النار على وجهه " . متفق عليه . وفي رواية لهما قال الزهري فنرى أن الإسلام الكلمة ، والإيمان العمل الصالح .

التالي السابق


4030 - ( وعن سعد بن أبي وقاص ) : أحد العشرة المبشرة ( قال : أعطى رسول الله صلى الله عليه وسلم ) أي : شيئا من العطاء ( رهطا ) أي : جماعة ( وأنا جالس ، فترك رسول الله صلى الله عليه وسلم منهم ) أي : من الرهط ( رجلا هو أعجبهم إلي ) أي : أرضاهم دينا عندي ( فقمت ) أي : ليتوجه إلي وهذا مسلك أدب ( فقلت : ما لك ) أي : ما شأنك ( عن فلان ؟ : حال أي : متجاوزا عنه ( والله إني لأراه ) : بضم الهمزة أي : لأظنه ، وفي نسخة بالفتح أي : لأعلمه ( مؤمنا ) أي : مصدقا باطنا ومنقادا ظاهرا ( فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " ، أو " ) : بسكون الواو أي : بل ( " مسلما " ) أي : أظنه مسلما ، أو ظنه أنت مسلما وفي نسخة بفتحها وليس له وجه ، بل هو إضراب عن قول سعد ، وليس الإضراب هنا بمعنى إنكار كون الرجل مؤمنا ، بل معناه النهي عن القطع بإيمان من لم يختبر حاله بالخبر الباطن ; لأن الباطن لا يطلع عليه إلا الله ، فالأولى التعبير بالإسلام الظاهر ، والله أعلم . قال الطيبي ، أو بمعنى " بل " كما في قوله : أو أنت في العين أملح أضرب عن كلامه وترقى أي : أنا أعلمه فوق ما تعلم ، قال الراغب : الإسلام في الشرع على ضربين أحدهما : دون الإيمان وهو الاعتراف باللسان ، به يحصن الدم حصل معه الاعتقاد ، أو لم يحصل وإياه قصد بقوله [ ص: 2600 ] تعالى : ( قالت الأعراب آمنا قل لم تؤمنوا ولكن قولوا أسلمنا ) والثاني فوق الإيمان ، وهو أن يكون مع الاعتراف اعتقاد بالقلب ، ووفاء بالفعل ، واستسلام لله تعالى في جميع ما قضى وقدر ، كما ذكر عن إبراهيم عليه السلام في قوله سبحانه ( إذ قال له ربه أسلم قال أسلمت لرب العالمين ) ( ذكر ذلك ) أي : القول ( سعد ثلاثا وأجابه ) : وفي نسخة صحيحة فأجابه ( بمثل ذلك ) أي : في كل مرة ( ثم قال : " إني لأعطي الرجل " ) : أراد به الجنس أي : رجلا من الرجال ( " وغيره أحب إلي منه " ) : الجملة حال ( " خشية " ) : بالتنوين وتركه وهو أصح أي : مخافة ( " أن يكب " ) : بصيغة المجهول أي : يوقع ( " في النار على وجهه " ) : لكونه من المؤلفة قلوبهم ، أو ; لأنه من ضعفاء اليقين .

قال النووي : معناه أن سعدا رأى النبي صلى الله عليه وسلم يعطي ناسا ويترك من هو أفضل منهم في الدين ، فظن أن العطاء بحسب الفضائل في الدين ، وظن أنه صلى الله عليه وسلم لم يعلم حال هذا الإنسان ، فأعلمه به ، ولم يفهم سعد من قوله مسلما فيه عن الشفاعة مكررا ، فأعلمه النبي صلى الله عليه وسلم أن العطاء ليس على حسب الفضائل في الدين ، وقال : " إني لأعطي الرجل " إلخ والمعنى إني أعطي أناسا مؤلفة في إيمانهم ضعف لو لم أعطهم لكفروا ، وأترك قوما هم أحب إلي من الذين أعطيهم ولا أتركهم احتقارا لهم ولا لنقص دينهم ، بل أكلهم إلى ما جعل الله تعالى في قلوبهم من النور والإيمان التام . قلت : وهذا تخلق بأخلاق الله تعالى ، حيث هكذا فعل بأنبيائه وأوليائه من حسن بلائه ، وأعطى الدنيا لأعدائه .

قال مولانا القطب الرباني الشيخ عبد القادر الجيلاني في كتابه فتوح الغيب : لا تقولن يا فقير اليد ، يا عريان الجسد ، يا ظمآن الكبد ، يا مولى عنه الدنيا بأصحابها ، يا خامل الذكر بين ملوك الدنيا وأربابها ، يا جائع يا نائع يا مشتتا في كل زاوية من أرض وبقاع خراب ، ومردودا من كل باب ، إن الله تعالى أفقرني وزوى عني الدنيا ، وتركني وقلاني ولم يرفع ذكري بين إخواني ، وأسبل على غيري نعمه سابغة يتقلب بها في ليله ونهاره ، ويتنعم بها في داره ودياره وكلانا مسلمان ومؤمنان ، سواء ، وأبونا آدم وأمنا حواء ، وأما أنت فقد فعل الله ذلك بك ; لأن طينتك حرة ، وندي رحمة الله عليك متقاطرة ، وأنواع من الصبر والرضا واليقين والموافقة ، وأنوار المعرفة لديك متواترة ، فشجرة إيمانك وغرسها وبذرها ثابتة مكينة مورقة مستزيدة متشعبة مطلة متفرعة ، فهي كل يوم في نمو وزيادة فلا حاجة لها إلى علق وسباطة لتنمى وتربى وتزكى ، وقد فرغ الله تعالى من أمرك على ذلك ، وأعطاك في الآخرة في دار البقاء دخولك فيها ، وأجزل عطاءك في العقبى مما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر . قال تعالى : ( فلا تعلم نفس ما أخفي لهم من قرة أعين جزاء بما كانوا يعملون ) أي : من أداء الأوامر وترك المناكر والتسليم والتفويض إليه في المقدور ، والاعتماد والتوكل عليه في جميع الأمور ، وأما الغير الذي أعطاه من الدنيا ونعيمها وخوله نعمه فيها فعل به ذلك ; لأن محل إيمانه أرض سبخة وصخر لا يكاد يثبت فيها الماء ، وتنبت فيها الأشجار وتتربى فيها الزروع والثمار ، فصب عليها أنواع سباط ، وغيرها مما يربى به النبات وهي الدنيا وحطامها ليستحفظ بذلك ما أنبت فيها من شجرة الإيمان ، وغرس الأعمال ، فلو قطع ذلك عنها لجف النبات والأشجار ، وانقطعت الثمار ، وخربت الديار ، وهو عز وجل يريد عمارتها ، فشجرة إيمان الغني ضعيفة المنبت خال عما هو مشحون به منبت شجرة إيمانك يا فقير فقوتها وبقاؤها بما ترى عنده من الدنيا ، وأنواع نعيمها ، فلو قطعها مع ضعف الشجرة جفت الشجرة ، فكان كفرا وجحودا ولحاقا بالمنافقين والمرتدين والكفار ، اللهم إلا أن يبعث الله [ ص: 2601 ] عز وجل إلى الغني عساكر من الصبر والرضا واليقين والتوفيق والعلم وأنوار المعارف ، فيقوي الإيمان بها حينئذ حتى لا يبالي بانقطاع الغنى والنعيم . ( متفق عليه . وفي رواية لهما : قال الزهري : فنرى : بضم النون ويفتح ( أن الإسلام الكلمة ) أي : كلمة الشهادة ( والإيمان ) : بالنصب وفي نسخة بالرفع ( العمل الصالح ) أي : الشامل للعمل القلبي وهو التصديق . قال النووي : أما على تأويل الزهري ، فيجب حمل " ، أو " على التنويع ، كما في قوله تعالى : ( عذرا أو نذرا ) أي : مؤمن ومسلم جمع بين الإيمان والإسلام ظاهرا باطنا




الخدمات العلمية