الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
4071 - وعن رافع بن خديج رضي الله عنه ، قال : قلت : يا رسول الله ! إنا لاقوا العدو غدا ، وليست معنا مدى أفنذبح بالقصب ؟ قال : " ما أنهر الدم وذكر اسم الله ، فكل ليس السن والظفر ، وسأحدثك عنه : أما السن فعظم ، وأما الظفر فمدى الحبش " وأصبنا نهب إبل وغنم فند منها بعير ، فرماه رجل بسهم فحبسه ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : إن لهذه الإبل أوابد كأوابد الوحش ، فإذا غلبكم منها شيء فافعلوا به هكذا " . متفق عليه .

التالي السابق


4071 - ( وعن رافع بن خديج ) : مر ذكره ( رضي الله عنه ، قال : قلت : يا رسول الله ! إنا لاقو العدو ) : بضم القاف اسم فاعل من لقي وحذف النون بالإضافة أي : نحن ملاقو الكفار ( كذا ) : يحتمل حقيقة ، أو مجازا أي : في مستقبل الزمان ، والمراد إنا نكون في حالة ضيق ( وليست معنا ) أي : مع جميعنا ، وفي رواية : لنا ( مدى ) : بالضم والقصر جمع مدية وهي السكين والجملة حالية ( أفنذبح بالقصب ؟ ) : بفتحتين في النهاية : القصب من العظام كل عظيم عريض . وفي القاموس : القصب محركة كل نبات ذي أنابيب ، والظاهر أنه المراد هنا ، ويؤيده ما قاله الشمني ، وهو الذبح بكل ما فيه حد ولو كان ليفة وهو القصب ، أو مروة وهي الحجر . ( قال : ما أنهر الدم ) : قال الطيبي : الإنهار الإسالة ، والصب بكثرة وهو مشبه بجري الماء في النهر ، فالمعنى ما أسال الدم . ( وذكر اسم الله ) أي : عليه كما في نسخة ورواية . ( فكل ) أي : فكله ، قال الطيبي : يجوز أن تكون ( ما ) شرطية وموصولة . وقوله فكل جزاء ، أو خبر واللام في الدم بدل من المضاف إليه أي : دم صيد وذكر اسم الله حال منه اهـ .

والظاهر أن المضاف إليه أعم من الصيد ليشمل كل ذبيحة ، كما يدل عليه السؤال بقولهم : أفنذبح ؟ وإن قوله : ذكر اسم الله عطف على أنهر الدم ، سواء تكون ( ما ) شرطية ، أو موصولة . فالحكم مرتب على المركب . ( ليس ) أي : المنهر ( السن والظفر ) : بضمتين وعليه إجماع القراء في قوله تعالى : ( حرمنا كل ذي ظفر ) ويجوز إسكان الثاني وبكسر أوله شاذ على ما في القاموس ، والمعنى إلا السن والظفر ، فإن الذبح لا يحصل بهما ، كذا قاله بعض الشراح من علمائنا . وفى الفائق : ليس تقع في كلمات الاستثناء يقولون : جاء القوم ليس زيدا . بمعنى إلا زيدا ، وتقديره عند النحويين ليس بعضهم زيدا ، أو لا يكون بعضهم زيدا ومؤداه مؤدى إلا ( وسأحدثك عنه ) أي : عن المستثنى ، والسين لمجرد التأكيد ، والمعنى أخبرك عن سبب استثنائهما مفصلا وإن أجملتهما في حكم عدم الجواز المفهوم من استثنائهما ( أما السن فعظم ) أي : وكل عظم لا يحل به الذبح ، وطوى النتيجة لدلالة الاستثناء عليها . [ ص: 2648 ] ذكره السيوطي . وقال القاضي : هو قياس حذف منه المقدمة الثانية لتقررها وظهورها عندهم ، وهي أن كل عظم لا يحل الذبح به ، وذكره دليلا " على استثناء السن . أقول : ولا يحتاج أن تكون ظاهرة ومقررة عندهم بل نأخذ من تعليله صلى الله عليه وسلم أنه عظم أن كل عظم يكون حكمه كذلك . وقال ابن الصلاح : لم أر بعد البحث من نقل للمنع من الذبح بالعظم معنى يعقل ، وكذا قال ابن عبد السلام ، وعلله النووي بأن العظم ينجس بالدم ، وقد نهي عن تنجيسه ; لأنه زاد الجن ذكره السيوطي ، وفي شرح مسلم للنووي قال أصحابنا : فهمنا أن العظام لا يحل الذبح بها لتعليل النبي صلى الله عليه وسلم في قوله : ( أما السن فعظم ) فهذا تصريح بأن العلة كونه عظما ، وكل ما صدق عليه اسم العظم لا تجوز الذكاة به . وبه قال الشافعي وأصحابه وجمهور العلماء . وقال أبو حنيفة : لا يجوز بالسن والعظم المتصلين ، ويجوز بالمنفصلين . وعن مالك روايات أشهرها جوازه بالعظم دون السن كيف كان اهـ . وسيأتي بيانه .

( وأما الظفر فمدى الحبش ) : بضم الحاء المهملة وسكون الموحدة كذا في أكثر النسخ ، وفي أصل السيد وعليه صح ، وفي نسخة بفتحهما وهو الصواب ، ففي القاموس : الحبش والحبش محركتين والأحبش بضم الباء جنس من السودان جمعه حبشان ، أو أحابش ، وكذا في الصحاح وشمس العلوم والمصباح ، بل في أكثر الأصول كالبخاري وغيره ، الحبشة بالتاء والحبش بضم فسكون إنما هو بطن ، أو جد كما في كتب الأنساب ، والمعنى أن الأظفار سكاكينهم فإنهم يذبحون بها ما يمكن ذبحه ، ولا يجوز التشبه بهم ; لأنهم كفار ، وقد نهيتكم عن التشبيه بهم وبشعارهم . قال بعض علمائنا من الشراح : وإنما استثناهما ومنع الذبح بهما ; لأنهما توقيذ وتخنيق وليس بذبح ، ففي الذبح الانقطاع بقوته لا بحدة الآلة ، وهذا في غير المنزوع ، أما في المنزوع فعند أبي حنيفة لا بأس بأكله ، وعند الشافعي يحرم أكله . قال الشمني : له إطلاق الحديث حيث لم يفصل صلى الله عليه وسلم بين القيام وغيره ، فدل على عدم جواز الذبح بهما مطلقا ، ولنا ما أخرج البخاري أيضا عن كعب بن مالك رضي الله عنه : أن جارية لهم كانت ترعى بسلع ، فأبصرت بشاة من غنمها موتا فكسرت حجرا فذبحتها فقال لأهله : لا تأكلوا حتى آتي النبي صلى الله عليه وسلم فأسأله ، أو حتى أرسل إليه ، فأتى النبي صلى الله عليه وسلم ، أو بعث إليه فأمر النبي صلى الله عليه وسلم بأكله ، وإذا صلح الحجر آلة للذبح بمعنى الجرح ، فكذا الظفر المنزوع والسن المنزوع ، بخلاف غير المنزوع فإنه يوجب الموت بالثقل مع الحدة فتصير الذبيحة في معنى المنخنقة . نعم يكره الذبح بالمنزوع لما فيه من الضرر بالحيوان كما لو ذبح بشفرة كليلة . وحديث رافع يحمل على القائمتين توفيقا بين الأحاديث ؛ ولأن الحبشة يحددون أسنانهم ولا يقلمون أظفارهم ، ويقاتلون بالخدش والعض .

قال الطيبي : فإن قلت : إن كان الذبح بالظفر محرما لكونه تشبيها بالكفار لكان ينبغي تحريمه بالسكين أيضا . قلت : إنهار الدم بالسكين هو الأصل ، وأما الملحقات المتفرعة عليه فيعتبر فيها التشبه لضعفها اهـ . ولا يخفى أن التشبه الممنوع إنما هو فيما يكون شعارا لهم مختصا بهم ، فالسؤال ساقط من أصله . ( وأصبنا نهب إبل وغنم ) أي : غارتهما ، والمعنى أغرنا على قوم من الكفار فوجدنا إبلا وغنما ( فند ) أي : شرد وفر ( منها ) أي : من جملتها الصادقة على كل منها ( بعير ) : واستعصى ( فرماه رجل بسهم فحبسه ) أي : منعه من التوحش وأماته ، كذا قاله بعضهم ، والظاهر أن معناه حبسه من الشراد بأن أثر فيه السهم فمات به ، ( فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : إن لهذه الإبل أوابد ) : قال التوربشتي : هذه إشارة إلى جنس الإبل واللام فيه بمعنى ( من ) . قال الطيبي : ويمكن أن يحتمل اللام على معناه ، والبعضية تستفاد من اسم إن ; لأنه نكرة ، كما قال تعالى : ( سبحان الذي أسرى بعبده ليلا ) أي : بعض الليل اهـ . وفيه أن هذا غفلة منه عن عدم صحة الحمل بين الاسم والخبر على تقدير كون اللام على بابها ، والأوابد : جمع آبدة وهي التي توحشت ونفرت ( كأوابد الوحش ) أي : حيوان البر ( فإذا غلبكم فيها ) أي : من أوابد الإبل ( شيء ) أي : واحد ( فافعلوا به هكذا ) أي : فارموه بسهم ونحوه ، والمعنى ما نفر من الحيوان الأهلي من الإبل والبقر والغنم والدجاج وكالصيد الوحشي في حكم الذبح ، فإن ذكاته اضطرارية ، فجميع أجزائه محل الذبح ، ولعل تخصيص الإبل لأن التوحش فيه أكثر . في شرح السنة : فيه دليل على أن الحيوان الإنسي إذا توحش ونفر فلم يقدر على قطع مذبحه يصير جميع بدنه في حكم المذبح كالصيد الذي لا يقدر عليه ، وكذلك لو وقع بعير في بئر منكوسا ، فلم يقدر على قطع حلقومه فطعن في موضع من بدنه فمات كان حلالا ؛ لما روي في حديث أبي العشراء ، وهو الحديث الثاني من أحاديث حسان هذا الباب أنه قال : لو طعنت في فخذها لأجزأ عنك ، وأراد به غير المقدور عليه ، وعلى عكسه لو استأنس الصيد وصار مقدورا عليه لا يحل إلا بقطع مذبحه باتفاق أهل العلم . ( متفق عليه ) .

[ ص: 2649 ]



الخدمات العلمية