الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
4593 - وعن عائشة - رضي الله عنها - قالت : سأل أناس رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن الكهان ، فقال لهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم : إنهم ليسوا بشيء . قالوا : يا رسول الله ، فإنهم يحدثون أحيانا بالشيء يكون حقا . فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم : تلك الكلمة من الحق ، يخطفها الجني ، فيقرها في أذن وليه قر الدجاجة ، فيخلطون فيها أكثر من مائة كذبة . متفق عليه .

التالي السابق


4593 - ( وعن عائشة - رضي الله تعالى عنها - قالت : سأل أناس ) أي : جماعة من الناس ( رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن الكهان ) أي : هل لهم علم بشيء ؟ ( فقال لهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم : ليسوا ) وفي نسخة : إنهم ليسوا ( بشيء ) أي : يعتمد عليه ، فلا تعتمدوا على أخبارهم ، ولا تعتقدوا في أخبارهم ( قالوا : يا رسول الله ! فإنهم ) تعليل لمقدر ، أي : نفي تصديق إخبارهم على إطلاقه مشكل ، فإنهم ( يحدثون ) أي : يخبرون ( أحيانا ) أي : في بعض الأوقات ( بالشيء يكون ) : صفة أو حال ، أي : يصير ( حقا ) . أي : صدقا موافقا للواقع ( فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم : تلك الكلمة من الحق ) أي : من الأمر الواقع ، والصدق الثابت المسموع من الملائكة الذين هم أخذوا من الحق بواسطة الوحي ، أو بمكاشفة اللوح المحفوظ لهم ، وفي نسخة صحيحة : من الجن أي : مسموعة منهم ، وفي الحقيقة لا خلاف في المعنى إذ الكهان يسمعون من الجن وهم يسمعون من الملائكة كما يدل عليه قوله : ( يخطفها الجني ) أي : يسرقها من الملائكة بسرعة . قال النووي : بالجيم والنون في جميع نسخ مسلم في بلادنا ، وروي أيضا بالحاء المهملة والقاف ، وقوله : ( فيقرها ) : بفتح الياء وضم القاف وتشديد الراء ( في أذن وليه قر الدجاجة ) : بفتح القاف والدجاجة بالدال . قال أهل اللغة والغريب : القر ترديدك الكلام في أذن المخاطب حتى يفهمه . تقول قررته أقره قرا ، وقر الدجاجة صوتها إذا قطعته ، يقال : قرت تقر قرا وقريرا ، فإن رددته قلت : قررت قرقرة ، ويروى قر الزجاجة بالزاي ، ويدل عليه ثبوت رواية البخاري فيقرها في أذنه كما تقر القارورة اهـ .

واختار الشيخ التوربشتي هذه الرواية ورد الرواية الأولى وقال : ومن الناس من رواه : قر الزجاجة بالزاي ، وأراها أحفظ الروايتين لما في غير هذه الرواية : قر القارورة ، يقال : قررت على رأسه دلوا من ماء ، أي : صببت ، وقر الحديث في أذنه يقره كأنه صبه فيها ، واستعمال قر الحديث في الأذن شائع مستفيض في كلامهم ، وأما استعماله على الوجه الذي فسروا عليه الحديث ، فإنه غير مشهور ، لم نجد له شاهدا في كلامهم ، وكل ذلك يدل على أن الدجاجة بالدال تصحيف أو غلط من السامع .

قال الطيبي - رحمه الله : لا ارتياب أن قر الدجاجة مفعول مطلق ، وفيه معنى التشبيه ، فكما يصح أن يشبه ترديد ما اختطفه من الكلام في أذن الكاهن بصب الماء في القارورة يصح أن يشبه ترديد كلام الجني في أذن الكاهن بترديد الدجاجة صوتها في أذن صواحبها ، كما تشاهد الديكة إذا وجدت حبة ، أو شيئا تقر وتسمع صواحبها ، فيجتمعن عليها ، وباب التشبيه مما فيه وسع لا يفتقر إلا إلى العلاقة على أن الاختطاف هنا مستعار للكلام من خطف الطير . قال

[ ص: 2904 ] تعالى : فتخطفه الطير ، فتكون الدجاجة أنسب من القارورة لحصول الترشيح في الاستعارة ، ويؤيد ما ذهبت إليه ما ذكر ابن الصلاح في كتابه من أن الأصل قر الدجاجة بالدال فصحف إلى قر الزجاجة اهـ .

واعلم أن الدجاجة في أصل المشكاة بالدال المهملة لا غير ، وهي بفتح أوله ، وفي القاموس : الدجاجة معروف للذكر والأنثى ، وأما الزجاجة فهي بضم الزاي كما لا يخفى إذا علمت ذلك فقوله : فيقرها ، أي : يصب الجني تلك الكلمة بمعنى : يلقيها أو يصوت بها في أذن وليه ، أي : من الكهان . قر الدجاجة أي : مثل صوتها ، وقيل : معنى يقرها يصبها ، وكقر الدجاجة ، أي : كصبها المني في صاحبته بحيث لا يعرف الناس ، فكذا الجني يصبها في أذن وليه بحيث لا يطلع عليه غيره ، وأما ما روي أن الزجاجة بالزاي المعجمة فمعناها : يصب في أذن صاحبه كصب الزجاجة ، أي : كما يصب ماء قارورة في أخرى ( فيخلطون ) : بكسر اللام ، أي : الكهان ، وقال الطيبي ، أي : الأولياء جمع بعد الإفراد نظرا إلى الجنس ( فيها ) أي : في تلك الكلمة ( أكثر من مائة كذبة ) بفتح الكاف وسكون الذال ، وفي نسخة بكسر الكاف ، ففي شرح مسلم : الكذبة بفتح الكاف وكسرها والذال ساكنة فيهما . قال القاضي : وأنكر بعضهم الكسر إلا إذا أرادوا به الحالة والهيئة وليس هذا موضعها .

قلت : هذا موضعها ; لأن المراد أنهم يأتون بمائة نوع من الكذب ، كما يدل عليه قوله : فيخلطون ، وكذا قوله في الحديث الآتي فيكذبون معها مائة كذبة ، فإنه أبلغ من أنهم يكذبون مائة مرة ، لأنه صادق على تكرار كذب واحد مائة مرة . مع أنه لو أريد هذا المعنى لاكتفى بمائة ، أو قيل : مائة كذب ، فالعدول إلى الإتيان بالتاء لا بد له من إفادة زائدة ، هذا وفي القاموس : كذب يكذب كذبا وكذبا وكذبة وكذبة بفتح الكاف وكسر الذال ، وكسر أوله وسكون ثانيه في الأولين ، وفتح الكاف وكسرها مع سكون الذال فيهما . فما ضبط في بعض النسخ من فتح الكاف وكسر الذال مع وجود التاء غير صحيح رواية ودراية ، ويخشى على صاحبه أن يدخل في وعيد من كذب عليه - صلى الله عليه وسلم - ( والله أعلم . ( متفق عليه ) .




الخدمات العلمية