الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                        معلومات الكتاب

                                        إحكام الإحكام شرح عمدة الأحكام

                                        ابن دقيق العيد - محمد بن علي بن وهب بن مطيع

                                        صفحة جزء
                                        [ ص: 488 ] 253 - الحديث الأول : عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما عن رسول الله أنه قال { إذا تبايع الرجلان ، فكل واحد منهما بالخيار ما لم يتفرقا وكانا جميعا ، أو يخير أحدهما الآخر . فتبايعا على ذلك . فقد وجب البيع } .

                                        وما في معناه من حديث حكيم بن حزام وهو :

                                        254 - الحديث الثاني : قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم { البيعان بالخيار ما لم يتفرقا - أو قال : حتى يتفرقا - فإن صدقا وبينا بورك لهما في بيعهما . وإن كتما وكذبا محقت بركة بيعهما } .

                                        التالي السابق


                                        الحديث : يتعلق بمسألة إثبات خيار المجلس في البيع . وهو يدل عليه . وبه قال الشافعي وفقهاء أصحاب الحديث . ونفاه مالك وأبو حنيفة . ووافق [ ص: 489 ] ابن حبيب - من أصحاب مالك من أثبته ، والذين نفوه اختلفوا في وجه العذر عنه . والذي يحضرنا الآن من ذلك وجوه :

                                        أحدها : أنه حديث خالفه راويه . وكل ما كان كذلك : لم يعمل به .

                                        أما الأول : فلأن مالكا رواه ، ولم يقل به . وأما الثاني : فلأن الراوي إذا خالف ، فإما أن يكون مع علمه بالصحة ، فيكون فاسقا ، فلا تقبل روايته . وإما أن يكون لا مع علمه بالصحة . فهو أعلم بعلل ما روى . فيتبع في ذلك .

                                        وأجيب عن ذلك بوجهين :

                                        أحدهما : منع المقدمة .

                                        الثانية : وهو أن الراوي إذا خالف لم يعمل بروايته . وقوله " إذا كان مع علمه بالصحة كان فاسقا " ممنوع لجواز أن يعلم بالصحة ، ويخالف لمعارض راجح عنده . ولا يلزم تقليده فيه . وقوله " إن كان لا مع علمه بالصحة ، وهو أعلم بروايته ، فيتبع في ذلك " ممنوع أيضا ; لأنه إذا ثبت الحديث بعدالة الله وجب العمل به ظاهرا . فلا يترك بمجرد الوهم والاحتمال .

                                        الوجه الثاني : أن هذا الحديث مروي من طرق ، فإن تعذر الاستدلال به من جهة رواية مالك ، لم يتعذر من جهة أخرى . وإنما يكون ذلك عند التفرد على تقدير صحة هذا المأخذ - أعني أن مخالفة الراوي لروايته تقدح في العمل بها - فإنه على هذا التقدير : يتوقف العمل برواية مالك . ولا يلزم من بطلان مأخذ معين بطلان مأخذ الحكم في نفس الأمر .

                                        الوجه الثاني من الاعتذارات : أن هذا خبر واحد فيما تعم به البلوى وخبر الواحد فيما تعم به البلوى غير مقبول . فهذا غير مقبول . أما الأول : فلأن البياعات مما تتكرر مرات لا تحصى . ومثل هذا تعم البلوى بمعرفة حكمه . وأما الثاني : فلأن العادة تقتضي أن ما عمت به البلوى يكون معلوما عند الكافة . فانفراد الواحد به : على خلاف العادة ، فيرد .

                                        وأجيب عنه : بمنع المقدمتين معا . أما الأولى - وهو أن البيع بما تعم به [ ص: 490 ] البلوى - فالبيع كذلك . ولكن الحديث دل على إثبات خيار الفسخ . وليس الفسخ مما تعم به البلوى في البياعات . فإن الظاهر من الإقدام على البيع : الرغبة من كل واحد من المتعاقدين فيما صار إليه . فالحاجة إلى معرفة حكم الفسخ لا تكون عامة .

                                        وأما الثانية : فلأن المعتمد في الرواية على عدالة الراوي وجزمه بالرواية . وقد وجد ذلك . وعدم نقل غيره لا يصلح معارضا ، لجواز عدم سماعه للحكم . فإن الرسول صلى الله عليه وسلم كان يبلغ الأحكام للآحاد والجماعة ، ولا يلزم تبليغ كل حكم لجميع المكلفين . وعلى تقدير السماع : فجائز أن يعرض مانع من النقل ، أعني نقل غير هذا الراوي . فإنما يكون ما ذكر إذا اقتضت العادة أن لا يخفي الشيء عن أهل التواتر ، وليست الأحكام الجزئية من هذا القبيل .

                                        الوجه الثالث من الاعتذارات : هذا حديث مخالف للقياس الجلي والأصول القياسية المقطوع بها . وما كان كذلك لا يعمل به . أما الأول : فنعني بمخالف الأصول القياسية : ما ثبت الحكم في أصله قطعا . وثبت كون الفرع في معنى المنصوص ، لم يخالف إلا فيما يعلم عروه عن مصلحة تصلح أن تكون مقصودة بشرع الحكم . وههنا كذلك . فإن منع الغير من إبطال حق الغير : ثابت بعد التفرق قطعا . وما قبل التفرق في معناه ، لم يفترقا إلا فيما يقطع بتعريه عن المصلحة وأما الثاني : فلأن القاطع مقدم على المظنون لا محالة . وخبر الواحد مظنون . وأجيب عنه : بمنع المقدمتين معا .

                                        أما الأولى : فلا نسلم عدم افتراق الفرع من الأصل إلا فيما لا يعتبر من المصالح . وذلك ; لأن البيع يقع بغتة من غير ترو . وقد يحصل الندم بعد الشروع فيه . فيناسب إثبات الخيار لكل واحد من المتعاقدين ، دفعا لضرر الندم ، فيما لعله يتكرر وقوعه . ولم يمكن إثباته مطلقا فيما بعد التفرق وقبله . فإنه رفع لحكمة العقد والوثوق بالتصرف ، فجعل مجلس العقد حريما لاعتبار هذه المصلحة . وهذا معنى معتبر . لا يستوي فيه ما قبل التفرق مع ما بعده .

                                        وأما الثانية : فلا نسلم أن الحديث المخالف للأصول يرد . فإن الأصل يثبت بالنصوص . والنصوص ثابتة في الفروع المعينة . وغاية ما في الباب : أن يكون [ ص: 491 ] الشرع أخرج بعض الجزئيات عن الكليات لمصلحة تخصها ، أو تعبدا فيجب اتباعه .



                                        الوجه الرابع : من الاعتذارات : هذا حديث معارض لإجماع أهل المدينة وعملهم . وما كان كذلك يقدم عليه العمل . فهذا يقدم عليه العمل . أما الأول : فلأن مالكا قال عقيب روايته " وليس لهذا عندنا حد معلوم . ولا أمر معمول به فيه " وأما الثاني : فلما اختص به أهل المدينة من سكناهم في مهبط الوحي ووفاة الرسول بين أظهرهم ، ومعرفتهم بالناسخ والمنسوخ فمخالفتهم لبعض الأخبار تقتضي علمهم بما أوجب ترك العمل به من ناسخ أو دليل راجح ، ولا تهمة تلحقهم فيتعين اتباعهم . وكان ذلك أرجح من خبر الواحد المخالف لعملهم .

                                        وجوابه من وجهين :

                                        أحدهما : منع المقدمة الأولى . وهو كون المسألة من إجماع أهل المدينة . وبيانه من ثلاثة أوجه : منها : أنا تأملنا لفظ مالك فلم نجده مصرحا بأن المسألة إجماع أهل المدينة . ويعرف ذلك بالنظر في ألفاظه . ومنها : أن هذا الإجماع إما أن يراد به إجماع سابق أو لاحق . والأول باطل ; لأن ابن عمر رأس المفتين في المدينة في وقته . وقد كان يرى إثبات خيار المجلس والثاني : أيضا باطل . فإن ابن أبي ذئب - من أقران مالك ومعاصريه - وقد أغلظ على مالك لما بلغه مخالفته للحديث .

                                        وثانيهما : منع المقدمة الثانية . وهو أن إجماع أهل المدينة وعملهم مقدم على خبر الواحد مطلقا . فإن الحق الذي لا شك فيه : أن عملهم وإجماعهم لا يكون حجة فيما طريقه الاجتهاد والنظر ; لأن الدليل العاصم للأمة من الخطأ في الاجتهاد لا يتناول بعضهم . ولا مستند للعصمة سواه . وكيف يمكن أن يقال : بأن من كان بالمدينة من الصحابة رضوان الله عليهم يقبل خلافه ما دام مقيما بها فإذا خرج عنها لم يقبل خلافه ؟ فإن هذا محال . فإن قبول خلافه باعتبار صفات قائمة به حيث حل .

                                        فتفرض المسألة فيما اختلف فيه أهل المدينة مع بعض من خرج منها من الصحابة ، بعد استقرار الوحي وموت الرسول صلى الله عليه وسلم . فكل ما قيل من ترجيح لأقوال علماء أهل المدينة وما اجتمع لهم من الأوصاف قد كان حاصلا لهذا الصحابي ، ولم يزل عنه بخروجه وقد خرج من المدينة أفضل أهل زمانه في ذلك [ ص: 492 ] الوقت بالإجماع من أهل السنة . وهو علي بن أبي طالب رضي الله عنه . وقال أقوالا بالعراق . فكيف يمكن إهدارها إذا خالفها أهل المدينة ؟ وهو كان رأسهم . وكذلك ابن مسعود رضي الله عنه ومحله من العلم معلوم . وغيرهما قد خرجوا ، وقالوا أقوالا . على أن بعض الناس يقول : إن المسائل المختلف فيها خارج المدينة مختلف فيها بالمدينة وادعي العموم في ذلك .

                                        الوجه الخامس : ورد في بعض الروايات للحديث { ولا يحل له أن يفارقه خشية أن يستقيله } فاستدل بهذه الزيادة على عدم ثبوت خيار المجلس من حيث إنه لولا أن العقد لازم لما احتاج إلى الاستقالة ، ولا طلب الفرار من الاستقالة . وأجيب عنه : بأن المراد بالاستقالة : فسخ البيع بحكم الخيار . وغاية ما في الباب : استعمال المجاز في لفظ الاستقالة " لكن جاز المصير إليه إذا دل الدليل عليه . وقد دل من وجهين :

                                        أحدهما : أنه علق ذلك على التفرق . فإذا حملناه على خيار الفسخ ، صح تعليقه على التفرق ; لأن الخيار يرتفع بالتفرق . وإذا حملناه على الإقالة . فالاستقالة لا تتوقف على التفرق . ولا اختصاص لها بالمجلس .

                                        الثاني : أنا إذا حملناه على خيار الفسخ ، فالتفرق مبطل له قهرا . فيناسب المنع من التفرق المبطل للخيار على صاحبه . أما إذا حملناه على الاستقالة الحقيقية : فمعلوم أنه لا يحرم على الرجل أن يفارق صاحبه خوف الاستقالة . ولا يبقى بعد ذلك إلا النظر فيما دل عليه الحديث من التحريم .

                                        الوجه السادس : تأويل الحديث بحمل المتبايعين " على " المتساومين " لمصير حالهما إلى البيع ، وحمل " الخيار " على " خيار القبول " .

                                        وأجيب عنه : بأن تسمية المتساومين متبايعين مجاز . واعترض على هذا الجواب : بأن تسميتهما " متبايعين " بعد الفراغ من البيع مجاز أيضا . فلم قلتم : إن الحمل على هذا المجاز أولى ؟ فقيل عليه : إنه إذا صدر البيع فقد وجدت الحقيقة . فهذا المجاز أقرب إلى الحقيقة من مجاز لم توجد حقيقته أصلا عند إطلاقه . وهو الحمل على المتساومين .

                                        الوجه السابع : حمل " التفرق " على التفرق بالأقوال . وقد عهد ذلك [ ص: 493 ] شرعا . قال الله تعالى { وإن يتفرقا } أي عن النكاح .

                                        وأجيب عنه : بأنه خلاف الظاهر . فإن السابق إلى الفهم : التفرق عن المكان . وأيضا فقد ورد في بعض الروايات { ما لم يتفرقا عن مكانهما } وذلك صريح في المقصود . وربما اعترض على الأول بأن حقيقة التفرق : لا تختص بالمكان . بل هي عائدة إلى ما كان الاجتماع فيه وإذا كان الاجتماع في الأقوال : كان التفرق فيها . وإن كان في غيرها : كان التفرق عنه .

                                        وأجيب عنه : بأن حمله على غير المكان بقرينة : يكون مجازا .

                                        الوجه الثامن : قال بعضهم : تعذر العمل بظاهر الحديث . فإنه أثبت الخيار لكل واحد من المتبايعين على صاحبه . فالحال لا تخلو : إما أن يتفقا في الاختيار ، أو يختلفا . فإن اتفقا لم يثبت لواحد منهما على صاحبه خيار . وإن اختلفا - بأن اختار أحدهما الفسخ والآخر الإمضاء ، فقد استحال أن يثبت على كل واحد منهما لصاحبه الخيار . إذ الجمع بين الفسخ والإمضاء مستحيل . فيلزم تأويل الحديث . ولا نحتاج إليه . ويكفينا صدكم عن الاستدلال بالظاهر . وأجيب عنه بأن قيل : لم يثبت صلى الله عليه وسلم مطلق الخيار ، بل أثبت الخيار ، وسكت عما فيه الخيار . فنحن نحمله على خيار الفسخ . فيثبت لكل واحد منهما خيار الفسخ على صاحبه . وإن أبى صاحبه ذلك .

                                        الوجه التاسع ادعاء أنه حديث منسوخ : إما لأن علماء المدينة أجمعوا على عدم ثبوت خيار المجلس . وذلك يدل على النسخ . وإما لحديث اختلاف المتبايعين ، فإنه يقتضي الحاجة إلى اليمينين . وذلك يستلزم لزوم العقد . فإنه لو ثبت الخيار لكان كافيا في رفع العقد عند الاختلاف . وهو ضعيف جدا .

                                        أما النسخ لأجل عمل أهل المدينة : فقد تكلمنا عليه . والنسخ لا يثبت بالاحتمال . ومجرد المخالفة لا يلزم منه أن يكون للنسخ ; لجواز أن يكون التقديم [ ص: 494 ] لدليل آخر راجح في ظنهم عند تعارض الأدلة عندهم .

                                        وأما حديث " اختلاف المتبايعين " فالاستدلال به ضعيف جدا ; لأنه مطلق أو عام بالنسبة إلى زمن التفرق وزمن المجلس . فيحمل على ما بعد التفرق ولا حاجة إلى النسخ . والنسخ لا يصار إليه إلا عند الضرورة .

                                        الوجه العاشر : حمل " الخيار " على خيار الشراء ، أو خيار إلحاق الزيادة بالثمن ، أو المثمن . وإذا تردد لم يتعين حمله على ما ذكرتموه .

                                        وأجيب عنه : بأن حمله على خيار الفسخ أولى لوجهين :

                                        أحدهما : أن لفظة " الخيار " قد عهد استعمالها من رسول الله صلى الله عليه وسلم في خيار الفسخ ، كما في حديث حبان بن منقذ { ولك الخيار } فالمراد منه خيار الفسخ . وحديث المصراة { فهو بالخيار ثلاثا } والمراد خيار الفسخ . فيحمل الخيار المذكور ههنا عليه ; لأنه لما كان معهودا من النبي صلى الله عليه وسلم كان أظهر في الإرادة .

                                        الثاني : قيام المانع من إرادة كل واحد من الخيارين . أما خيار الشراء : فلأن المراد من اسم " المتبايعين " المتعاقدان . والمتعاقدان : من صدر منهما العقد وبعد صدور العقد منهما لا يكون لهما خيار الشراء فضلا عن أن يكون لهما ذلك إلى أوان التفرق .

                                        وأما خيار إلحاق الزيادة بالثمن أو بالمثمن : فلا يمكن الحمل عليه عند من يرى ثبوته مطلقا ، أو عدمه مطلقا ; لأن ذلك الخيار : إن لم يكن لهما . فلا يكون لهما إلى أوان التفرق ، وإن كان : فيبقى بعد التفرق عن المجلس فكيفما كان لا يكون ذلك الخيار لهما ثابتا ، مغيا إلى غاية التفرق . والخيار المثبت بالنص ههنا : هو خيار مغيا إلى غاية التفرق . ثم الدليل على أن المراد من الخيار هذا ومن المتبايعين ، ما ذكر : أن مالكا نسب إلى مخالفة الحديث . وذلك لا يصح إلا إذا حمل الخيار " و " المتبايعان " و " الافتراق " على ما ذكر . هكذا قال بعض النظار ، إلا أنه ضعيف . فإن نسبة مالك إلى ذلك ليست من كل الأمة ولا أكثرهم .




                                        الخدمات العلمية