[ ص: 157 ] كتاب التفليس وديون الميت 
وفيه نظران . 
النظر الأول في التفليس  
وهو مشتق من الفلوس التي هي أحط النقود ، كأن الإنسان لم يترك له شيئا يتصرف فيه إلا التافه من ماله ، والمديان من الدين ؛ أي : الطاعة ، دان له إذا طاع ، وفي الحديث : الكيس من دان نفسه   . أي : أذلها ، والدين مذلة ، والدين ما له أجل ، والقرض : ما لا أجل له ، ثم استعمل في الجميع ، قاله صاحب التنبيهات . ويتمهد هذا النظر بتلخيص السبب وأحكامه . 
القسم الأول : السبب . وفي الجواهر : هو التماس الغرماء أو بعضهم الحجر في الديون الحالة الزائدة على قدر مال المديان ، وأصله ما في  مسلم     : أصيب رجل على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في ثمار ابتاعها ، فكثر دينه ، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : تصدقوا عليه  ، فتصدق الناس عليه ، فلم يبلغ ذلك وفاء دينه . فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : خذوا ما وجدتم فليس لكم إلا ذلك ، ولم يزد - صلى الله عليه وسلم - على خلع ماله لهم ، ولم يحبسه ولم يبعه ، ولم يستسعه خلافا  لابن حنبل  في استسعائه ; ولقوله تعالى : " وإن كان ذو عسرة فنظرة إلى ميسرة    " وقال  شريح     : يحبس ، والآية إنما وردت عنده في الربا ، لو كان كذلك لقال تعالى : ذا عسرة - بالنصب - حتى يعود الضمير على المرابي ، وما قرئ إلا بالرفع ، أي : إن وجد ذو   [ ص: 158 ] عسرة ، وإنما قطع الكلام عما قبله حتى لا يختص الكلام بأحد . وعن   عمر بن الخطاب     - رضي الله عنه - : أن رجلا من جهينة  كان يشتري الرواحل فيغلي بها ، ثم يسرع السير فيسبق الحاج ، فأفلس فقام  عمر  فقال : أما بعد ، فإن  الأسيفع  أسيفع  جهينة  رضي من دينه وأمانته أن يقال : سبق الحاج ، وإنه أدان معرضا فأصبح وقد رين به ، فمن كان له عليه دين فليأتنا حتى نقسم ما له بين غرمائه بالغد ، وإياكم والدين ، فإن أوله هم ، وآخره حرب   . 
فوائد عشر : الأولى : أن  الأسيفع  من السفع الذي هو التغير ، ومنه قوله تعالى : " لنسفعا بالناصية    " أي : لنغيرنها بالنار ، فإما أن يكون متغير اللون ، أو سمي بذلك لتغير حاله بالدين مجاز تشبيه . 
الثانية : قوله : رضي من دينه وأمانته إشارة إلى ما كان يعتمده من الرياء وتضييع ماله عليه فيفسد دينه وأمانته بتضييع أموال الناس . 
الثالثة : قوله : أدان معرضا أي أخذ الدين غير عازم على الوفاء  معرضا عنه ، فلذلك كان لا يبالي في مغالاة الرواحل . 
الرابعة : قوله : رين به ، الرين التغطية ، ومنه قوله تعالى : " كلا بل ران على قلوبهم ما كانوا يكسبون    " أي : غطى قلوبهم كسبهم السيئ عن سماع الحق ، وهذا غطاه دينه ، فالهاء في قوله : به . عائدة على الدين أي : غطى الدين ماله . 
الخامسة : أنه يدل على النهي عن التفخم في الدين . 
السادسة : يدل على مشروعية الحجر للإمام  وإشهار أمره . 
السابعة : يدل على قسمة المال بعد الانتظار لقوله : في غد . 
الثامنة : يدل على التسوية بين الغرماء    ; لأنه طلب اجتماعهم . 
التاسعة : يدل على خلع المال لهم . 
 [ ص: 159 ] العاشرة : يدل على أنه لا يزاد لهم على ذلك ; لأنه لو زاد لنقل ولم يظهر مخالف وكان إجماعا . 
قال صاحب المقدمات : من ادان في مباح معتقدا أن ذمته تفي بما ادان به فغلبه الدين حتى توفي    ; فعلى الإمام توفيته من بيت مال المسلمين أو سهم الغارمين من الصدقات كلها إن رأى ذلك على مذهب  مالك  ، ومن رأى أن له جعل الزكاة كلها في صنف واحد أجزأته ، وقيل : لا يفيه من الزكاة ويؤديه من الفيء . 
فرع 
قال : والوصية بالدين  واجبة ، فإن فعل وترك وفاء لا يحبس عن الجنة لأجل الدين ، أو لم يترك وفاء وأداه الإمام ، فإن لم يؤده فالإمام المسئول عن ذلك ، ولا يحبس المدين عن الجنة إذا لم يقدر على أدائه في حياته وأوصى به . والأحاديث الواردة في الحبس دون الجنة بالدين منسوخة بما جعله الله تعالى من قضاء الدين على السلطان ، وكان ذلك قبل أن تفتح الفتوحات . 
فرع 
قال : المعسر لا يحبس ولا يواجر ولا يستخدم  ولا يستعمل كان عبدا مأذونا أو غير مأذون أو حرا ، وقال ( ح ) : له ملازمته ولا يمنعه من الاكتساب ، فإذا رجع إلى بيته إن أذن له في الدخول دخل وإلا فلا ، ليتوصل بذلك للاطلاع على كسبه . وقال   ابن حنبل     : يواجر ; لأن المنافع تجري مجرى الأعيان في العقود . 
وجواب الأول : أن ظاهر قوله تعالى : " فنظرة إلى ميسرة    " يقتضي سقوط المطالبة ، والأصل عدم مشروعية هذا التضييق وعدم سببه . والثاني : الفرق بأنها لا يجب بها الحج ولا الزكاة ولا التكفير ، وافقنا ( ش ) ،   وابن حنبل     . 
 [ ص: 160 ] فرع 
قال : الغرماء ثلاثة    : غني مطله حرام ; لقوله - صلى الله عليه وسلم - مطل الغني  ظلم ، ومعسر وهو أعسر من العدم ، فكل معدم معسر من غير عكس . فالمعسر الذي ليس بمعدم من يضره تعجيل القضاء فتأخيره مندوب  ، ومطله هو وهو مجتهد في الأداء غير حرام ، قاله شيوخ قرطبة  ، وقالوا : لا يلزم بيع عروضه وعقاره في الحال  ، تدل الروايات بخلاف ما أفتى به فقهاء الأندلس  من التوكيل عليه ، وإلزامه تعجيل البيع . والمعسر المعدم يجب إنظاره    . 
فرع 
قال : الغريم محمول على الأداء حتى يتبين عدمه في دين المعاوضة وغيره ; لأن الغالب على الناس الكسب والتحصيل ، ويجري عندي في الدين الذي لم يأخذ له عوضا خلاف من مسألة الغائب عن امرأته ، ثم يطلبه بالنفقة . 
فرع 
قال : من أحاط الدين بما له حرمت هبته وصدقته وعتقه  ، ورد إقراره لمن يتهم عليه ، ويجوز بيعه وشراؤه  حتى يحجر عليه ، وكذلك الإنفاق على امرأته ومن يلزمه الإنفاق عليه ، ويتزوج من ماله ما لم يحجر عليه فيه  ، ولا يصالح عن جناية قصاص مما بيده  ، بخلاف الخطأ والعمد " الذي " ليس فيه قصاص . وتبرعاته  جائزة إن شك في استغراق الدين حتى تعلم إحاطته . وقال ( ش ) : التبرعات نافذة حتى يحجر عليه . 
 [ ص: 161 ] لنا : أنه يضيع على الغرماء المال المتعين لهم فيمتنع ، كالتصرف في الرهن . وفي النوادر عن  مالك     : إذا تصدق وأعتق ثم أنكر الغرماء فعله بعد مدة  ، فإن ثبت أنه حين الصدقة لا وفاء عنده فلهم ذلك ، إلا أن يكونوا علموا بالصدقة ، وإن كان فيها فضل لم يرد الفضل ، ولا يرد العتق وإن طال زمانه ، ووارث الأحرار ، وجازت شهادته لتعلق الحقوق به  ، ولا يسمع إقراره  بإسقاط أمته منه إلا ببينة من النساء أو تفسير ذلك قبل دعواه . 
قال  ابن القاسم     : والمهر المؤجل القريب والبعيد يحيط بماله ، يمنع العتق والتبرع كسائر الديون ، ولو أعتق عبدا فيه فضل عن دينه ثم داين  رد للأولين بقدر الذي لهم ، ويدخل معهم الغرماء الآخرون ، ولا يباع شيء آخر ، قاله  ابن القاسم     . وقال  أشهب     : إذا حاص الآخرون مع الأولين بيع للأولين ثانية بقدر ما نقصهم الآخرون ، ثم يدخل في ذلك الآخرون ، وهكذا حتى يباع العبد كله ، وإحاطة الدين يمنع من تحمل الحمالة كصدقته ، ولا فيما بينه وبين الله . 
فرع 
في الجواهر : لا يكلف الغرماء حجة على عدم غريمهم ، ويقول على أنه لو كان لظهر مع استقاضة الحجر ، ويكفي طلب البعض للحجر وإن كره الآخرون ، وقاله   ابن حنبل  و ( ش ) خلافا ( ح ) . 
فرع 
قال صاحب النكت : قال بعض شيوخنا : إذا قام صاحب الدين الحال دون صاحب المؤجل بطلب التفليس وبيد المطلوب كفاف الحال فلس حتى يكون بيده فضلة عنه ; لأن من حق المؤجل إذا لم يجد فضلة أن يقول : خربت الذمة . قال  التونسي     : يريد بالفضلة ما يمكن المعاملة به ، ويؤدي ما عليه منه . 
قال  اللخمي     : إذا كان ما في يديه كفافا لمن حل دينه ، وله مؤجل مثل المؤجل الذي عليه في العدد والأجل على موسر ، أو يحل دينه قبله أو بعده وهو أكثر عددا ، فإن بيع الآن وفى ، وأجل دينه قبل وهو أقل ويرجى بعد قبضه ، والتجربة أن يوفي ما عليه لم يفلس . 
 [ ص: 162 ] والمعروف من المذهب إذا كان ماله وفاء بجميع دينه ولم يفلس ، وإلا فلس . وفي الموازية : إن كان ما في يديه أكثر من حق من حل فيه لم يفلس ، وليس يحبس ، وإذا ظهر منه إتلاف ، وخشي صاحب المؤجل ألا يجد عند الأجل شيئا فله الحجر عليه ، ويحل دينه إلا أن يضمن له ، أو يجد ثقة يتجر ، ويحال بينه وبينه . 
فرع 
قال   الطرطوشي     : إن كان غائبا وله مال حاضر  فعن  مالك     : يفلس ، رواه  ابن وهب  ومطرف  ، وروى  ابن القاسم     : إن قربت غيبته كتب إليه ، وكشف عن أمره ليظهر ملاؤه من عدمه ، والبعيد الغيبة إن جهل حاله . قال  ابن القاسم     : لا يفلس لعدم تعين الضرر ; لأنه لا يدرى ما حدث عليه ، وقال  أشهب     : يفلس ، وبمذهبنا قال ( ش ) ، وقال ( ح ) : لا يحجر عليه ، فإن حجر عليه لم ينفذ حجره ; لأن الغائب له حجته . 
لنا : أن ضرر الغرماء قد ظهر فيعمل به كسائر الظواهر . وفي النوادر : إذا قال رجل للغائب : عندي هذا المال قضى الحاكم الغرماء منه . قال   سحنون     : مواخذة له بإقراره ، ولو كان حاضرا ما تمكن من رد هذا الإقرار لحق الغرماء فيه . 
فرع 
في الجواهر : قال  مالك     : إذا قام غرماؤه فمكنهم من ماله فباعوه وقسموه ، ثم داين آخرين لا يدخل الأولون معهم  ، وتمكنه كتفليس السلطان ، ولو قاموا فلم يجدوا معه شيئا فتركوه فداينه آخرون ليس هذا بتفليس ، ويتحاص الأولون والآخرون ، بخلاف تفليس السلطان لأنه يبلغ من الكشف ما لا يبلغه الغرماء . قال : ولو علمت بلوغهم كشف السلطان رأيته تفليسا . 
فرع 
قال : قال  ابن القاسم     : إذا قال لك في دينك الحال : أنظرني إلى الصوم . فقلت : أنظرك إلى أن يتهيأ لك ، فإن أشهدت له بذلك لزمك ، وإلا فتحلف ما أردت إلا أن يتهيأ له ما بينه وبين الصوم . قال  أصبغ     : وليس لك قبل الصوم طلب إذا لم يتهيأ   [ ص: 163 ] له بغير موته من بيع عقار ونحوه ، وإنما استنظرك مخافة ذلك ، وإذا حل الصوم أخذته به وحلفت ، وأما التأخير المبهم إلى أن يتهيأ فإلى زمن التهيؤ ، إلا أن يكون ثم بساط في التأخير لزمن معين فلا يتجاوز . 
				
						
						
