[ ص: 520 ] فصل  
وأما أن  الأصل في العادات الالتفات إلى المعاني      ; فلأمور :  
أولها الاستقراء ; فإنا وجدنا الشارع قاصدا لمصالح العباد ، والأحكام العادية تدور [ معه ] حيثما دار ; فترى الشيء الواحد يمنع في حال لا تكون فيه مصلحة ، فإذا كان فيه مصلحة جاز ; كالدرهم بالدرهم إلى أجل ، يمتنع في المبايعة ، ويجوز في القرض ، وبيع الرطب باليابس ، يمتنع حيث يكون مجرد غرر وربا من غير مصلحة ، ويجوز إذا كان فيه مصلحة راجحة ، ولم نجد هذا في باب العبادات مفهوما كما فهمناه في العادات ، وقال تعالى :  ولكم في القصاص حياة يا أولي الألباب      [ البقرة : 179 ] .  
وقال :  ولا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل      [ البقرة : 188 ] .  
وفي الحديث :  لا يقضي القاضي وهو غضبان     .  
وقال :  لا ضرر ولا ضرار     .  
 [ ص: 521 ] وقال :  القاتل لا يرث     .  
 [ ص: 522 ] ونهى عن بيع الغرر     .  
وقال :  كل مسكر حرام     .  
وفي القرآن :  إنما يريد الشيطان أن يوقع بينكم العداوة والبغضاء في الخمر والميسر      [ المائدة : 91 ]      [ ص: 523 ] الآية .  
إلى غير ذلك مما لا يحصى ، وجميعه يشير بل يصرح باعتبار المصالح للعباد ، وأن الإذن دائر معها أينما دارت ، حسبما بينته مسالك العلة ; فدل ذلك على أن العادات مما اعتمد الشارع فيها الالتفات إلى المعاني .  
والثاني : أن الشارع توسع في بيان العلل والحكم في تشريع باب العادات كما تقدم تمثيله ، وأكثر ما علل فيها بالمناسب الذي إذا عرض على العقول تلقته بالقبول ; ففهمنا من ذلك أن الشارع قصد فيها اتباع المعاني ، لا الوقوف مع النصوص ، بخلاف باب العبادات ; فإن المعلوم فيه خلاف ذلك ، وقد توسع في هذا القسم  مالك  رحمه الله ; حتى قال فيه بقاعدة المصالح المرسلة ، وقال فيه بالاستحسان ، ونقل عنه أنه قال : " إنه تسعة أعشار      [ ص: 524 ] العلم " ، حسبما يأتي إن شاء الله .  
والثالث : إن الالتفات إلى المعاني قد كان معلوما في الفترات ، واعتمد عليه العقلاء ; حتى جرت بذلك مصالحهم ، وأعملوا كلياتها على الجملة ; فاطردت لهم ، سواء في ذلك أهل الحكمة الفلسفية وغيرهم ; إلا أنهم قصروا في جملة من التفاصيل ; فجاءت الشريعة لتتم مكارم الأخلاق ; فدل على أن المشروعات في هذا الباب جاءت متممة لجريان التفاصيل في العادات على أصولها المعهودات ، ومن هاهنا أقرت هذه الشريعة جملة من الأحكام التي جرت في الجاهلية ; كالدية ، والقسامة ، والاجتماع يوم العروبة - وهي الجمعة - للوعظ والتذكير ، والقراض ، وكسوة الكعبة ، وأشباه ذلك مما كان عند أهل الجاهلية محمودا ، وما كان من محاسن العوائد ومكارم الأخلاق التي تقبلها العقول ، وهي كثيرة ، وإنما كان عندهم من التعبدات الصحيحة في الإسلام أمور نادرة مأخوذة عن ملة  إبراهيم   عليه السلام .  
 
				 
				
 
						 
						

 
					 
					