ابتدأ سبحانه وتعالى بذكر تقسيمهم إلى أسباط وشعب بني إسرائيل فقال تعالت حكمته: وقطعناهم اثنتي عشرة أسباطا أمما وأوحينا إلى موسى إذ استسقاه قومه أن اضرب بعصاك الحجر فانبجست منه اثنتا عشرة عينا .
قلنا: إنه ليس في القرآن قصة مكررة تكرارا كاملا من غير زيادة، إنما الذي في القرآن يكون التكرار لخبر لم يذكر في القصة في موضع ويذكر في الموضع الآخر، ويقتضي إعادة أجزاء ذكرت ليكون التناسق بين القصة في أصلها وفي أحداثها، وكذلك الأمر في قصة أسباط بني إسرائيل، فلم يذكر تقسيمهم من قبل هذه الآيات في القرآن، وفي هذه ذكر خبر التقسيم وحكمته؛ ذلك أن ، فرقها الله تعالى أقساما ليعنى كل قسم بنفسه، ويندمج من بعد ذلك في المجموع بالتأليف، فإن الجماعات لا تصلح بمجموعها ابتداء، إنما تصلح بأجزائها أولا ثم تنضم الجماعات الصغيرة أو الأجزاء بعضها إلى بعض، وتتآلف صالحة متعاونة على البر والتقوى غير متعاونة على الإثم والعدوان; ولذلك كان في سنة الاجتماع إصلاح المجتمعات الصغيرة في القرية أو أحياء المدينة؛ لتتآلف مع المجتمع الأكبر، كما فعل النبي - صلى الله عليه وسلم - في الأمة الإسلامية التي ابتدأ بها المجتمع في المدينة، وكما قوى الإسلام مجتمع الأسرة؛ ليكون بتآلفه قوة المجتمع الأكبر. بني إسرائيل قطعة جماعية واحدة
قسم الله تعالى بني إسرائيل أسباطا؛ لتتعاون كما يتعاون أقارب القاتل خطأ في دفع الدية.
والأسباط جمع سبط وهو الفرع من فروع بني إسرائيل، وقال بعض الكتاب: إنه بمنزلة القبيلة في العرب، ولكن على أساس التعاون والمناصرة، لا على أساس المعاداة بين القبائل والعصبية، كما هو في جاهلية العرب.
[ ص: 2981 ] وقوله تعالى: وقطعناهم اثنتي عشرة فيه إشارتان بيانيتان:
إحداهما - في التعبير بكلمة (قطعناهم) فإنها تدل على كمال الصلة بينهم، وأنهم كقطعة واحدة، قطعت أجزاؤها وهي متجاذبة يجذب بعضها بعضا لا نفور بينها ولا تنافر، بل تواصل وتراحم بينهم، ولكن ليصلح كل أمره في خيره ويلتقي الجميع على مودة ورحمة.
وثانيتهما - أن قوله: اثنتي عشرة أسباطا أمما عبر بالجمع الدال على تأنيث المعدود مع أن أسباطا ليست جمعا لمؤنث، بل جمع سبط، وهو ولد الولد ولكن قالوا إنه - سبحانه وتعالى - بعد ذلك قال: (أمما) على أنها بدل، أي أن هؤلاء الأسباط أمم فلوحظت كلمة أمم، وهي غاية التقسيم، وهي جمع أمة، وهي مؤنث لفظي.
وذكر - سبحانه وتعالى - التعبير عن الأسباط بالأمم لمعنى التعاون بين كل سبط كأنه أمة مجتمعة متحيزة متعاونة في الخير، ثم من بعد ذلك يكون التعاون بين أمة بني إسرائيل وهي الجماعة الكبرى لهم.
ولقد ذكر سبحانه أحكاما ذكرت من قبل على أنها نعمة في ذاتها، وتذكر الآن على أنها اجتمعت لطلب النعمة، واجتمع بعضها على الكفر بها، فذكر - سبحانه - ما طلبوه، وذكر - سبحانه - ما أكرمهم به؛ رفعا للألم عنهم.
وأول أمر طلبوا -وهم في هذه الصحراء المجدبة – الاستسقاء، أي: طلب الماء لشربهم، فقال تعالى: وأوحينا إلى موسى إذ استسقاه قومه أن اضرب بعصاك الحجر فانبجست منه اثنتا عشرة عينا قد علم كل أناس مشربهم انبجست أي انفجرت، وكلمة انبجست تدل على أن الانفجار كان من حجر لا من تراب سهل، وهو موضع من مواضع الإعجاز; لأن خروج الماء من الأرض السهلة كثير معهود، ولكن خروجه من الحجر هو أمر خارق للعادة، وكانت المعجزة الأخرى أنها انفجرت عيونا على قدر عددهم، وهو اثنتا عشرة عينا، فكان إخبارا بأن كل سبط له عين قائمة بذاتها.
[ ص: 2982 ] وقد قال تعالى: قد علم كل أناس مشربهم معناها أنه علم كل سبط من الأسباط المكان الذي يشرب منه، فلا يتزاحموا على مشرب واحد، فيأخذ كل الماء براحة من غير مشاحة ولا تزاحم.
والنعمة الثانية - أن الله تعالى ظللهم بالغمام؛ ليدفع حر النهار ووهج الشمس، فقال تعالى: وظللنا عليهم الغمام
والنعمة الثالثة - أن الله أطعمهم في وسط هذه الأرض المجدبة التي لا زرع فيها ولا ثمر، فقال: وأنـزلنا عليهم المن والسلوى وقد ذكرنا معناهما في سورة البقرة، وكيف تململوا منها مع طيبها، وجودة غذائها، وأمرهم سبحانه أمر إباحة بأن يأكلوا منها طيبة، فقال تعالى: كلوا من طيبات ما رزقناكم و"من" هنا بيانية، والمعنى: كلوا طيبات ما رزقناكم، والمغزى: وصفها بأنها طيبة كلها، و(من) البيانية دالة على كمال طيبها، وكمال الإنعام بها.
ولكنهم كفروا بالنعمة ولم يقوموا بشكرها، وما ظلموا الله بكفر النعمة ولكن ظلموا أنفسهم بهذا الكفر؛ لأنه انهواء لنفوسهم، وحط من كراماتهم، وتسهيل للذلة عليهم؛ لأن الطاعة عزة، والعصيان ذلة لذوي النفوس المدركة، ولذا قال سبحانه: وما ظلمونا ولكن كانوا أنفسهم يظلمون أي: لم يظلموا إلا أنفسهم، ولذا قدم الجار والمجرور على الفعل، وتأكد ظلمهم لأنفسهم وحدها بـ"كانوا" الدالة على الاستمرار باستمرار عصيانهم، والله تعالى هو العدل الحكيم.