ثم بشر الله بعد ذلك المؤمنين وأنذر الكافرين، فقال تعالت كلماته:
إليه مرجعكم جميعا وعد الله حقا إنه يبدأ الخلق ثم يعيده ليجزي الذين آمنوا وعملوا الصالحات بالقسط والذين كفروا لهم شراب من حميم وعذاب أليم بما كانوا يكفرون
بعد أن بين الله تعالى أنه خالق السماوات والأرض ومن فيهن ذكر سبحانه وتعالى أنه لم يخلقهم عبثا، بل إنه خلقهم ليعمروا الأرض ويقوموا فيها بالأعمال [ ص: 3514 ] الصالحة وأنه سيعيدهم إليه ويجزيهم بالإحسان إحسانا، ومن كفر فله عذاب أليم، وقوله تعالى: إليه مرجعكم جميعا وعد الله حقا قدم الجار والمجرور على المبتدأ مرجعكم لإفادة القصر، أي: إليه وحده المرجع والمآب كما أنه وحده الخالق المنشئ فالمرجع إليه وحده، ثم ذكر إمكان ذلك وتقريب قدرته تعالى على رجعهم إليه وحده فقال: يبدأ الخلق ثم يعيده فهذه الجملة في مقام التعليل لقوله - سبحانه -: إليه مرجعكم وتقريب وقوع ذلك وقدرته سبحانه وتعالى على الإعادة كما بدأ، كما قال تعالى: كما بدأكم تعودون وكقوله: وهو الذي يبدأ الخلق ثم يعيده وهو أهون عليه
وقد بين الله تعالى أن ذلك هو النظام الذي سنه سبحانه وتعالى واختاره لخلقه فقال: وعد الله حقا أي: إن ذلك وعد وعده الله تعالى عندما خلق الإنسان الأول وعاداه إبليس اللعين وأنزله من جنته. وقال سبحانه:
قلنا اهبطوا منها جميعا فإما يأتينكم مني هدى فمن تبع هداي فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون والذين كفروا وكذبوا بآياتنا أولئك أصحاب النار هم فيها خالدون
وقوله تعالى: جميعا ذكرت لبيان عموم من يعيدهم سبحانه، فسيعود إليه البر والفاجر والمطيع والعاصي والمفسد والمصلح، ثم ذكر سبحانه وتعالى غاية ذلك ليجزي الذين آمنوا وعملوا الصالحات بالقسط اللام للتعليل، أي: لتعليل الرجوع إليه والإعادة بعد البدء، وفي التعليل بيان الغاية والمآب ويتحقق وعد الله تعالى الحق الثابت الذي لا يتغير ولا يتبدل، وقد ذكر الإيمان والأعمال الصالحة كشأن بيان الله تعالى عند ذكر الثواب ولم يذكر سبحانه وتعالى الجنة والنعيم المقيم، ولكن ذكر ما يتضمنها وزيادة فقال تعالى: بالقسط أي: الجزاء بالقسط فهو عدل من الله تعالى، وعدله وفضله يوجبان الجنة وما فيها.
والرضوان والسعادة التي يتضمنهما أداء الواجب هو الثواب العدل للمؤمنين الصالحين، فهم شكروا النعمة ولم يكفروها وقابلوا فضل الله بالقيام بالواجب [ ص: 3515 ] واعتدال النفوس، وحالهم هي العدل والقسط، ويقول البيضاوي في تفسيره بالقسط أي: بعدله أو عدالتهم وقيامهم على العدل في أمورهم، ونرى أن هذا كله تشمله كلمة (القسط) وليس ثمة ترديد بين واحد منها.
وبعد أن ذكر سبحانه جزاء الذين آمنوا وعملوا الصالحات ذكر جزاء الذين يكفرون فقال سبحانه: والذين كفروا لهم شراب من حميم وعذاب أليم - ذكر القسط في جزاء الذين آمنوا على أنه مقابلة بين عمل صالح قويم مستقيم وجزاء عدل قويم، وذكر ما يستحقه المنحرفون من غير أن يذكر ما يدل على أنه جزاء، وذلك للدلالة على أن الجزاء مع عدله تفضل من الله، وأن الكافرين حرموا من هذا الفضل ونالهم ما يستحقون، ولبيان أن الرجوع إلى الله تعالى يقترن بالجزاء الذي هو عدل، وأن الناس خلقوا ليقوموا بالإصلاح، وأن الإعادة ليجازوا على هذا الإصلاح، أما المنحرفون المفسدون فإنهم ينالون ما يستحقون بسبب انحرافهم عن الفطرة التي فطر عليها الناس. .
وابتدأ سبحانه بالجملة الاسمية والذين كفروا وذلك فيه أمور ثلاثة مؤكدة لشدة العقاب:
الأولى - الجملة الاسمية المؤكدة للحميم.
الثانية - التعبير بالموصول الذي يعتبر أن الكفر علة الحكم.
الثالثة - اللام في قوله تعالى: لهم شراب فإن اللام تفيد أنه أمر مختص بهم وليس لهم غيره.
والحميم: الحار الشديد الذي يقطع الأمعاء، فيقال: حممت الماء، أي: أحمه فهو حميم أي: محموم، بمعنى مفعول إذا كان حارا حرارة شديدة تزيد عما يطيقه الجسم; ولذا قال الله تعالى:
هذا فليذوقوه حميم وغساق وآخر من شكله أزواج وقال: يطوفون بينها وبين حميم آن [ ص: 3516 ] .
وذكر سبحانه سبب هذا الذي ينالهم فقال: بما كانوا يكفرون جمع هنا بين الماضي والمستقبل، ودل هذا على استمرارهم في الكفر الذي فعلوه أولا ثم استمروا مجددين للكفر آنا بعد آن، وقانا الله تعالى شر الضلال وانحراف العقول.