الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                      صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                                      بعد هذا البيان يتجه إلى تقرير مصير الذين كفروا ، وسنة الله التي لا تتخلف في أخذهم بذنوبهم، وإلى تهديد الذين يكفرون من أهل الكتاب ، ويقفون لهذا الدين، ويلقن الرسول - صلى الله عليه وسلم - أن ينذرهم، ويذكرهم ما رأوه بأعينهم في غزوة بدر من نصر القلة المؤمنة على حشود الكافرين:

                                                                                                                                                                                                                                      إن الذين كفروا لن تغني عنهم أموالهم ولا أولادهم من الله شيئا، وأولئك هم وقود النار كدأب آل فرعون والذين من قبلهم كذبوا بآياتنا، فأخذهم الله بذنوبهم، والله شديد العقاب قل للذين كفروا ستغلبون وتحشرون إلى جهنم وبئس المهاد قد كان لكم آية في فئتين التقتا: فئة تقاتل في سبيل الله وأخرى كافرة، يرونهم مثليهم رأي العين، والله يؤيد بنصره من يشاء، إن في ذلك لعبرة لأولي الأبصار ..

                                                                                                                                                                                                                                      إن هذه الآيات واردة في صدد خطاب بني إسرائيل ، وتهديدهم بمصير الكفار قبلهم وبعدهم. وفيها لفتة لطيفة عميقة الدلالة كذلك.. فهو يذكرهم فيها بمصير آل فرعون .. وكان الله سبحانه قد أهلك آل فرعون وأنجى بني إسرائيل . ولكن هذا لا يمنحهم حقا خاصا إذا هم ضلوا وكفروا، ولا يعصمهم أن يوصموا بالكفر إذا هم انحرفوا، وأن ينالوا جزاء الكافرين في الدنيا والآخرة كما نال آل فرعون الذين أنجاهم الله منهم! كذلك يذكرهم مصارع قريش في بدر - وهم كفار - ليقول لهم: إن سنة الله لا تتخلف. وإنه لا يعصمهم عاصم من أن يحق عليهم ما حق على قريش . فالعلة هي الكفر. وليس لأحد على الله دالة، ولا له شفاعة إلا بالإيمان الصحيح!.

                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 372 ] إن الذين كفروا لن تغني عنهم أموالهم ولا أولادهم من الله شيئا، وأولئك هم وقود النار ..

                                                                                                                                                                                                                                      والأموال والأولاد مظنة حماية ووقاية; ولكنهما لا يغنيان شيئا في ذلك اليوم الذي لا ريب فيه، لأنه لا إخلاف لميعاد الله. وهم فيه: وقود النار .. بهذا التعبير الذي يسلبهم كل خصائص "الإنسان" ومميزاته، ويصورهم في صورة الحطب والخشب وسائر وقود النار .

                                                                                                                                                                                                                                      لا بل إن الأموال والأولاد، ومعهما الجاه والسلطان، لا تغني شيئا في الدنيا:

                                                                                                                                                                                                                                      كدأب آل فرعون والذين من قبلهم كذبوا بآياتنا، فأخذهم الله بذنوبهم، والله شديد العقاب ..

                                                                                                                                                                                                                                      وهو مثل مضى في التاريخ مكرورا، وقصة الله في هذا الكتاب تفصيلا: وهو يمثل سنة الله في المكذبين بآياته ، يجريها حيث يشاء. فلا أمان إذن ولا ضمان لمكذب بآيات الله.

                                                                                                                                                                                                                                      وإذن فالذين كفروا وكذبوا بدعوة محمد - صلى الله عليه وسلم - وآيات الكتاب الذي نزله عليه بالحق، معرضون لهذا المصير في الدنيا والآخرة سواء.. ومن ثم يلقن الرسول - صلى الله عليه وسلم - أن ينذرهم هذا المصير في الدارين، وأن يضرب لهم المثل بيوم بدر القريب، فلعلهم نسوا مثل فرعون والذين من قبله في التكذيب والأخذ الشديد:

                                                                                                                                                                                                                                      قل للذين كفروا: ستغلبون وتحشرون إلى جهنم وبئس المهاد قد كان لكم آية في فئتين التقتا: فئة تقاتل في سبيل الله وأخرى كافرة، يرونهم مثليهم رأي العين. والله يؤيد بنصره من يشاء. إن في ذلك لعبرة لأولي الأبصار ..

                                                                                                                                                                                                                                      وقوله تعالى: يرونهم مثليهم رأي العين يحتمل تفسيرين: فإما أن يكون ضمير "يرون" راجعا إلى الكفار، وضمير "هم" راجعا إلى المسلمين، ويكون المعنى أن الكفار على كثرتهم كانوا يرون المسلمين القليلين "مثليهم". وكان هذا من تدبير الله حيث خيل للمشركين أن المسلمين كثرة وهم قلة، فتزلزلت قلوبهم وأقدامهم.

                                                                                                                                                                                                                                      وإما أن يكون العكس، ويكون المعنى أن المسلمين كانوا يرون المشركين "مثليهم" هم - في حين أن المشركين كانوا ثلاثة أمثالهم - ومع هذا ثبتوا وانتصروا.

                                                                                                                                                                                                                                      والمهم هو رجع النصر إلى تأييد الله وتدبيره .. وفي هذا تخذيل للذين كفروا وتهديد. كما أن فيه تثبيتا للذين آمنوا وتهوينا من شأن أعدائهم فلا يرهبونهم.. وكان الموقف - كما ذكرنا في التمهيد للسورة - يقتضي هذا وذاك.. وكان القرآن يعمل هنا وهناك..

                                                                                                                                                                                                                                      وما يزال القرآن يعمل بحقيقته الكبيرة. وبما يتضمنه من مثل هذه الحقيقة.. إن وعد الله بهزيمة الذين يكفرون ويكذبون وينحرفون عن منهج الله، قائم في كل لحظة. ووعد الله بنصر الفئة المؤمنة - ولو قل عددها - قائم كذلك في كل لحظة. وتوقف النصر على تأييد الله الذي يعطيه من يشاء حقيقة قائمة لم تنسخ، وسنة ماضية لم تتوقف.

                                                                                                                                                                                                                                      وليس على الفئة المؤمنة إلا أن تطمئن إلى هذه الحقيقة; وتثق في ذلك الوعد; وتأخذ للأمر عدته التي في طوقها كاملة; وتصبر حتى يأذن الله; ولا تستعجل ولا تقنط إذا طال عليها الأمد المغيب في علم الله، المدبر بحكمته، المؤجل لموعده الذي يحقق هذه الحكمة.

                                                                                                                                                                                                                                      إن في ذلك لعبرة لأولي الأبصار .. [ ص: 373 ] ولا بد من بصر ينظر وبصيرة تتدبر، لتبرز العبرة، وتعيها القلوب. وإلا فالعبرة تمر في كل لحظة في الليل والنهار!.

                                                                                                                                                                                                                                      وفي مجال التربية للجماعة المسلمة يكشف لها عن البواعث الفطرية الخفية التي من عندها يبدأ الانحراف; إذا لم تضبط باليقظة الدائمة; وإذا لم تتطلع النفس إلى آفاق أعلى; وإذا لم تتعلق بما عند الله وهو خير وأزكى.

                                                                                                                                                                                                                                      إن الاستغراق في شهوات الدنيا، ورغائب النفوس ، ودوافع الميول الفطرية هو الذي يشغل القلب عن التبصر والاعتبار; ويدفع بالناس إلى الغرق في لجة اللذائذ القريبة المحسوسة; ويحجب عنهم ما هو أرفع وأعلى; ويغلظ الحس فيحرمه متعة التطلع إلى ما وراء اللذة القريبة; ومتعة الاهتمامات الكبيرة اللائقة بدور الإنسان العظيم في هذه الأرض; واللائقة كذلك بمخلوق يستخلفه الله في هذا الملك العريض.

                                                                                                                                                                                                                                      ولما كانت هذه الرغائب والدوافع - مع هذا - طبيعية وفطرية، ومكلفة من قبل البارئ - جل وعلا - أن تؤدي للبشرية دورا أساسيا في حفظ الحياة وامتدادها. فإن الإسلام لا يشير بكبتها وقتلها، ولكن إلى ضبطها وتنظيمها، وتخفيف حدتها واندفاعها; وإلى أن يكون الإنسان مالكا لها متصرفا فيها، لا أن تكون مالكة له متصرفة فيه; وإلى تقوية روح التسامي فيه والتطلع إلى ما هو أعلى.

                                                                                                                                                                                                                                      ومن ثم يعرض النص القرآني الذي يتولى هذا التوجيه التربوي.. هذه الرغائب والدوافع، ويعرض إلى جوارها على امتداد البصر ألوانا من لذائذ الحس والنفس في العالم الآخر، ينالها من يضبطون أنفسهم في هذه الحياة الدنيا عن الاستغراق في لذائذها المحببة، ويحتفظون بإنسانيتهم الرفيعة.

                                                                                                                                                                                                                                      التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                      الخدمات العلمية