عطف على جملة فلما ذهبوا به عطف جزء القصة .
[ ص: 236 ] والعشاء : وقت غيبوبة الشفق الباقي من بقايا شعاع الشمس بعد غروبها .
والبكاء : خروج الدموع من العينين عند الحزن والأسف والقهر . وتقدم في قوله - تعالى : فليضحكوا قليلا وليبكوا كثيرا . وقد أطلق هنا على البكاء المصطنع وهو التباكي . وإنما اصطنعوا البكاء تمويها على أبيهم لئلا يظن بهم أنهم اغتالوا يوسف - عليه السلام - ، ولعلهم كانت لهم مقدرة على البكاء مع عدم وجدان موجبه ، وفي الناس عجائب من التمويه والكيد . ومن الناس من تتأثر أعصابهم بتخيل الشيء ومحاكاته فيعتريهم ما يعتري الناس بالحقيقة .
وبعض المتظلمين بالباطل يفعلون ذلك ، وفطنة الحاكم لا تنخدع لمثل هذه الحيل ولا تنوط بها حكما ، وإنما يناط الحكم بالبينة .
جاءت امرأة إلى شريح تخاصم في شيء وكانت مبطلة فجعلت تبكي ، وأظهر شريح عدم الاطمئنان لدعواها ، فقيل له : أما تراها تبكي ؟ فقال : قد جاء إخوة يوسف - عليه السلام - أباهم عشاء يبكون وهم ظلمة كذبة . لا ينبغي لأحد أن يقضي إلا بالحق . قال ابن العربي : قال علماؤنا : هذا يدل على أن بكاء المرء لا يدل على صدق مقاله لاحتمال أن يكون تصنعا . ومن الخلق من لا يقدر على ذلك ومنهم من يقدر .
قلت : ومن الأمثال ( دموع الفاجر بيديه ) وهذه عبرة في هذه العبرة .
والاستباق : افتعال من السبق وهو هنا بمعنى التسابق قال في الكشاف : والافتعال والتفاعل يشتركان كالانتضال والتناضل ، والارتماء والترامي ، أي فهو بمعنى المفاعلة . ولذلك يقال : السباق أيضا . كما يقال النضال والرماء .
والمراد : الاستباق بالجري على الأرجل ، وذلك من مرح الشباب ولعبهم .
والمتاع : ما يتمتع أي ينتفع به . وتقدم في قوله - تعالى : لو تغفلون عن أسلحتكم وأمتعتكم في سورة النساء . والمراد به هنا ثقلهم من الثياب والآنية والزاد .
[ ص: 237 ] ومعنى فأكله الذئب قتله وأكل منه ، وفعل الأكل يتعلق باسم الشيء . والمراد بعضه . يقال : أكله الأسد إذا أكل منه . قال - تعالى : وما أكل السبع عطفا على المنهيات عن أن يؤكل منها ، أي بقتلها .
ومن كلام عمر حين طعنه أبو لؤلؤة " أكلني الكلب " ، أي عضني .
والمراد بالذئب جمع من الذئاب على ما عرفت آنفا عند قوله : وأخاف أن يأكله الذئب ؛ بحيث لم يترك الذئاب منه ، ولذلك لم يقولوا فدفناه .
وقوله : وما أنت بمؤمن لنا خبر مستعمل في لازم الفائدة . وهو أن المتكلم علم بمضمون الخبر . وهو تعريض بأنهم صادقون فيما ادعوه لأنهم يعلمون أباهم لا يصدقهم فيه ، فلم يكونوا طامعين بتصديقه إياهم .
وفعل الإيمان يعدى باللام إلى المصدق بفتح الدال كقوله - تعالى : فآمن له لوط . وتقدم بيانه عند قوله - تعالى : فما آمن لموسى إلا ذرية من قومه في سورة يونس .
وجملة ولو كنا صادقين في موضع الحال فالواو واو الحال . ( ولو ) اتصالية ، وهي تفيد أن مضمون ما بعدها هو أبعد الأحوال عن تحقق مضمون ما قبلها في ذلك الحال . والتقدير : وما أنت بمؤمن لنا ولو كنا صادقين في نفس الأمر ، أي نحن نعلم انتفاء إيمانك لنا في الحالين فلا نطمع أن نموه عليك .
وليس يلزم تقدير شرط محذوف هو ضد الشرط المنطوق به لأن ذلك تقدير لمجرد التنبيه على جعل الواو للحال مع " لو وإن " الوصليتين وليس يستقيم ذلك التقدير في كل موضع ، ألا ترى قول : المعري
وإني وإن كنت الأخير زمانه لآت بما لم تستطعه الأوائل
كيف لا يستقيم تقدير إني إن كنت المتقدم زمانه بل وإن كنت الأخير زمانه ، فشرط ( لو ) الوصلية و ( إن ) الوصلية ليس لهما مفهوم مخالفة; [ ص: 238 ] لأن الشرط معهما ليس للتقييد . وتقدم ذكر ( لو ) الوصلية عند قوله - تعالى : أولو كان آباؤهم لا يعقلون شيئا ولا يهتدون في سورة البقرة ، وعند قوله - تعالى : فلن يقبل من أحدهم ملء الأرض ذهبا في سورة آل عمران .
وجملة وجاءوا على قميصه في موضع الحال . ولما كان الدم ملطخا به القميص وكانوا قد جاءوا مصاحبين للقميص فقد جاءوا بالدم على القميص .
ووصف الدم بالكذب وصف بالمصدر ، والمصدر هنا بمعنى المفعول كالخلق بمعنى المخلوق ، أي مكذوب كونه دم يوسف - عليه السلام - إذ هو دم جدي ، فهو دم حقا لكنه ليس الدم المزعوم . ولا شك في أنهم لم يتركوا كيفية من كيفيات تمويه الدم وحالة القميص بحال قميص من يأكله الذئب من آثار تخريق وتمزيق مما لا تخلو عنه حالة افتراس الذئب ، وأنهم أفطن من أن يفوتهم ذلك وهم عصبة لا يعزب عن مجموعهم مثل ذلك . فما قاله بعض أصحاب التفسير من أن يعقوب - عليه السلام - قال لأبنائه : ما رأيت كاليوم ذئبا أحلم من هذا ، أكل ابني ولم يمزق قميصه ، فذلك من تظرفات القصص .
وقوله : على قميصه حال من ( دم ) فقدم على صاحب الحال .